هل ماتت مقاطعة العرب الثقافية لإسرائيل؟

القاهرة: إيهاب الحضري

TT

اجتماع مثقفَين اثنين، أحدهما عربي والآخر إسرائيلي في مكان واحد، ولو لم يتبادلا الحديث، كان يعتبر بحد ذاته فعل خيانة. في الأشهر الأخيرة، تبدّل الوضع وبسرعة، بعد أن نجحت إسرائيل في غزو معظم الفعاليات الأدبية والفنية لهذا العام في أوروبا، لتحتفل بستين عاماً على تأسيسها. قرر الكثيرون مقاطعة هذه الفعاليات، لكن ظهرت أصوات لا يستهان بها، تؤكد أن الانسحاب موقف طفولي وأن المواجهة تخدم قضايانا أكثر. فهل بدّل المثقفون العرب استراتيجياتهم، أم أن الأمر الواقع غلب عزيمتهم؟! هل ماتت الممانعة أم أنها تتقمص أشكالاً جديدة؟

* مثقفون مصريون يطالبون بمواجهة الإسرائيليين بدلا من الانسحاب

* بعد أن غزت احتفاليات الذكرى الستين لتأسيس الدولة العبرية أوروبا

* كانت صحيفة فرنسية قد ذكرت أن الروائي علاء الأسواني سوف يشارك في معرض باريس للكتاب، وهو ما رأى فيه البعض تناقضاً مع مواقفه السابقة. الأسواني وبينما كان في طريقه إلى المطار مغادراً النمسا بعد تسلمه جائزة برونو كرايسكي، أكد انه حرص على الحديث اثناء احتفال تسلمه الجائزة عن الجرائم التي ترتكب ضد الأطفال في فلسطين، وأشار إلى أنه سيتوجه إلى العاصمة الفرنسية بالفعل، لكنه أسرع بتوضيح الأمر: «عرفت أن إسرائيل ستكون ضيف شرف المعرض قبل ستة أشهر، من ناشري الفرنسي وقبل أن يعرف معظم المثقفين المصريين. كانت دار نشر «آكت سود» تنظم لي حفل توقيع للطبعة الفرنسية من رواية «شيكاغو»، وموعد الحفل يتزامن مع موعد المعرض. قلت لهم وقتها بحسم إنني لن أشارك في المعرض أو أي من فعالياته كما أن حفل التوقيع لن يكون له أي علاقة بالموقع الذي يقام فيه معرض الكتاب».

الأمر ليس مرتبطاً بالمعرض فقط، فهناك فعاليات أوروبية عديدة يتكرر فيها الوضع نفسه، وهو ما يفرض ظهور رؤية مغايرة. فهناك من بات يرى أن المواجهة أفضل من الانسحاب والمقاطعة. يعلق الأسواني على كلامنا قائلا: «أحترم وجهة النظر هذه، لكنني مقتنع بوجهة نظري. وقد قلت لوكالة الأنباء الفرنسية إن ما حدث خطأ فادح من فرنسا، لأن إسرائيل دولة ترتكب جرائم ضد الإنسانية ولا يجوز أن تكون ضيف شرف في أي مكان فما بالك بفرنسا. قلت لهم: هذه ليست فرنسا التي أعرفها. عموما أنا أحترم وجهة نظر المثقفين المطالبين بالمشاركة في مثل هذه الفعاليات، وليس ضروريا أن نتصرف جميعنا بنفس الأسلوب ما دام الهدف واحدا».

على عكس ما حدث مع الأسواني لم يكن المخرج الشاب سعد هنداوي يعلم بما هو ماض تجاهه. فقد وصل إلى بلجيكا للمشاركة في مهرجان مونس السينمائي لأفلام الحب. فوجئ بعد وصوله إلى الفندق، وتصفحه لكتالوج المهرجان بأن فيه قسماً بعنوان صورة إسرائيل في السينما المعاصرة. لم يحتج وقتا طويلاً ليقرر أن ينسحب بفيلمه «ألوان السما السابعة» الذي تلعب بطولته الفنانة ليلى علوي. أصر هنداوي على موقفه رغم محاولات المسؤولين عن المهرجان لثنيه عن قراره. طرحنا عليه السؤال: هناك من يؤكدون أن المواجهة أفضل من الانسحاب في هذه الحالات، فأجاب بسرعة: «انا مؤيد لبديل المشاركة مائة بالمائة لأنه نوع من المواجهة. لكن يتوقف الأمر عن اي مشاركة نتحدث؟ عندما يكون هناك فيلم اسرائيلي فى أي مهرجان لا أنسحب. فالسينما الاسرائيلية موجودة في معظم المهرجانات لأنها بالنسبة لهم أساسية، المهرجانات الغربية تدعمها باستمرار. في العام الماضي مثلاً، كنت عضواً فى لجنة تحكيم مهرجان فرنسي مهم للأفلام القصيرة، وكانت اسرائيل مشاركة ولم أفكر في الانسحاب. لكن ما حدث معي هذه المرة مختلف. فقد فوجئت أن المهرجان يحتفي بمرور ستين عاماً على إنشاء إسرائيل، أي أنني مطالب بالاحتفال بمجازر 48 التى ما تزال مستمرة حتى اليوم». لكن هناك وجهة نظر لدى بعض المثقفين تقول ان المشاركة والمواجهة أفضل حتى لو كانت في فعالية تحتفي بذكرى تأسيس إسرائيل؟ يعقب الهنداوي: «أختلف مع هذه الرؤية، وأؤيد مقاطعة فعالية تحتفي بتأسيس دولة عنصرية مستمرة في مذابحها ضد الأبرياء».

في عبارات مختصرة يختزل ابراهيم عبد المجيد وجهة نظره التي تتفق مع وجهة نظر هنداوى، فيؤكد أن 80% من المؤتمرات العالمية يشارك بها اسرائيليون ولا احد يستطيع أن يمنع ذلك، «في معرض فرانكفورت الذي كانت الدول العربية ضيف شرف فيه كان يوجد جناح لإسرائيل، وجميع مؤتمرات البحر المتوسط تشارك فيها اسرائيل. الأمر ينطبق على جميع معارض الكتب الأوروبية ومن يقول إنه يقاطع أي فعالية أجنبية تشارك إسرائيل فيها يكون كاذبا. لكن المشكلة تبدأ عندما تكون اسرائيل ضيف شرف، وأنت مطالب بحضور فعاليات على شرف إسرائيل. هذا صعب تحمله. وهنا تكون المقاطعة واجباً لأن هناك أرضاً عربية محتلة».

قبل سنوات فقط، لم يكن خيار المشاركة مطروحاً من الأساس، وكان يمكن لمثقف عربي أن يجد نفسه عرضة لهجوم مكثف من زملائه لمجرد وجوده في مكان ضم إسرائيلياً دون أن يتخذ قرار الانسحاب، الآن أصبح الوضع مختلفاً، فبديل «المواجهة عوضاً عن الاحتجاج» أصبح مطروحا على سبيل الإقرار وليس الاستفسار. كان هذا البديل هو عنوان المقالة الافتتاحية لجريدة «أخبار الأدب» التي صدرت في 9 مارس الماضي، وفيها أكد الروائي جمال الغيطاني أن الخاسر من المقاطعة هم العرب وليس إسرائيل. وهي وجهة نظر أصبحت متداولة في الوسط الثقافي المصري، هل هو تحول فكري أصاب المثقفين المصريين؟ أم أنه مجرد تغيير تكتيكي في أسلوب المواجهة، يرد الروائي محمد البساطي: «ما يحدث طبيعي لأن العلاقة بإسرائيل أصبحت مختلفة. القيادات الإسرائيلية تزور القاهرة والمفاوضات مستمرة مع أبو مازن، وموضوع المقاطعة أصبح تافهاً أمام كل هذه التطورات». التحول بدأ من وجهة نظر البساطي عندما اتسعت رقعة العلاقات مع إسرائيل: «وتزايد القبلات والأخذ بالأحضان». لهذا لا بد من مراجعة الموقف المتشدد، والوقوف فقط عند محطات جوهرية. يوضح البساطي: «بالتأكيد هناك أمور نرفضها، فلا يمكن مثلا أن أوافق على توقيع عقد ترجمة أحد كتبي للعبرية، أو أن أوافق على زيارة إسرائيل». هل ينطبق مفهومك عن المواجهة على كل الفعاليات أم تستثني منه تلك المرتبطة باحتفالات ذكرى تأسيس الدولة؟ يجيب: «أعتقد أن المواجهة مطلوبة، لأننا في هذه الحالة نكشف ممارساتهم أمام العالم. أما الانسحاب فهو موقف طفولي». هل يمكن أن نفاجأ ذات يوم بتغير موقف المثقف من قضية التطبيع أيضاً؟ يرد البساطي بسرعة: «بالتأكيد لا. لا يوجد مثقف مصري يوافق على التطبيع. رفض التطبيع يعتبر أحد المواقف المحترمة القليلة التي يجمع عليها المثقفون المصريون. الموضوع مختلف تماما ولا وجه للمقارنة».

يرى الروائي فتحى إمبابى أن المواجهة مطلوبة حالياً، لأن الانسحاب لم يعد مجدياً ويوضح: «بعد اتفاقية السلام حصلت اسرائيل على اعتراف عالمي مما جعل الأوضاع تتغير. فقبل عام 1973 كان الاعتراف بإسرائيل قاصراً على الغرب، وظلت معظم دول العالم تدعم الموقف العربي، إلا أن الدولة المصرية اعترفت بها، وأصبح موضوع الاعتراف مطروحا في اجتماعات الجامعة العربية. وفي ظروف كهذه، أعتقد أن مفهوم الانسحاب كان خطأ يخدم واحداً من اتجاهين: الأول دول عربية كافحت بالشعارات واحتلت دولا عربية أخرى تحت شعار تحرير فلسطين. والثاني يخدم اسرائيل التي كانت تجد نفسها دائما وحيدة في الساحة بما يمكنها من فرض أفكارها. لذلك تصبح المواجهة منطقية، وكل الانتصارات التاريخية قائمة على المواجهات لا الانسحابات».

الظروف تغيرت إذن وجعلت وجهة نظر المثقفين تتبدل إلى النقيض حسب رأي إمبابي الذي يواصل: «الانسحاب يتحول إلى عجز فى ظل اتفاقيات سلام تتواصل يوميا، وأنا شخصيا أرى أنه طالما نثق فى شعبنا ومثقفينا فلا خوف، حتى لو حدثت بعض التصرفات التي تجعل المواجهة تنحرف عن مسارها».

هل يمكن أن نستيقظ يوما فنفاجأ بأن وجهة نظر المثقفين من التطبيع قد اختلفت بدورها؟ يرد إمبابي: «هذا موضوع آخر يجب تناوله بشكل اوسع، إنه سياق مختلف. لكن دعنا نتكلم في السياسة، ونؤكد أننا يجب ان نخوض حرب مواجهة، ما الذي يمكن أن يدور في ذهن أي مثقف عربي موجود في إحدى الفعاليات التي يحضرها اسرائيلى؟ ستكون كل اشكال القتل التي تحدث حاضرة في ذهنه، لتكن الصور التمثيلية التي تضمها أعمال إبداعية تناقش مأساة الفلسطينيين حاضرة بواقعية نطرحها أمام الاوروبى للمشاهدة والتأمل. هنا يمكن لمآسي الواقع أن تصبح أكثر تأثيرا، أعتقد أن اللاوعي الجمعي الاوروبي يكفّر عن جريمته التي ارتكبها تجاه اليهود بالفلسطينيين. فما يحدث للفلسطينيين يتم تحت سمع وبصر العالم، وهم يرون المحرقة ويصمتون. إنه فعل غربي مشارك للفعل الإسرائيلي. لذلك علينا مواجهتهم فى اوروبا وإحراج الجميع سواء إسرائيليين يرتكبون المجازر أو غربيين يصمتون عليها». ويواصل: «المهم هو دوافع ما تفعله وليس شكل الفعل. دعنا نتخلص من شعارات الدولة القومية التى ورطتنا فى مشاكل كبرى، ونتعامل مع الموضوع وفق مفاهيم إنسانية تتيح لقضيتنا فرص كسب حقيقية».

* يشرفني استقبال اليهود المناضلين من أجل السلام في بيتي

* صقر أبو فخر

* في صيف 1980 سافرت إلى مدينة ليماسول القبرصية. وما إن جلستُ في بهو فندق «كانيغا بيتش» حتى وقع نظري على رجل يعارك الهاتف، كي يتمكن من الاتصال بإسرائيل. فتعوذت من الشيطان ورحت أحدق فيه بعينين غاضبتين وكارهتين. وفي اليوم التالي حينما رغبت في الاسترخاء على الشاطئ الرملي، شاهدت الرجل نفسه أمامي في الماء. فوددت لو «أتخانق» معه وألقنه درساً فلسطينياً. لكن، لم تمضِ لحظات حتى كان هذا الرجل ينادي زوجته بالعربية داعياً إياها إلى النزول في الماء، فهدأ وجيف قلبي، وتعارفنا، وعلمت أنه فلسطيني يعمل في الكويت وجاء إلى قبرص لتمضية إجازته الصيفية، وكان في الليلة الماضية، يحاول أن يتصل بأهله في الضفة الغربية.

وفي شتاء سنة 1996 كنت في القاهرة نزيل فندق «شيبرد». وهناك تعرفت إلى القاضي أحمد الناطور والباحث عمر مصالحة، وهما من أهلنا في فلسطين 1948. وتعودنا أن نلتقي معاً صباح كل يوم لتناول الإفطار، ثم ينصرف كل واحد منا إلى غايته. وفي أحد الصباحات انتبهت إلى أن رجلاً دهمته الشيخوخة يجلس إلى طاولتنا ويتحدث بلهجة جليلية خالصة. ولم يلبث أن غادر الطاولة من دون أن يقدمني إليه صديقاي. وعلمت منهما أن هذا الرجل من عائلة سوميخ المعروفة، وهو أعلى موظف يهودي في القطاع التربوي العربي، يأتي إلى القاهرة في أثناء المعرض السنوي للكتاب ليبتاع كتباً للطلاب العرب. فغضبت، وشعرت بالحرج لأنني سلمت عليه، بينما تضاحك صديقاي مع قليل من الدهشة؛ فهما يلتقيان اليهود في كل يوم، والأمر، لديهما، شأن اعتيادي ولا يثير الاستهجان.

تثير هاتان الحادثتان لدي مسألة في غاية الإرباك، وهي خليط من رفض الآخر اليهودي والرغبة في التعرف إليه عن قرب، واكتشاف هذا الخصم الغريب والغامض والقوي في آن. ولعل هاتين الحادثتين قادتاني إلى جدل ذاتي، وجداني وعقلاني، أفضى إلى أنني صرت أسعى، بقوة، إلى اكتشاف هذا الرابض خلف الأسلاك الشائكة. وأصبحت أرى في هذا الخصم ما يتخطى كونه عدواً؛ فثمة آخرون هناك ليسوا أعداء، وربما كانوا أصدقاء حقاً، بل ربما كانوا أكثر قرباً اليّ من كثيرين من العرب. وفي خضم هذه المجادلة اكتشفت أنني مدين لفيلتيسيا لانغر، على سبيل المثال، بتقبيل يديها؛ هذه المحامية التي صرفت عمرها في الدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، ودفعت ثمن مواقفها اضطهاداً وطرداً وتشريداً. وأنني مدين بمثل ذلك لرفيقتها ليئة تسيمل، ولمواطنتها سوزان ناثان التي فضحت عنصرية الصهيونية وهجرت المدن اليهودية لتستقر في قرية الطيبة العربية. ألم تفعل ذلك أيضاً الصحافية اليهودية العربية إيلا شوحط المقيمة في رام الله؟ ألم يرغموا المؤرخ الإسرائيلي المشهور إيلان بابي على ترك جامعة حيفا شبه مطرود، وعلى مغادرة فلسطين كلها إلى أوروبا جراء مقارعته الصهيونية وفضحه إياها ولا سيما في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين»؟ وقد وجدت أن موشى ماخوفر (أحد مؤسسي منظمة «ماتسبن») وأوري أور ودان فيريد وأودي أديف ورامي ليفنه (الأخيران من مؤسسي «الجبهة الحمراء» التي قاتلت إسرائيل بالسلاح) ونوري بيليد وستيفن روز وسيمون صبار وأوري نير وإسرائيل شاحك ولطيف دوري وأميرة هاس وسيمون بيتون وغيرهم كثيرون، أكثر شهامة من بعض العرب. وبالأمس كان هؤلاء يفتحون الطرقات التي سدّها الجيش الإسرائيلي أمام الفلسطينيين، بينما كانت بعض السلطات العربية تسد المعابر في وجه الهاربين من الموت الإسرائيلي.

ومع أن القانون في معظم الدول العربية يمنع الاتصال بالإسرائيليين، فأنا أستغرب «اندلاق» بعض العرب، ولا سيما الأدباء والشعراء، على إسرائيل قبل أن ينال الفلسطينيون الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية. وتقدم لنا تجارب علي سالم ونجم والي وكنعان مكية وعبد القادر الجنابي وغيرهم نماذج منحطة من السلوك السياسي. إن هؤلاء يتذرعون بأنهم ليسوا ملكيين أكثر من الملك، وما دام الفلسطينيون يلتقون الإسرائيليين دائماً، فلماذا لا يفعلون مثلهم؟

هذه الحجة، علاوة على تفاهتها، مبتذلة تماماً. فالفلسطينيون واقعون قسراً تحت الاحتلال، وهم مرغمون على أن تصطدم وجوههم في كل يوم بوجوه الإسرائيليين بحكم الأمر الواقع. أما بقية العرب، فلماذا هذا الانحناء حتى ملامسة الخدود أحذية الإسرائيليين؟ استثني من ذلك، بالتأكيد، هؤلاء الإنسانيين الإسرائيليين الرافضين للاحتلال، وأولئك المناهضين للصهيونية من بين اليهود وهم كثر جداً، وأولئك المناضلين من أجل سلام عادل في المنطقة؛ فهؤلاء سيكون لي الشرف في أن أستقبلهم في بيتي، وأن تُعد لهم زوجتي حلوى وفطيراً، وأن أضع لهم بنفسي حناء لأيديهم.

* سكرتير تحرير مجلة «الدراسات الفلسطينية»