شعر يهبّ من القمة

قادة عرب يبشرون بمرحلة شاعرية رغم مأساويتها

TT

كان الأمر عجيباً، أن نرى الشعر العربي القديم يعود إلى الخطب السياسية التي ألقاها المسؤولون العرب في قمة دمشق. ثمة من استل الرماح، وهناك من استلهم المتنبي، وهناك أيضاً من عاد إلى المعلقات. كانت ظاهرة غابت طويلاً عن المحافل السياسية العربية تلك التي شهدناها في القمة العربية الأخيرة، فما دلالات ذلك، وما فحواه؟

أوصى إعلان القمة العربية العشرين، التي انعقدت أخيراً في دمشق بإيلاء اللغة العربية اهتماماً ورعاية خاصين باعتبارها وعاء للفكر والثقافة ولارتباطها بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا لتكون مواكبة للتطور العلمي والمعرفي، ولتصبح أداة تحديث في وجه محاولات التغريب والتشويه التي تتعرض لها ثقافتنا العربية.

وكما تميز إعلان القمة العشرين باهتمامه باللغة العربية، تميزت كذلك خطب الزعماء وتصريحات المسؤولين باستحضار الشعر العربي، إما من خلال الاستشهاد بأبيات لفطاحل شعراء العرب كالمتنبي، أو باستخدام كلمات وصور شعرية لوصف أزمة أو حالة سياسية، بكل ما يحمله ذلك من معان ودلالات. فإذا كان أجمل الشعر أكذبه، فلا بد أن الخطاب السياسي العربي، قد أفلس من كثرة الوعود والآمال، وراح يستعين بأجمل الشعر لقضاء حاجته في الاقناع والتأثير. أما إذا ملنا لقول عمر بن الخطاب:«أفضل صناعات الرجل، الأبيات من الشعر، يقدمها في حاجاته يستعطف بها قلب الكريم ويستميل بها قلب اللئيم»، أو ما جاء في الحديث الشريف «إن في الشعر لحكمة»، فإن حاجة العرب للشعر في هذه المرحلة السياسية تبدو ملحة، وحضوره في القمة العشرين وسط التوترات والأنواء ضرورة لها ما يبررها، سواء في لمِّ شمل العرب لتحقيق الشعار الذي رفعته «قمة العمل المشترك والتضامن العربي»، أو لوصف الحال البائس الذي أمست عليه الأمة. عندئذ يصح قول الفرزدق:«أنا أشعر الناس عند اليأس».

ففي المؤتمر الصحافي المشترك للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ووزير الخارجية السوري وليد المعلم في ختام اجتماع القمة العشرين بدمشق، سأل إعلامي سوري، إذا ما كانت القمة نجحت في تصفية أجواء العلاقات العربية ـ العربية ـ وعن حجم التوقعات بإقامة سوق عكاظ لتبادل شعر الغزل بين الأطراف العربية. جاء هذا السؤال تعقيباً على سؤال مراسل الـ«بي بي سي» عن وجود غزل سوري ـ سعودي كان سبباً في استحضار حديث مستطرف عن الشعر والغزل إلى مؤتمر سياسي في ظرف حرج ودقيق؛ الكلمات فيه رسائل موجهة، وكل حرف موزون بميزان الحسابات الإقليمية والدولية. فكان رد الوزير السوري، بأن العلاقات بين الدول كالعلاقات بين الأشخاص والغزل يحتاج إلى طرفين يتبادلانه بينهما. أما الأمين العام فعقب بالقول، إن التراث العربي مليء بالغزل من طرف واحد. فكان رد المعلم: هذا ما أطلقوا عليه الحب العذري والحب العذري لا يثمر أولاداً. فانفجرت القاعة بالضحك، فيما تابع موسى الحوار بعيداً عن الميكروفون قائلاً: تعال إذا لنتبادل الغزل وننجب توائم.

الشعر لم يحضر فقط في المؤتمر الصحافي الختامي، بل كان حاضراً منذ بدء الاجتماعات التحضيرية، سواء بتبادل الأبيات الشعرية العربية القديمة، أو في الجمل الأدبية الوصفية. فالمندوب السوري الدائم لدى الجامعة العربية يوسف أحمد وصف الجلسات التحضيرية للمندوبين الدائمين ومن ثم وزراء الخارجية، بأنه «اجتماع عربي بنكهة دمشقية». وكان يقصد بالنكهة الدمشقية مستوى المصارحة التي تمت بها المناقشات، كما أن الأمين العام للجامعة طعّم كلمته الافتتاحية الشاعرية بأبيات للمتنبي استعان بها على وصف «جراح الجسد العربي الدامي»:

* رماني الدهر بالأرزاء حتى

ـ فؤادي في غشاء من نبال

* فصرت إذا أصابتني سهام

ـ تكسرت النصال على النصال.

استفاد موسى من مخزون الحزن والكآبة والسوداوية المكتنزة في الشعر العربي، ليوشي به خطابه المدلهم بالخطوب أمام الزعماء العرب، فتحدث عن «غيوم» تملأ الأجواء العربية التي أصبحت قتامتها مضرب الأمثال، وتضرب سلبياتها في جذور النظام العربي، وتخلق حالة من الارتباك السياسي والارتباك في الأولويات والاضطراب في العلاقات العربية، ما أدى إلى تكبيل الحركة الجماعية.

وكانت المفاجأة خطاب رئيس دولة جزر القمر احمد عبد الله سامبي، التي عبرت عن ولع صاحبها بفنون الخطابة العربية، وامتلاكه لمهارات خاصة بإلقاء الشعر، فهيمنت الفصاحة والبلاغة لمدة نصف ساعة، وكانت أكبر دليل على تأكيد عروبة دولة (جزر القمر)، مع أن العرب لا يعرفون عنها الكثير، أو لا يعرفون شيئا قبل دخولها دائرة الحدث بما شهدته من انقلابات عسكرية قبيل انعقاد القمة. فهذه الجمهورية التي انضمت إلى الأسرة العربية قبل سنوات قليلة، كانت لغة الأدب والشعر عن «الجزر والقمر» معين رئيسها في القمة للتخاطب مع الزعماء والشعوب العربية المتابعة للحدث، ليوصل إليهم رسالته بتحميل الأمة العربية مسؤولية تحرير جزيرة مايوت، بعد أن تمت استعادة جزيرة انجوان. وأجمع المراقبون على أن خطاب الرئيس سامبي كان مؤثرا بالمعنى اللغوي للكلمة. وتمكن من خلال تخيره من الشعر أعذبه وأرقه من لفت أنظار العرب إلى جمهوريته السابحة بعيداً في المحيط الهندي، ولو لفترة وجيزة، لم تتجاوز فترة انعقاد القمة.

الرئيس السوداني عمر حسن البشير القادم إلى القمة حاملاً على ظهره أزمة دارفور، اختار من التراث الشعري «حكمة تجمع الرماح» ليدعو العرب إلى التوحد قائلاً:«قدمنا إلى دمشق لنصطف معكم جميعنا ونجمع رماحنا إلى رماحكم لمجابهة التحديات الكبيرة والتهديدات الخطيرة التي تستهدفنا، أتينا ونحن نستلهم الحكمة العربية:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا

وإذا افترقن تكسرت آحادا

كلمة الزعيم الليبي معمر القذافي التي حظيت باهتمام بالغ واعتبرها كثر بأنها «أكشن» القمة، لم تحتمل صراحتها لغة الشعر، ونأت عن الشاعرية بقدر نأيها عن الديبلوماسية، لتكون كلمة انطلقت بلسان رجل الشارع، صادمة في بساطتها ووضوحها. إلا أن العقيد القذافي نال نصيبه من الشعر وعاد من دمشق بقصيدة مهداة من الشاعر عمر الفرا، ألقاها في مهرجان طلابي وإبداعي أقامه الاتحاد العام للطلبة العرب والاتحاد الوطني لطلبة سوريا، احتفاءً بتلبية القذافي دعوتهم إلى الالتقاء به وتقول القصيدة:

* ويلي على حق مُضاع

ـ في متاهات العواصم

* جربتَ كل وعودهم عبثا

ـ ترد لك المظالم

* فالحق يؤخذ عنوة

ـ لا بالوعود ولا المزاعم .

بدا العرب في القمة، وكأنهم خارجون من الماضي، وهم يعودون إليه بحثاً عما يستنهضون به الهمم، استنهاضا لغوياً لتبديد مشاعر اليأس والإحباط، يوغل الواقع المتردي في إشاعتها. ففي حين غابت معاني الفخر حضرت دلالات الفقر السياسي والدعوات إلى الاجتماع حول طاولة واحدة والحوار. وكأن قولاً للخريمي يحضر حين قيل له: ما بال مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد أحسن من مراثيك؟ قال: كنا حينذاك نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون بعيد.. استخدام الشعر والبلاغة، جاء أقرب إلى رثاء تضامن مفتقد، فكانت اللغة الستر والغطاء، على واقع مخيب للآمال فيما يخص العلاقات العربية ـ العربية، التي حضرت كمسألة شائكة بحاجة إلى حل، مثلها مثل سائر القضايا العربية الشائكة والعالقة بانتظار حصول توافق حولها. ثمة قناعة كشف عنها ولع الساسة بالبلاغة والشعر، بأن اللغة ما زالت مقبولة في الشارع العربي للتعويض عن الأشياء المفقودة، ولا تزال الأحلام والوعود سلعاً رائجة في الإعلام العربي، الذي يستند إلى موروث إعلامي مستمد من روح ما قيل عن أن أشعر الناس هو من يتمكن بلطف معانيه ورقة فطنته أن يقبح الحسن الذي لا أحسن منه ويحسن القبيح الذي لا أقبح منه، ولذا هناك من قال:«يا معشر العرب حسنتم كل شيء فحسن، حتى حسنتم الفرار».

كما يتبين لقاء بعد آخر أن اللغة العربية بكل ما تحمله من تاريخ هي في خدمة التباري الديبلوماسي، وأن استحضار الشعر إلى القمة لم يكن مجرد تنويع على لغة السياسة، المفترض أن تكون لغة الواقع، بل لإعطاء براءة ذمة للنوايا، وتأشيرة دخول جديدة إلى الشارع المنهك من باب المشاركة في الهم والغم. بعد أن كان الدخول عبر باب الآمال والطموحات والوعود. قمة الشعر تبشر بإعادة الاعتبار للشعر بوصفه ديوان العرب وبمرحلة سياسية شاعرية، تفتقد للواقعية، وإن كانت مفرطة في مأساويتها.