عبد اللطيف اللعبي في كتاباته وأحلامه العنيدة

ظل طوال 15سنة يدافع عن الأفكار الإنسانية في إطار ديمقراطية حقة

TT

قلة هم المفكرون المغاربة الذين يتمتعون في نفس الوقت بحس شعري مرهف وبنفس أدبي طويل وبحرص كبير على نشر آرائهم السياسية وتضمينها جرأة ومتانة نقدية عاليتين. ويعد عبد اللطيف اللعبي واحدا من هؤلاء الكتاب النادرين الذين يحسون دوما أنهم معنيون بالشأن العام، فهو لا يتوانى عن نشر مقالات آنية ليدل على حضوره الرمزي في الحقل الثقافي المغربي والعربي والإنساني.

والآن، بعد مرور عشرين سنة ونيف على إطلاق سراحه من الاعتقال السياسي الذي عانى منه طيلة عقد السبعينات، ها هو عبد اللطيف اللعبي ينشر في مؤلف موحد سلسلة من المقالات والتحاليل السياسية والندوات التي كتبها أو ألقاها في الفترة الممتدة من عام 1985 إلى عام 2000. ولعل عنوان الكتاب «عند الأحلام، مقالات سياسية»، إشارة الى إصراره والتزامه بتصور خاص لدور المثقف وأخلاقياته، فهو يشير في مقدمة كتابه هذا الصادر مؤخرا الى ان «المهمة التي وجدت نفسي مجندا لها كليا هي مهمة بناء تصور أخلاقي يدير في ذات الآن عملي ككاتب ومسؤولياتي كمثقف وتجربتي كمواطن».

أتى إذن هذا المؤلف المكتوب باللغة الفرنسية والذي يتضمن 38 مقالة ليظهر كيف حافظ اللعبي على حلمه العنيد وكيف بلور فلسفته الإنسانية وكيف سعى إلى التجرد من الآيديولوجيا البحتة، وكيف دافع دفاعا متواصلا عن استقلاليته الأدبية منذ حصوله على حقوقه المدنية ولجوئه للمنفى الاختياري بفرنسا عام 1985، وكيف أصبح يعبر في ما نشر عام 2000 عن أمل حذر في حصول تغيير فعلي ودمقرطة حقيقية في المغرب.

واضح إذن أنه ظل طوال خمس عشرة سنة يدافع عن الأفكار ذاتها وعن المواقف ذاتها انطلاقا من إيمانه بدور اليسار ذي التوجه الإنساني في إطار ديمقراطية حقة وفي حقل دولي يحترم مبدأ العدالة ولا يسلم بحكم الغاب.

وبما ان اللعبي استطاع الثبات على رأيه بخصوص قضايا محلية ودولية ذات اهمية جوهرية، فمن المفيد الاطلاع على بعض الافكار التي ادلى بها في حينها وعلى الشاعرية التي تطبع كتابته السياسية، فهو تارة مازح، وتارة ساخر، تارة عاطفي، وتواق لعالم افضل على شكل رومانسي جد منفرد، ولكنه يظل دوما حذرا من الاوهام اذ يتساءل: ما عساها تساوي اليوم في هذا العالم كلمة شاعر امام لغة السلاح؟

اللعبي كمناصر للنزعة النسوية لنأخذ مثلا هذا المقال الذي كان قد نشره بمجلة «كلمة» والتي تم وقفها عن الصدور عام 1988. هو مقال شاعر يعلن فيه علانية مساندته الكاملة للمرأة ولقضيتها العادلة للحصول على المساواة مع الرجل. يقول في فقرة يوازي فيها بين السخرية والحلم المتاح «أنا سأتركك وحالك يا سيدي. سأرحل وأحمل معي حلم المساواة. سأتصور نسلا جديدا من النساء يتحدثن ويعملن ويتخلصن من غمامة الجنس والعقيدة. أتصور أخوات لي أحرارا أكتشف بمعيتهن معنى غير مسبق للأخوة».

تعتبر قضية المرأة من بين الثوابت لدى عبد اللطيف اللعبي. فهو يحمل لأمهات المعتقلين السابقين وزوجاتهم وخليلاتهم وأخواتهم حبا عميقا، إذ كن دوما بمثابة الصدى الخارجي لعذاب كاد أن يطول سنوات عدة في الصمت لولا ما صدحت به هؤلاء النساء في حينها. وليس هذا فقط ما يجعل اللعبي قريبا لقضية المرأة، إذ يعتبر كذلك أنها ركن من أركان الدمقرطة. فحين يحاوره الصحفي تييري غاليبير عام 1996 ويسأله عن معركة الديمقراطية في المغرب وعن الأطراف الفاعلة فيها، لا يذكر اللعبي سوى الجمعيات الحقوقية والجمعيات النسائية، علما منه أن الديمقراطية مؤسسات ولكن أيضا ممارسة مجتمعية لا بد من إرساء قواعدها وأن للمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان والمرأة الحظ الوافر في ذلك.

كلمة في حق عبد الرحيم بوعبيد انه المنطلق ذاته، أي الديمقراطية في الممارسات، الذي جعل عبد اللطيف اللعبي يقول كلمة في حق رجل سياسة لم يتعرف عليه الا كمحام ترافع ليدافع عنه وعن أصدقائه في محاكمة 1973. وهذا الرجل هو عبد الرحيم بوعبيد. يصرح اللعبي في مقال عنوانه «حوار مستتر مع عبد الرحيم بو عبيد» نشره عند وفاة المناضل الاشتراكي، أذكر للرجل شغفه عندما دافع عن حقنا في التعبير عن آرائنا الخاصة بينما يعلم الجميع أنه لم يكن يقاسمنا نفس الأفكار».

وهو يورد تصرف بوعبيد كمثال على ان الديمقراطية تبنى انطلاقا من تصرفات يومية ومن آداب في المعاملة متجذرة في اخلاقيات الاشخاص يأخذونها دليلا في علاقاتهم مع الآخر.

الحق في الاختلاف وفي الإبقاء على الأمل يمكن اعتبار كلمة «الآخر» مفتاحا للعديد من الأفكار التي يدلي بها اللعبي في مقالاته. فالآخر بشكل أعم وفي إطار العولمة الزاحفة هو الجنوب الذي لا يكترث به الشمال. وهو ما عبر عنه الكاتب في مقال يعود لعام 1992. يقول فيه: «لقد ابتعد الشمال عن الجنوب في حركة لا رجعة فيها. انه يبتعد عن الجنوبيين الذين كانت له يد في بؤسهم ويود الآن التملص منهم».

الآخر بالنسبة إليه أيضا أوروبا كمكون من مكونات الهوية المغاربية. والآخر بالنسبة للغرب، هو كذلك فلسطين التي لا ننصت إلى أصواتها المتعالية. وأخيرا، الآخر هو كذلك «المغرب الآخر» الذي كان اللعبي قد اعتمده شعارا لحملة مضادة لسنة المغرب بفرنسا وحاول من خلاله، كما عبر عن ذلك في مقال لم يكتب له أن ينشر من قبل، أن يعطي الكلمة لأقلية لها الحق في التعبير عن اختلافها خارج السرب وبمنأى عن عملية لا تود تزكيتها. وهي نفس الأقلية التي تطالب «ألا تقلب الصفحة حتى يتمكن الجميع من قراءتها». وهذه هي المسألة الجوهرية التي يبني عليها اللعبي فكرة الانتقال الديمقراطي والأمل في التغيير. انه لا يظن أن ذلك سيكون ممكنا ما لم يحفظ الحق في الذاكرة وفي التعرف على ما مضى.

وهذا ما يجعل اللعبي متيقنا من قدرة مجموعة من المعذبين بالماضي والفاعلين في الحقل السياسي أو الجمعوي حاليا على لعب دور رئيسي في إعادة تشكيل هذا اليسار بتضامن مع أطراف من المجتمع المدني ساهمت في تطوير التجربة الديمقراطية ولها القدرة على تقوية الأمل في الغد.

هذا هو الحلم العنيد، حلم لا يثنيه المنفى ولا الإحباط. فما زال لعبد اللطيف اللعبي، مؤسس مجلة «أنفاس»، نفس طويل ولكنه يخاف على المغرب لكونه ما زال في «مفترق الطرق» ويتوجب عليه الاختيار الصحيح.