الروائي السوداني ـ البريطاني جمال محجوب لـ «الشرق الأوسط» : عملت طبّاخاً وساعي بريد قبل أن أعيش من الأدب

يكتب بالإنجليزية دفاعاً عن شعوب التهمها الاستعمار

TT

> متى بدأت سلطة الكتابة لديك تنزع الى الوجود؟ ولماذا اخترت اللغة الإنجليزية؟

ـ منذ صغري وأنا مهتم بالكتابة. نشأت في بيت الكتب فيه موجودة في كل مكان. فوالدي كانا يقرآن كثيراً، وأجد عندهما دائما ما يشدني للقراءة. بدأت بكتابة سيناريوهات صغيرة بالمدرسة للهرب من الملل والروتين، وتطورت النصوص لتصبح قصصاً قصيرة. كتبت أول رواية في الثالثة والعشرين، ومرت ثلاث سنوات قبل أن أجد ناشراً لها، وانتظرت 18 شهراً أخرى حتى ترى النور. ظننت أن تلك الصعوبات تكون في البداية فقط وأنها تتلاشي بمروز الزمن، ولكنها بقيت!

كتابتي بالإنجليزية لم تكن خياراً، ولدت بلندن والإنجليزية لغتي الأولى. وهي اللغة التي درست بها حتى المرحلة الجامعية. وأهم ما قرأته في الأدب كان بالإنجليزية. أحب العربية وأتمنى لو أن لي بعض القدرة على الكتابة بها. والمأزق الحقيقي في الكتابة بالإنجليزية هو أن جمهورك الأول ليست لديه أي فكرة عن الأماكن أو الظروف التى تتحدثين عنها، وهذا يخلق حاجزاً بين القارئ والكاتب، الذي يضطر لأن يشرح أشياء قد لا تكون ضرورية.

> من ألهمك من الكتّاب؟

ـ معظم الكتّاب المفضلين لديّ في عداد الموتى، ومن الصعب أن تجدي في مؤلفات كاتب معاصر ما يلهمك. روائيون ككونراد وتولستوي لديهم الكثير لنتعلمه في فن البناء الروائي ورسم الشخصيات. القصص القصيرة لتشيكوف تعلّمنا الاقتصاد، ثم هناك الكتاب التجريبيون ككالفينو وموراكامي الذين يمدّون حدود ما هو ممكن. بإمكاننا أن نتعلم دائما من الكتّاب الجيدين كما من السيئين. والكاتب السيئ، يعلمنا ما يجب ألا نفعله!

> كيف استقبلت أولى رواياتك في بريطانيا؟ وهل تطابق ذلك مع توقعاتك؟

ـ لا أعتقد أن الكثير من الكتّاب يشعرون بأن استقبال كتبهم تماشى مع توقعاتهم، نحن الكتّاب نظن أن العالم سيتحرك ولكن لا يحدث ذلك، وبالتأكيد نصاب بالإحباط. شعرت بذلك على وجه الخصوص مع روايتي Navigation of the Rainmaker، التي كتبت فيها عن الأزمة المعاصرة في السودان وبداية الحرب الأهلية عام 1983 والمجاعة والانقسام السياسي. ففي بريطانيا جرت مقارنة الرواية مع كتابات نادين جورديمر من حيث تعقيدها السياسي، ولكن معظم الكتّاب في بريطانيا لا يعرفون أين يقع السودان. كانت تجربة مؤلمة حقيقة. يمكن القول إن الأشياء تغيرت للأفضل الآن، لكن ما زلت مندهشاً من هذه المركزية الثقافية السائدة عموما في الغرب. فروايتي الأخيرة The Drift Latitudes لقيت من الأوساط الثقافية البريطانية اهتماما كبيرا وكتبت عنها إحدى عشرة دراسة نقدية، وهذا ما لم يحدث مع أعمالي السابقة، والسبب أن معظم أحداثها جرت في بريطانيا!

> بوصفك من جيل الكتّاب الذين جاؤوا من الدول المستعمرة بريطانياً، سابقاً ماذا أضفتم للمشهد الثقافي؟

ـ عندما بدأت الكتابة كانت هناك أجيال سابقة من كتّاب الدول المستعمرة موجودة في بريطانيا، هؤلاء حققوا نجاحاً كبيراً، ومنهم سلمان رشدي، تيموثي مو، كازو إشيجورو وحنيف قريشي وآخرون. لقد عكسوا العالم خارج بريطانيا رغم أنهم عاشوا معظم حياتهم في بريطانيا، وتم استقبال أعمالهم كاستجابة من الدول المستقلة التي كانت مستعمرات سابقة فوجدت صوتها الذي يعبر عنها، وأمكنهم أن يكتبوا عن القوة التي حكمتهم لعقود. هو زمن مهم جداً. والآن، معظم الأهداف السياسية لتلك السنوات مضت، لذا فإن الجيل الحالي من هؤلاء الكتّاب يسعى لحماية لقمة عيشه في سوق منافس جداً. وهذا يعني أنهم أقل مواجهة، وسياسياً يهدفون لدمج أنفسهم مع التيارات المعاصرة.

> هل وجدت تعقيدا في نقد تاريخ الاستعمار البريطاني للسودان باعتبار نصف جذورك بريطانية ونصفها الآخر سودانية؟!

ـ فترة الحكم البريطاني هي عامل مهم في تعريف السودان، ثم الأحداث التي أدت الى ظهوره كدولة مستقلة، ولكنه عامل واحد ضمن عوامل أخرى. التقى والداي نتيجة لجهود وضعت لتعليم السودانيين الاستعداد للاستقلال وحكم أنفسهم. بالتأكيد واجه الاثنان تعصبا من الجهتين في بريطانيا والسودان، ولكنهما خططا لنجاح زواجهما بينما آخرون لم يفعلوا ذلك وفشلوا. وحتى اليوم وبعد نصف قرن، الزواج بين عرقين مختلفين موجود ولكن بالتأكيد له مشاكله. وعندما أكتب عن الماضي فأنا لا أنظر الى إلقاء اللوم على جانب أو آخر، ولكني أوضح تلك الأحداث بشكل يجعلها أكثر قربا الى القارئ المعاصر.

> كيف يقيّم القراء الغربيون والنقاد أمثال تلك الأعمال التى تنتقد تاريخهم الاستعماري؟

ـ قبل 11 سبتمبر كانت هناك نزعة إلى إقصاء أي كتابة تتناول الفترة الاستعمارية باعتبار أنها تتعلق بتاريخ انتهى. ولكن بعد سبتمبر فإن الناس أو بعضهم بدأوا يرون أن هناك علاقة بين الحدثين. النماذج التي أسستها القوى الاستعمارية وتعززت بالاستقلال ساهمت في وجود ظروف من الإحباط، وخلقت تربة خصبة للتطرف. كان ثمة شعور قوي بأن الاستعمار عملية إيجابية جلبت الحضارة الى مناطق في العالم لم تكن تتوفر لها فرص للتقدم. أما في ظل العولمة الحالية والفوضى التي نعيش فيها، كثيرون يفضلون نظام الإمبراطوريات القديمة!

> في روايتك «السفر مع جينز» كتبت على لسان بطلها ياسين نقدا حادا للصهيونية، ألم تخف أن توصف بمعاداة السامية؟

ـ لا أصف ما كتبته بالنقد الحاد، بل الغرض هو التصحيح السياسي. ففي إطار رغبتهم في تحجيم التعصب ضدهم وتحقيق المساواة فإن المؤسسة الثقافية وصلت لدرجة من الحساسية الحادة، حيث أن أي نقد حقيقي لها يتم تصنيفه كتعصب عرقي، والنقد لدولة إسرائيل دائما ما يؤخذ كمعاداة للسامية، وهو شيء مختلف تماما.

> هل ساعدك عملك بالصحافة في الكتابة الروائية؟

ـ ليس تماماً، تجربة الصحافة يمكن أن تكون مفيدة في المساعدة على نشر أخبار أعمالك، ولكن ليست لديّ اتصالات حقيقية مع هذا العالم الصحافي. معظم الصحافيين هم روائيون محبطون. وهذا ما يوضح النقد الغريب وغير المنطقي، منهم لبعض الأعمال الروائية!

> هل هناك اهتمام بالأدب العربي عموما من قبل القراء الغربيين؟

ـ عندما حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل، اعتقد البعض ان الأبواب ستفتح للأدب العربي، لكن ذلك لم يحدث. غالبية الكتّاب العرب المعروفين في الغرب يعيشون هناك ويكتبون بلغات أوروبية. الترجمة عمل مكلف، كما أن الناشرين يرون صعوبة في أن يدخلوا القارئ الى رواية كتبت عن مكان مختلف. بالتأكيد هناك حالات استثنائية، لكن الناشرين هم من يتحملون المخاطرة.

في المكتبات البريطانية عناوين تجذب القارئ الواعي الذي يجد متعته في روايات عن سوء وضع الأطفال في العالم الثالث وترحيلهم الى الغرب حيث الجنة المفقودة أو عن اضطهاد النساء، مثل رواية خرجت قبل سنوات بطلتها طفلة لأب يمني وأم بريطانية، يسافر بها والدها الى اليمن ويزوجها من رجل كبير السن، فتهرب وتعود الى بريطانيا. أمثال تلك الأعمال تعزز الثقافة الغربية وتحقق رواجاً كبيراً، وكذلك روايات مثل «هاري بوتر» وشبيهات لها، تسعى دور النشر لشرائها، فتجد أن المكتبة امتلأت بنوع واحد من الروايات لها عناوين مختلفة. قانون العرض والطلب بات يحكم دور النشر في بريطانيا، وذلك لم يكن موجودا قبل 20 عاما. أما في فرنسا فالحال يختلف، وبرأيي أن فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التى ما زالت تحترم الثقافة. وعندما أسافر إلى هناك تجرى معي لقاءات تلفزيونية وصحافية، وأكتشف أن معظم من يجرون معهم الحوارات قد قرأوا لي عدة أعمال سابقة.

> لماذا لا تترجم أعمالك الى العربية؟

ـ الترجمة عمل صعب ومكلف. الناشرون لا يدفعون للترجمة، وعلى الكاتب أن يجد التمويل. والعالم العربي فقير من هذه الناحية ليس لدي الوقت أو الإمكانية للترجمة.

> هل يرفل أدباء الغرب في النعيم كما يتخيل البعض في العالم العربي وهم يرثون حال أدبائهم؟!

ـ 10% فقط من الكتاب يحصلون على دخل كاف من كتاباتهم من دون اللجوء إلى أعمال أخرى، وكثيرون ينشرون لسنوات من دون الحصول على أي مقابل. هناك نسبة صغيرة من الحالات التى يحصل فيها الكتّاب على مبلغ كبير من المال. أنا، عن نفسي قضيت سنوات في وظائف أخرى لأعيش من دخلها كتوصيل الرسائل بالموتوسيكل وعملت طباخا وموظفا بمكتبة وصحافيا حرا. في السنوات القليلة الماضية فقط بدأت أكتفي بدخل الكتابة وحده وهو ليس مضموناً إلى النهاية. نجاحك ككاتب يعني ببساطة أن تحصل على ما يكفي لتعيش وتستمر في الكتابة والنشر!