رجاء النقاش.. الحب طريق المعرفة

اعتبر الأدب والصحافة وجهين لعملة واحدة

رجاء النقاش
TT

عاش رجاء النقاش، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، عن أربعة وسبعين عاماً، حياته شغوفا بحبين: الأدب والصحافة في الوقت نفسه، وكان يرى أن كليهما وجهان لعملة واحدة، بل هما في أقصى درجات التوتر والقلق صراعان من أجل حرية واحدة، هي حرية الإنسان والوطن. بهذه المحبة المزدوجة والغامرة أدار النقاش مشروعه الأدبي، فأصبحت الصحافة نافذته المهمة والمؤثرة في التعريف بالأدب الجديد، وما يتطلبه من ذائقة أدبية وجمالية حديثة، تقف من هذا الأدب موقف المحب المثابر أمام تحولاته وطرائقه التعبيرية المغايرة، وكذلك ما يطرحه من رؤى وأفكار، تتسم بالجرأة وروح المغامرة والتجريب.

، وترفع شعار القطيعة المعرفية مع المنجز الأدبي السابق عليها.

أعلن النقاش هذه المحبة حين صدَّر كتابة اللافت عام 1965 «أبو القاسم الشابي شاعر الحب والثورة» بمقولة لأديب روسيا الشهير أنطوان تشيكوف يقول فيها «إن كان في وسعك أن تحب، ففي وسعك أن تفعل أي شيء». ومن ثم كان ديدنه في جميع مؤلفاته، وإخلاصه للثقافة العربية ينطلق من أن البحث عن المعرفة، هو نفسه البحث عن الحب. وربما لذلك أيضا حرص رجاء النقاش على أن يجعل قلمه يتحرك دائما في فضاء حر، بعيدا عن التعقيدات المذهبية والعقائدية والحزبية، فلم ينتم لحزب سياسي معين ولا لجماعة أدبية بعينها. وكان يرى وحدة الثقافة العربية في مقدرتها على التنوع والتخطي لفواصل الجغرافيا وتعقيدات الايديولوجيا والتاريخ. وفي الوقت نفسه، مقدرتها على التفاعل الخلاق مع شتى تراثات وثقافات العالم من منطلق الندية والتكافؤ، والبحث عن المشترك الإنساني النبيل، وليس من منطلق التبعية والاستلاب للآخر. وبرغم تحيز النقاش وحماسه لتيارات الكتابة الجديدة، إلا أنه استطاع بسعة صدره وأفقه الأدبي وحسه القومي المستنير أن يكون حلقة وصل مهمة بين موجات مختلفة من الكتاب والشعراء والفنانين، فكان محبوبا من الجميع وصديقا لهم، يخفف عنهم الكثير من مكابدات الواقع والحياة.

تحت مظلة هذا الحب رسم رجاء النقاش بورتريهات أدبية شيقة لشخصيات لعبت أدوارا درامية مؤثرة في التاريخ، وكان حظ المرأة في هذه البورتريهات وافرا. فكتب عن «نساء شكسبير» باعتبارهن نماذج بشرية تطوحن بين شهوة الرغبة في التملك، وشهوة الحب، كما حمل أحدث كتاب صدر له الصادر في سلسلة «كتاب اليوم» عنوان «ملكة تبحث عن عريس». كشف فيه النقاش عن الشروط الغريبة التي وضعتها حكومة انجلترا لزواج الملكة «فيكتوريا»، وكان أصعبها وأغربها «أن يكون العريس صالحا لاقتباس العادات والتقاليد الانجليزية، وأن يكون صحيح الجسم، سليم التكوين، متحدرا من أصل أصيل». وغيرها من الشروط التي يعلق النقاش عليها، بأنه لولا الحب وتمسك الملكة فيكتوريا به لما تزوجت ابن خالها الأمير «ألبرت» سنة 1840، وبدافع من هذا الحب رفضت أن تتزوج غيره برغم أنه توفي وهي في الثانية والأربعين.

وبدافع من هذا الحب ناوش النقاش سيدة الغناء العربي أم كلثوم، في كتاب شهير له باسم «لغز أم كلثوم». ولم يكتف فيه بتحليل معجزتها الغنائية، وإنما ضفر بفصول مهمة من سيرتها الذاتية في ثنايا ما طرحه من رؤى وأفكار، حول عالم أم كلثوم الإنساني البسيط، وكيف تحول إلى أسطورة شعبية فيما ينسج حوله من قصص ووقائع وحكايات.

ولعل من أجلى وأجمل صور هذا الحب العلاقة الوطيدة الحميمة التي جمعت بين رجاء النقاش، ورائد الرواية العربية نجيب محفوظ، والذي توجها رجاء في كتابه القيم «في حب نجيب محفوظ». وفيه قدم للقارئ مقترحات نقدية ومعرفية بسيطة وخصبة لفهم عالم محفوظ الروائي، وما يزخر به من دلالات ورموز، تعكس تحولات الواقع المصري اجتماعيا وسياسيا وتاريخيا.

لقد امتثل النقاش لفكرة الحب، من منطلق أنه الطاقة الكامنة في الإنسان، التي تؤجج فيه الرغبة في التكامل والتحرر من عثرات الحلم ومبررات الوجود. وفي خبرة الحب لديه تضافرت خبرة الحياة، والوعي بأن يكون لك دور وموقف نابع أولا وأخيرا من ذاتك ورؤيتك للواقع والعالم من حولك.

ولم تكن خبرة الحياة لدى النقاش خبرة هشة، أو عابرة، وإنما كانت خبرة عميقة وواسعة، متينة الجذور بإرث ثقافي متنوع وممتد في الزمان والمكان، تشرّبه رجاء النقاش، وهو في سن صغيرة، وأصقله بحفظ القرآن الكريم، وتذوقه، وتأمل جمال التصوير الفني في معانيه وآياته، ساعده على ذلك والده عبد المؤمن النقاش وجده الذي كان مقرئ القرية وصاحب صوت عذب جميل. ثم تعمقت هذه الخبرة الثقافية بدراسته للغة العربية وآدابها في كلية الآداب جامعة القاهرة في عصر كان من بين أساتذته أعلام الأدب العربي من أمثال طه حسين، وأحمد أمين، وعبد العزيز الأهواني.

دفعت هذه الخبرة النقاش إلى أن ينظر دائما إلى ما هو أبعد في مرآة الحياة، وتحمل ما قد ينجم عن ذلك من مشاق وصعوبات، ومسؤولية العيش في ظروف خشنة اجتماعيا. وكما تروي أخته الكاتبة الصحافية فريدة النقاش رئيسة تحرير صحيفة «الأهالي» لسان حزب التجمع اليساري: «كان رجاء صاحب فكرة نزوحنا من القرية إلى القاهرة، وقد تحمل عبء الأسرة بعد وفاة والدي، فكان يذهب يوميا سيرا على الأقدام من البيت إلى الجامعة، ليوفر ثمن المواصلات». أيضا في تلك الفترة عمل رجاء النقاش مراجعا لغويا بصحيفة الجمهورية، وكان يراجع كل المواد التي تنشر بها في مقابل عشرة جنيهات شهريا، كان في اشد الحاجة إليها، ليكمل تعليمه الجامعي، ويكفي مؤونة الأسرة آنذاك.

هذا الإحساس المبكر بتحمل المسؤولية ومواجهة تبعات الحياة، كان إحدى الركائز الأساسية التي استند إليها النقاش في مشروعه النقدي، وقد تجلى هذا ـ على نحو خاص ـ في معاركه الأدبية التي خاضها بشرف ونبل، ونزاهة الرؤية والموقف. ومن أبرز هذه المعارك دعوته إلى تيسير النحو العربي وتخليصه من بعض القواعد الصارمة، والصيغ والأساليب الجامدة التي لم تعد تلائم تطور الحياة، وخبرة البشر باللغة العربية وجمالياتها الوافرة. ودعوته أيضاً إلى كتابة المصحف بخط عصري، بدلا من الخط القديم الذي يقف حجر عثرة أمام تذوق الأجيال الجديدة للقرآن، ويجدون في قراءته عناء شديدا، قد يصرفهم عن التواصل معه.

لقد سيطرت فكرة التجديد والاستنارة على معظم كتابات رجاء النقاش، وكان حصيفا في اختبار هذه الفكرة ومساءلتها نقديا، وفق شروط واقعنا العربي في كل أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية. فحين أضاء عالم الشاعر محمود درويش في كتابه الباكر المؤسس «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة» عام 1969.

كان حذرا في استخدام مصطلح «شعر المقاومة» وقال ما نصه «هناك حركة شعرية ناضجة ورائعة في الأراضي المحتلة، وأن الحكم بنضجها وروعتها من الناحية الفنية والفكرية ليس ناجما عن تعاطفنا السياسي أو النضالي مع هذه الحركة، بسبب ما يعانيه أصحابها من الشعراء في ظروف حياتهم الصعبة داخل إسرائيل». وكأن النقاش كان يستشرف هنا وبحس نقدي ثاقب الجدل الذي أثاره أدونيس بعد عدة سنوات وبخاصة في كتابه «زمن الشعر» ودحضه لفكرة شعر المقاومة إن لم يرتبط أساسا بفكرة تثوير اللغة والتمرد على فضاء النص الشعري التقليدي شكلا ومضمونا معا.

انحاز رجاء النقاش في مشروعه النقدي إلى ثقافة الشعب في مقابل ثقافة النخبة، وكان يرى أن التجديد مهما بلغ من مغامرة التجريب ينبغي أن يستمد طاقته وأنساق جدته من ينابيع وجذور هذه الثقافة بخاصة في فضائها المهمش والمسكوت عنه، وأنه بدون ذلك سيفقد الجديد مبرره الفني، وشرطه الموضوعي، ويصبح مجرد خبط عشواء في فضاء أملس خاليا من نبض الواقع وأشواقه في العدل والحرية والحب والجمال. هذا الموقف حرص عليه النقاش في كل كتاباته النقدية وما تولاه من مسؤوليات ثقافية، وقد تجلى هذا في أسلوبه الأدبي الذي كان ينتقي عباراته وأفكاره بعناية فائقة لتنحو منحى الباسطة والتلقائية، بعيدا عن النظرة الأكاديمية الجافة التي تحول النص الأدبي ـ في الغالب الأعم ـ إلى عجينة هيكلية معقدة في مختبر نقدي يتحاش أحكام القيمة تحت وطأة النظرية وما تفرزه من مصطلحات أدبية عقيمة. ولكم كانت دهشتنا بالغة حين وصف رجاء النقاش بهذا الحس النقدي في سبعينيات القرن الماضي قصائد الشاعر أمجد ريان وكان غزير الإنتاج يوميا بشكل تراكمي. كتب رجاء النقاش في مقال شهير بمجلة المصور قائلا «شعر أمجد ريان يذكرك بماسورة مجار انفجرت فجأة في الشارع». وبرغم ما في هذا الحكم من قسوة، إلا أنه كان يضمر محبة لهذا الشاعر الذي كان يمتلك موهبة شعرية فذة آنذاك. ويخشى عليه من الترهل والتكرار، وهو ما ألت إليه تجربة أمجد ريان الشعرية، حيث ضاع زخمها في غبار الحياة.

وقد يتساءل البعض: لماذا لم تطأ أقدام رجاء النقاش المعتقل، مثل معظم رفاق جيله برغم تقلده العديد من المناصب الصحافية والأدبية الرسمية، وبرغم جرأته أحيانا في خوض معاركه الأدبية، وما تحمله من صدام واضح مع السلطة ومؤسساتها الدينية والثقافية. لعل النقاش هنا يشبه إلى حد كبير أستاذه نجيب محفوظ، فكلاهما حرص على عدم معاداة السلطة بمواقف مجانية وصداميه لا طائل من ورائها، وإنما بالمقدرة على الاحتفاظ دوما بمسافة رخوة بينك وبينها، تسمح لك بانتقادها من موقع المجادل وصاحب الحق الأصيل، وليس من موقع التابع والظل الذي تدجنه وتشكله حسبما تقضي مصالحها.

من منظور هذه المسافة سجل رجاء النقاش موقفه الرائع من أزمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر التي أحدثت ضجة سياسية أطاحت قيادات ثقافية بارزة إبان نشرها في القاهرة في عام 200 عن هيئة قصور الثقافة. لقد حرص النقاش على أن يدخل المعركة من بابها الحقيقي نافضا عن كاهله غبار هذه الضجة، وما كشفت عنه من تباينات مخزية في بعض مواقف المثقفين، مشيرا إلى أنه خارج هذا السياق لا يمكن محاكمة الأدب أو مصادرته باسم ذرائع ومبررات لا سند لها من الحقيقة الأدبية، التي تتأسس وتنهض على شرط حرية النص الأدبي أولا وأخيرا.

هكذا كان رجاء النقاش أحد الحراس الأوفياء والصناع المخلصين للثقافة العربية في شمولها الإنساني، ومنجزها الفكر الأصيل.