كيف يريد ساركوزي من الكاتب أن يكون؟

على هامش «فيللا ميديسيس»

ساركوزي
TT

لا يُعرف عن ساركوزي ولعٌ بالثقافة كبير، على غرار ميتران، المرهف الحسّ والعاشق للحضارة الفرعونية والكاتب والقارئ النهم، ولا حتى بشيراك العاشق لثقافة اليابان وللفن الأفريقي، وقد كانت سيغولين رويال ربما، على حق، حين تحدثت عن ولعه بشيء آخر، وهو الساعات الذهبية الثمينة، كما اكتشفته في أول لقاء جمعها به بعيد فوزه بالرئاسة.

الثقافة عند ساركوزي وسيلة من بين وسائل أخرى للوصول إلى السلطة. وقد استغلها بذكاء خارق، إذ مثلما كان يحرص على نسج علاقات حميمية مع رجال الأعمال فعل الشيء ذاته مع كبار الصحافيين ومسؤولي المجلات، ورأيناه يفعل ذلك أيضا مع مثقفين كانت لديهم رغبات في التقرب من السلطان. ومن هنا رأينا كمّاً كبيراً من المقالات والبيانات التي شجعت ترشحه للرئاسة في صحيفتي «لوفيغارو» و«لوموند». وبقدرة قادر أصبحت لساركوزي قاعدة فكرية وثقافية تؤازره، وانتهت أسطورة أن المثقف الفرنسي لا يمكن إلا أن يكون من اليسار، وإلا فعليه أن يحزم حقائبه ويسافر، ملتجئاً، خصوصا إلى الولايات المتحدة، كما فعل، في سبعينات القرن الماضي، ريمون أرون وبول ريكور وغيرهما.

لكنّ الكثيرين فوجئوا من وصول شخصية ممقوتة في الوسط الثقافي الفرنسي، إلى مرتبة المستشار الثقافي، بل وصانع وزارة الثقافة نفسها. ويتعلق الأمر بجورج-مارك بنحمو. ومعروف عن الرجل تملقه وانتهازيته وانخراطه في علاقات ملتبسة ما بين الصحافة والكتابة والسياسة. دخل في مغامرات صحافية كارثية، أسس مجلة «غلوب» وحقق فشلاً ذريعاً، ووجد نفسه مقرّبا من الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران. وبعيد وفاة الرئيس ألّف كتاباً اعتبرته عائلة الرئيس مليئا بالمغالطات وبعض الخيانات، وتحولت الرواية إلى فيلم. وقذفت به هذه «الخيانة» بعيدا عن عائلة الأوفياء والحريصين على تراث ميتران. ولأنّ هناك شيئاً ما في نفسية ساركوزي، بالإضافة إلى ماكيافيليته، وهو استغلال كل الخارجين من معسكرات الخصوم، فقد فتح ذراعيه على أشدهما لكل هؤلاء المنسلين من معسكر الخصم، ومن بينهم بيسون، قائد حملة سيغولين رويال، ومنحه وزارة مهمة، وفعل الشيء ذاته مع بنحمو، وأصبح مستشاراً كبيراً، وفعل الشيء نفسه مع المفكر جاك أتالي، مستشار ميتران، وقربّه.

نفهم أن تستفيد الجمهورية من رجالات مهمين، يعتبرون أنفسهم فوق الأحزاب، ولكنّ ما أثار ذهول المفكرين والأدباء في تعيين بنحمو مسؤولاً ثقافياً هو اعتقادهم أن الرئيس الجديد يعمل على إهانة الثقافة. والذين كانوا متعودين على مشاهدة برنامج برنار بيفو الأدبي الشهير «أبوستروف»، لا بد أنهم شاهدوا هذا الشخص وهو ينهال ضرباً مبرحاً على كاتب فرنسي شاب، حينها، وينضح ذكاء وألمعية وهو مارك إدوارد ناب، وهذا المشهد يكفي لتحليل نفسية الرجل.

ولا يبدو أن المثقفين الفرنسيين كانوا يتوقعون أن يُرشَّح هذا الشخص، بعد أن لم يعد المستشار الثقافي للرئيس ساركوزي، ليترأس أكبر موقع ثقافي فرنسي خارج التراب الوطني، وهو «فيللا ميديسيس» في روما. ولكن المثقفين الفرنسيين، من مختلف المشارب الفكرية والسياسية، وكما عوّدونا في مثل هذه المواقف تداعوا لوقفة حازمة تدين تمييع الثقافة إلى هذا المستوى. وكان أن تجاوزت في ظرف وجيز عدد التوقيعات الرافضة لهذا التعيين، 350 فناناً وكاتباً ومثقفاً، بالإضافة إلى مقالات عديدة وتصريحات لمفكرين وفنانين في الصحف، ومن بينهم أوليفيي بوافر دارفور (أخ باتريك بوار دارفور، مقدم الأخبار النجم في القناة الأولى) والمؤرخ فرنسوا هارتوغ ومارك وايزمان وغيرهم. ويبدو أن هذه الوقفة الحازمة أتت أكلها إذ أن بنحمو فضّل في نهاية الأمر الانسحاب من الترشح.

قد تساهم التعبئة في وقف قرار، ولكنها لا تنجح دائما. إذ أن عناد الرئيس ساركوزي معروفٌ، ويمكنه أن يستميل ألدّ خصومه ومنتقديه. يمكن أن يتراجع قليلا، ليقفز بعدها، في غفلة الآخرين، وبعدها يكون كل شيء قد قضي أمره.

ولأنّ الناس تنسى، ولأن خبر اليوم ينسيه خبر الغد، ولأننا في متوالية متسارعة من الأخبار، قرر مدير تحرير جريدة «ليبراسيون»، لورونت جوفران تأليف كتاب هجائي عن ساركوزي، يتحدث فيه عن حساسية الرئيس الكبيرة من الصحافة. ويقول الصحفي بأن الرئيس لا يحب الصحافيين ويريدهم مقربين منه. ينطلق الصحافي من اشتباك وقع مع الرئيس، في ندوة صحافية، حين سأله عن مخاطر احتكار رئيس الجمهورية لكل السلطات، مما أثار غضب الرئيس. وهو مسألة غير مفهومة في نظر الصحافي، خصوصا وأن الرئيس، قبل وصوله إلى الرئاسة هاتفه مرة، من دون سابق إعلان، وباح له بمشاكله مع زوجته السابقة، وكأن الرئيس لا يريد من الصحافيين سوى أن يكونوا حافظين للأسرار.

استطلاعات الرأي، هذه الأيام، ليست في صالح ساركوزي، وشعبيته تتهاوى، والأزمة تتزايد، إضافة إلى عداء المثقفين له. مَنْ قال إن الثقافة ليست قلعة الدفاع الأخيرة ! المُعارَضَة الحقيقية، حين لا تكون ثمة معارضة، في بلد «الاستثناء الثقافي»!