استدراج القارئ العادي والمثقف باللغة والحكاية

الروائي المصري صبري موسى: الشعارات السياسية أفسدت الكثير في حياتنا الأدبية

TT

يعد صبري موسى أحد ألمع كتاب الرواية المصرية من أبناء جيل ما بعد نجيب محفوظ، وقد لفت انتباه النقاد إليه بقوة منذ صدور روايته الأولى «فساد الأمكنة» في أواخر الستينات بفضائها الروائي المتميز والنفس الملحمي الذي يحرك صراعات الشخوص في مواجهة واقعها ومصيرها والذي تعيد اكتشافه في نسيج الرواية بشكل جديد.

وفي أعماله الأخرى جسد صبري موسى هزائم الانسان الفرد أمام قسوة الواقع والحياة، بل ان روايته «حادث النصف متر» شكلت فور صدورها عام 1962 حالة من الجدل الأدبي امتدت الى أروقة البرلمان المصري (مجلس الأمة آنذاك) وطالب عدد من النواب بمنعها من النشر.

نال صبري موسى عدداً من الجوائز أبرزها جائزة الدولة التشجيعية، وترجمت معظم أعماله الى الانجليزية والاسبانية، وأعد سيناريو وحوار 11 فيلماً سينمائياً بعضها من أعمال له.

عن عالم صبري موسى الرحب والمتنوع كان هذا الحوار:

* في تحليله لأدبك قال الناقد الراحل الدكتور غالي شكري ان ما كان يسمى بالفساد في الكون أو النقص في العالم أو السلب في الحياة أو الخطيئة الأصلية اسمه الالتباس في أدب صبري موسى، كيف ترى هذا الكلام؟

ـ هذا منهج في الرؤية كان موجوداً في تلك الفترة المبكرة في الخمسينات عندما بدأت الكتابة والنشر، وكان من السهل أن يندرج الأدباء والكتاب في طوابير نظامية تحمل شعارات الفن للفن، والفن للحياة، والواقعية الرومانسية، والواقعية الاشتراكية، وغير ذلك من النظريات التي كان يطرحها الواقع الانساني في مصر والعالم في منتصف القرن، ووسط غليان صاخب بثورات التحرير في آسيا وافريقيا والشرق العربي، وقد كان الخطر الواضح الذي كنت استشعره كموهبة ناشئة في ذلك الوقت هو ان يصبح الكاتب فيه مجرد جندي محارب في كتيبة يتلقى الأوامر من تلك الشعارات، وبما ان الواقع الأدبي في ذلك الحين كان حافلا باتهامات عديدة تسوقها الجماعات الأدبية ضد بعضها بعضاً، لم أجد أمامي سوى أن ألوذ بنفسي واحتمي برؤيتي الخاصة لعملية الكتابة وسط هذا الالتباس الصاخب، فجاء ما اكتبه معبراً بالفعل عن هذه المحنة الشخصية التي تعرض لها العديد من الكتاب والقراء في تلك الأيام أيضاً.

* كيف تنظر الى الأزمات المتلاحقة التي يتعرض لها الكتاب حالياً انطلاقاً من الأزمة التي تعرضت لها بعد نشر روايتك «حادث النصف متر» عام 1962، والتي وصلت الى حد مطالبة مجلس الأمة وقتها بوقفها عن النشر؟

ـ بالرغم من الاعتراضات والمناقشات الحادة التي أثيرت في بداية الستينات ضد رواية «أنف وثلاث عيون» لاحسان عبدالقدوس، وروايتي «حادث النصف متر»، إلا انه لم يجرؤ أحد على مصادرة العملين، وقد خرجتا فعلا الى القراء، وأنا اؤكد ان ذلك حدث لسببين، أولهما ان العقل المجتمعي في ذلك الوقت كان من النضج والوعي والادراك لحق المبدع وقيمة الابداع وحق المجتمع في النقد والمناقشة وليس المصادرة، والثاني وهو الأهم ان الروايتين لم تعطيا الفرصة للمعترضين حتى يصلوا باعتراضهم الى حد المصادرة، وتكفير الكاتب، بالرغم من موضوعيهما الشائك، الشديد الحساسية، فالأولى تتحدث عن علاقات جنسية بين أربعة أطراف، والثانية تتحدث عن نظرة المجتمع للشرف عند الفتاة، وقد كانت لغة الكتابة والاسلوب المستخدم في الروايتين من الرقي والاخلاص للتعبير الأدبي بحيث عبرا عن موضوعيهما بحساسية عالية لا تشوبها المباشرة التي يلجأ لها الكتاب الآن، وهم بهذه الطريقة يقدمون للمعترضين مصوغات المصادرة ومبرراتها.

* الحكاية في أدبك خاصة في اطارها المباشر، ماذا يدفعك للجوء إليها؟

ـ الحكاية كانت تستهدف القارئ العادي للمجلة أو الصحيفة، وهو بطبيعته قارئ متعجل، وقد تحلت في نفس الوقت بنوع من الحرص على العناصر الابداعية لفن القصة القصيرة، بهذا التوصيف استطيع ان أعبر باخلاص شديد عن تلك المعركة النفسية التي واجهتها وأنا أعمل بالصحافة، وقد كان لدي سؤال ملح يبحث عن اجابة، وهو كيف يمكنني مخاطبة ذلك القارئ المتعجل بتلك الأدوات الأدبية التي أخاطب بها المثقفين، لهذا وجدتني استخدم وأنا أخاطبه في الحكايات جميع فنون السرد كالحكاية الشعبية والمثل وتكنيك المسرح والسينما والأسلوب الصحافي الاخباري، وكانت النتيجة ان هذا المزيج المدهش من الأساليب كان قادراً على احتواء وقائع الحياة اليومية المنتقاة بين المفكر المجتمعي، الذي راح يقدمها فجاءت حكايات عجيبة تدهش القارىء المثقف والعادي المتعجل على السواء.

* لكن متى بدأت في تجربة كتابة الحكايات؟

ـ كان ذلك في بداية الستينات، وقد خضت هذه التجربة على مدى عامين أو ثلاثة في مجلة «صباح الخير» الاسبوعية القاهرية وبقدر ما استفادت تلك الحكايات من الأدب، أصبحت في تقدير النقاد قصصاً قصيرة متميزة، وقد أفادتني كتابتها ودربت أسلوب السرد عندي على التخلص مما لا لزوم له، كما دربت الذهنية الأدبية لدي على التقاط الموقف الدرامي الاجتماعي والتقاط الشخصيات، وكنت أحياناً أفتح دليل القطارات على إحدى الصفحات عشوائياً، وأختار بلداً ما، أسافر إليه لمدة يوم أو يومين أعود بعدها بحكاية جديدة من تلك الحكايات التي أكتبها أسبوعياً.

* وهل فرضت الصحيفة على الحكايات ذلك البعد الاجتماعي المتسرب في ثنايا أحداثها؟

ـ أنا من جيل علمته الحياة أولا وتكونت ثقافته من خلال القراءة والحركة في الواقع، ولحسن الحظ لم يكن على أيامنا في فترة التكوين تلفزيون، وعندما بدأت الكتابة كان ذلك إرهاصاً شخصياً متابعاً لكل الارهاصات الثورية التي كانت تنادي بتغيير المجتمع وأسلوب الحياة، وقد بدأت أنشر ما أكتب في السنوات الأولى للثورة والتي كانت تعد بكل هذا التغيير الذي كنت أحلم به، وقد كان من حسن حظي في تلك الأيام أن أبدأ عملي سكرتير تحرير مجلة «صباح الخير» والتي كان شعارها للقلوب الشابة والعقول المتحررة، ضمن كوكبة من الفنانين والكتاب المتميزين أمثال احمد بهاء الدين، ومحمد عودة وكامل زهيري وحسن فؤاد واحسان عبد القدوس وصلاح جاهين وجمال كامل وصلاح حافظ والعشرات من المبدعين غيرهم، وفي هذا المناخ الفكري والفني يتحدد انتماؤك فوراً، فأنت مع الناس والتقدم والفكر الحر والتغيير وإعادة النظر في كل المفاهيم والقيم الشائعة والمعتادة، وهو ما يحدد بالتالي موقفك الاجتماعي وماذا تكتب، وفي هذا الجو أيضاً تصبح فرداً في كتيبة تحارب لإعادة الوعي واضافة المعرفة والتنبيه المستمر للأخطاء التي تشيع في حياتنا الاجتماعية والسياسية.

* العلاقة بين الرجل والمرأة أو بين الحلم والواقع، هل كانت مدار رؤيتك في «حادث النصف متر» وكيف ترى هذه العلاقة الآن؟

ـ الحكاية أبسط من هذا بكثير، فالبطل في الرواية بدون اسم، كما ان البطلة أيضاً بدون اسم، وهذا أيضاً يعني انهما يمثلان نماذج شائعة، وقد كانت القضية المطروحة في الرواية تتلخص في مفهوم الحب عند هذا الشاب الشرقي أو بمعنى آخر مفهوم العلاقة بين الرجل والمرأة، وفي الرواية يحكي لنا هذا البطل عن مغامراته العاطفية المتعددة التي مر بها في حياته، كما تتابع أحداثها حينما يقع في الحب بالفعل وترصد ردود فعله وهل يستطيع أن يحتمل فكرة أن حبيبته قد مرت أيضاً بتجربة عاطفية سابقة أم لا، وبما انه نموذج مقتطع من شريحة سائدة في المجتمع من الشباب، فان هذا يعني شيوع ذلك المفهوم أو الموقف النفسي لهذا الشاب، من هنا حاولت أن أشير الى الخديعة الكبرى التي يقع فيها المجتمع الشرقي عندما يغرق في التضييق على المرأة وفي التسامح مع الرجل، يحدث ذلك دون أن يطرح على الأذهان سؤال واحد هو اذا اتيح لكل رجل أن تعبر حياته بضع تجارب عاطفية، كيف إذن يتسنى له أو لسواه أن يحصل على فتاة بدون تجارب عاطفية، ومع ذلك يمكنني القول أيضاً وهذا شيء مدهش ان ذلك الخداع الذي تكشفه «حادث النصف متر» المكتوبة عام 1962 لا يزال يفعل فعله في الواقع حتى الآن، وما زالت لاحداث الرواية نفس الطزاجة التي كانت تحملها في الستينيات، وهذا ربما يفسر سر نفاد طبعاتها التي وصلت الى 11 طبعة بمجرد طرحها في السوق.

* لماذا نهايات أعمالك مأساوية حتى تكاد تكون سمة في ابداعك؟

ـ أنا أرى ان الحكايات والأحداث ذات النهايات السعيدة غالباً لا تثير انتباه الناس، وسرعان ما تغيب عن ذاكرتهم، أما النهايات الفاجعة فتدفعهم للتوقف والتفكير والتأمل بعد قراءة القصص، وهو ما يتيح الفرصة للأفكار المقصودة من العمل كي تصل الى وعي القراء، هذا الى جانب ان هناك موضوعات تحمل زاوية الرؤية فيها نهايتها الطبيعية.

* تجربة الصحراء ورحلاتك المتعددة فيها لماذا لم تفرز سوى «فساد الأمكنة»؟

ـ هذه التجربة تشمل مجموعة من الرحلات المتلاحقة الى تلك المنطقة التي تقع على الحدود بين مصر والسودان وقد كنت أصل أحياناً الى النيل، وغالباً كنت أتجه الى البحر، وفي معظم الوقت كنت أغوص في الرمال، والجبال، كنت أتعامل معها من عدة زوايا الأولى كصحافي، والثانية كأديب وروائي، وقد قدمت على المستوى الصحافي عدة تحقيقات صحافية مسلسلة على مدى 36 أسبوعاً في مجلة «صباح الخير» عن مشاكل التعدين في تلك الجبال وأوضاع القبائل وحرمانهم من التعليم والرعاية الصحية والغذاء الصحي والمياه النظيفة، وقد قمت بدوري الصحافي وواجبي المهني في تلك التحقيقات على أكمل وجه حيث أدت الى لفت انتباه المسؤولين لتلك المشكلات، والاسراع بوضع حلول لها، وقد بقي لدى الأديب في داخلي العديد من الصور والمواقف والشخصيات الدرامية التي كانت تحتاج بالفعل لعمل روائي.

* ماذا حدث بعد ذلك؟

ـ التحقيقات الصحافية طبعت في كتاب سميته «في الصحراء من أدب الرحلات» وبقيت الرواية خيالات ورؤى وكوابيس تراودني أثناء النوم بحثاً عن شكل يحتويها وأسلوب يتم سردها به، وقد استمر ذلك الهاجس حتى توصلت الى فكرة كتابتها بالرسم، بعد ان ادركت ان عين الرسام القديم في داخلي كانت الدافع الأكبر في اختزان معظم الصور، وقد قادني الرسم بعد ذلك الى الشعر، ثم توصلت في النهاية الى لغة فساد الأمكنة وهي لغة قديمة جديدة في آن، في تلك اللحظة بدأت كتابة الرواية.

* اللغة في «فساد الأمكنة» بإيقاعها الواقعي السحري، هل كانت استشرافاً منك لما قاله النقاد بعد ذلك حول لغة جارثيا ماركيز؟

ـ لا أحب المبالغات، فالنقاد بين الحين والحين يطرحون نظريات يتجاوزها الأدب دائماً، وأما عن هذه الرواية فقد انتهيت من كتابتها عام 1969، لم استطع كتابتها إلا بعد أن وجدت اللغة الملائمة لاحتواء أجوائها وموضوعها، لقد بحثت وأنا أفكر في موضوعها عن لغة توازي الواقع الغرائبي الذي يعيشه أبطالها في جبل الدرهيب العجيب، واللغة عندي، وهذا يتضح من أعمالي الإبداعية جميعها، هي إطار الموضوع وخلاياه الحية في نفس الوقت، ولعلك تلاحظ ذلك في الاختلاف الواضح في الأسلوب اللغوي في «حادث النصف متر»، حيث الجمل القصيرة والمقاطع السريعة التي تقدم مشهداً طازجاً، ومثيله في «فساد الأمكنة»، حيث تبدو اللغة شاعرية وغرائبية لانها تصف واقعاً ساحراً ومدهشاً، أما رواية «السيد من حقل السبانخ» فانت أمام لغة محايدة تكتفي فقط بالسرد الجاف وهذا أيضاً أملته طبيعة الأحداث فيها الخالية من الشعور والعواطف، ولغة «فساد الأمكنة» والتي يقول النقاد أنها تكتسب طابعاً اسطورياً هي في النهاية تخصها وحدها ولم أكررها بعد ذلك في أي رواية أخرى.

* رغم رحلاتك الكثيرة الى اميركا وزواجك من اميركية ووجود ابنائك وأحفادك هناك إلا ان ذلك لم يثمر عن عمل أدبي يعبر عن تلك التجربة؟

ـ رحلاتي الى اميركا واقامتي فيها لفترات لم تثمر كتابات على المستوى السطحي، وإنما أثمرت رؤيا خاصة حول المستقبل الانساني وقد تجلت في رواية «السيد من حقل السبانخ»، وأنا أعتقد ان التجارب الاحتكاكية على المستوى الفردي مكررة ومعادة في عديد من الكتابات، وان اختلفت وجهات النظر أو تفاصيل المواقف الدرامية، ولكني رأيت اميركا في الصورة الشائعة عنها كمجتمع استطاع ان يحقق نوعاً من الوفرة والبذخ والحرية التي كان يحلم بها البشر في كل البقاع، كانوا يسمونها في الاربعينات والخمسينات الدنيا الجديدة، وأصبحت مرفأ للسفن المعبأة بالمهاجرين من كل الأصقاع، مما يجعلها تضم نماذج بشرية من كل أنحاء العالم القديم، يتمتعون بالرخاء والوفرة والحريات، وكل ما تحققه التكنولوجيا من أدوات لا تتوافر لغيرهم في أوطان أخرى، واميركا إذن على هذا النحو مجتمع المستقبل وكانت القضية التي أردت أن أطرحها وأتعامل معها خلال روايتي «السيد من حقل السبانخ» في ذلك المجتمع متركزة في سؤال بديهي هو الى أين تسير البشرية الممثلة في هذا المجتمع الشديد التقدم بعد ان وصلت بامكانياتها الى التحكم في الطبيعة والفضاء، وتم لها السيطرة على العالم القديم وإذلاله، فالى أين يتجه البشر بعد أن دمروا ذلك العالم القديم خلال مسيرتهم الموغلة في التقدم، كنت مهموماً بهذا السؤال، وعلى أساسه جاءت روايتي «السيد من حقل السبانخ».

* وماذا عن روايتك «فنجان قهوة قبل النوم» التي اعلنت عن اصدارها منذ فترة؟

ـ هذه الرواية كانت محاولة مني لكتابة سيرتي الذاتية، والحقيقة اننا ما زلنا في مجتمعنا الشرقي لا نستطيع أن نتقبل السيرة الذاتية الصريحة والشجاعة، والتي تقدم كل تجارب الماضي من دون ان نصيب بعض الأقرباء والأعزاء والأصدقاء بقدر من الألم أو الصدمة، كان هذا أحد المعوقات التي أخرت كتابتها، وهناك معوقات أخرى بعيدة عن موضوعها وتخص انشغالي بكتابة السيناريو السينمائي وعملي في الصحافة، هنا يمكنك أن تضع يديك على أسباب تأخر صدورها، وتقدر متعة الكسل في انجاز هذه الرواية، والتي رغم انشغالي المتواصل لم أتوقف عن كتابتها، وقد قمت في السنوات الأخيرة بنشر فصول منها كقصص قصيرة، وقد توصلت أخيراً الى شكل نهائي لها يساعد على نشرها كاملة في وقت قريب.

* وماذا يشغلك الآن؟

ـ أعمل حالياً على الانتهاء من السيناريو السينمائي لرواية «فساد الأمكنة» وفي نفس الوقت أعمل بإلحاح شديد وضغط معنوي من صديقي الدكتور حسين جمعة المخرج المسرحي لاعداد نص مسرحي عن رواية «السيد من حقل السبانخ»، وأنا بطبيعتي استمتع بما أعمل ولا أستجيب لعنصر الزمن الذي يضغط من أجل سرعة الانجاز، فالكتابة عندي عملية نفسية اذا افتقدت استمتاعي بها وأصبحت واجبة لا أستطيع الاستمرار فيها.

=