الرائدة التشكيلية العراقية نزيهة سليم رحلت بعد أن ضاعت لوحاتها

لم يتبق من نتاجها الغزير سوى 6 أعمال

نزيهة سليم
TT

ودّعت بغداد الفنانة التشكيلية العراقية نزيهة سليم عن 81 عاما، بعد وحشة وكآبة عاشتها في سنواتها العشر الاخيرة. ووفاة هذه الفنانة بمثابة طي لصفحة مشرقة من سيرة رواد الأمل في الحياة العراقية المعاصرة. وعزاؤنا في ما راكمته من حضور في التجمعات الفنية مثل «جماعة بغداد للفن الحديث» أو من تأسيسها لكيانات فنية مثل «جمعية الفنون البصرية المعاصرة» اضافة الى دورها التربوي كأستاذة لتدريس الفن في «معهد الفنون الجميلة» ثم لاحقا في «أكاديمية الفنون الجميلة» ما جعلها اسماً متفرداً في فضاء حركة الفن الحديث في العراق.

ولدت عام 1927 في حاضنة للفن، فوالدها محمد سليم عمل في الجيش العثماني واستطاع اثناء وجوده في اسطنبول الاطلاع على الفنون هناك وتنمية معارفه وثقافته، وهو من أوائل الذين ساهموا في بناء الحركة الفنية التشكيلية العراقية. والفنانة هي أخت سعاد وجواد ونزار سليم الذين أسسوا مع آخرين مدرسة بغداد للفن الحديث. تأثرت بأخيها جواد وبرسمه وتناوله للمواضيع التي استمدها من الحياة اليومية ومن الموروث والرموز الاسلامية، إلا انها بلورت ملامح خاصة لأسلوبها هي اقرب الى الواقعية ان من حيث الشكل او المعالجة اللونية واستلهام الموضوع. ولعل طبيعة تركيبة عائلتها اتاحت لها  مساحة من الاستقلالية ساعدتها مبكراً على الارتقاء بفنها الى مصاف رفيعة. وعبرت الفنانة بتمثلها لحريتها آنذاك عن ملامح توق المرأة العراقية للتحرر حيث كانت من طلائع الفنانات اللواتي ساهمن في الحركة التشكيلية التي بدأت تزهر في بداية الاربعينات والخمسينات. لكن ظلت تجربة نزيهة سليم الفنية متأثرة بظلال ضاغطة لفن جواد سليم حتى ان اسمها كثيراً ما كان يقترن باسم اخيها، وتعقد المقاربات بينهما بما يثير الالتباس والشك بفرادتها الابداعية.

في مطلع الأربعينات انتدبت في بعثة دراسية الى فرنسا، وكانت أول امرأة عراقية تسافر إلى أوروبا لدراسة الفن، وتتلمذت في «البوزار» على الفنان البارز فرنارد ليجيه، وتأثرت به وحاولت محاكاة أسلوبه. وعادت الى بغداد في الخمسينات لتدرّس في أكاديمية الفنون الجميلة. يمكن القول ان الفنانة نشأت إبان ازدهار النهضة الفنية الحديثة في العراق حيث تشكلت الجماعات الفنية التي نهل مؤسسوها من معين التجارب والاساليب الناشطة في اوروبا اضافة الى جملة التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي وفرت الشروط الملائمة لظهور حركة تشكيلية ناشطة.

تميزت أعمال نزيهة سليم بطابع خاص، فهي من اوئل من رسم من موديل حي، وشكلت المرأة العراقية لديها بتفاصيلها اليومية والمنزلية وتكويناتها المختلفة هاجساً وموضوعاً اساسياً حيث رسمتها في مناسباتها الاحتفالية والاجتماعية. كما رسمت الفلاحات وبائعات اللبن والعاملات، متماهية مع الشرط الاجتماعي والزماني ومحافظة عليه وبأسلوب فيه الكثير من التلقائية والارتجال والتبسيط. وقد تكون بذلك مستفيدة من طريقة رسم الاطفال، وربما كان لدراستها التخصصية برسوم كتب ومسرح الاطفال في المانيا الدور المؤثر في معالجتها للوحة بطابع الليونة في الخط والتبسيط في المفردات. استوحت التراث واستلهمت مفردات فنها من إرث وادي الرافدين، وكانت مهتمة بالاضافة الى الجانب الاجتماعي من الحياة العراقية برسم المدينة كما القرية بمعالمها وتفاصيلها وبنيانها الهندسي. وبقيت نزيهة سليم وفية بمعنى ما، لمبادئ جماعة بغداد للفن الحديث التي امتازت إضافة الى انجازاتها الفنية بالاجتهاد التنظيري والبيانات والدراسات. ونقرأ في بيان الجماعة الثاني الذي كتب نصه المختزل عن البيان الاول الراحل جبرا ابراهيم جبرا «تتألف جماعة بغداد للفن الحديث من رسامين ونحاتين، لكل اسلوبه المعين، ولكنهم يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الاسلوب. فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد يحدده إدراكهم وملاحظتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد. انهم لا يغفلون عن ارتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق أشكال تضفي على الفن العراقي طابعاً خاصاً وشخصية مميزة».

واكبت الفنانة التحولات العالمية التي طرأت على الفن وتابعت المستجدات وتأثرت بها، ومازجت بين الأساليب الاوروبية وما كان سائداً على الساحة العراقية، لتشكل بالتالي تصورها وأفكارها الخاصة التي عبرت عنها بأسلوب تراوح بين الواقعي والتجريدي. شاركت في الكثير من المعارض داخل العراق وخارجه. ومن سوء حظ الفن ومحبيه ان تراث هذه الفنانة الغزير على مدى عمرها الفني المديد، تعرض بعد الاحداث المؤلمة الاخيرة التي عصفت بالعراق للسرقة والتلف والضياع والتخريب، حتى قبل ان يدقق ويوثق كاملا، وما بقي منه اليوم، كما تأتي به الاخبار لا يتجاوز الست لوحات.