كيف نشأت الفلسفة العربية ـ الإسلامية؟

الفيلسوف الفرنسي جوليفيه يجيب عن السؤال القديم ـ الجديد

TT

كيف نشأت الفلسفة العربية ـ الإسلامية؟ هذا هو السؤال الذي طرحته الموسوعة الكونية الفرنسية واجاب عنه البروفيسور جان جوليفيه الاستاذ في جامعة السوربون وهو احد كبار المختصين الفرنسيين في فلسفة الكندي والفارابي، وسواهما. ومن مؤلفاته الفلسفة القروسطية العربية واللاتينية، ثم دراسات عن ابن سينا، ثم مفهوم العقل عند الكندي.. الخ. يرى هذا الباحث ان الساحة الفكرية في نهاية القرن الثاني الهجري كانت محتلة كليا من قبل علم الكلام حيث تدور المناقشات حول وحدانية الله، وصفاته والمعنى الذي ينبغي ان يخلع على الاسماء والاوصاف الواردة عنه في القرآن الكريم. كما وكانت المناقشات تدور حول الحرية الانسانية، أي هل الانسان مسير ام مخير، وحول الايمان والذنب والنجاة في الدار الآخرة، وحول السلطة ومشروعيتها، بل وحتى حول طبيعة الجسد.

ماذا تبقى للفلسفة ؟ راحت الفلسفة تشق طريقها وتحتل مكانتها داخل الساحة الفكرية العربية الاسلامية بعد بذل جهود كبيرة. وقد استوردت من خارج المجتمع الاسلامي، من عالم اجنبي ووثني هو العالم الاغريقي. ولهذا السبب كان بعضهم في الساحة الاسلامية يحتج دائما على وجودها، بل ويدعو الى إلغائها ومحاربتها ليس فقط في الماضي وانما في الحاضر ايضا. ولكن وضع المسيحية في بداياتها كان معاكسا لوضع الاسلام. فالتفكير الفلسفي المسيحي نشأ في ظل الهيمنة الاجتماعية والسياسية والروحية للامبراطورية الرومانية. ولذلك تفاعل مع المدارس الفلسفية العديدة التي كانت سائدة في هذا السياق. ونتج عن ذلك ان اللاهوت المسيحي كان منذ البداية ذا لهجة فلسفية، حتى ولو كانت جدالية او عدائية، على العكس من ذلك فإن المشكلة الاولية للفلسفة في ظل الاسلام كانت تتمثل فيما يلي: كيف يمكن ان تتموضع بالقياس الى الوحي؟ وهل ستكون مطبوعة بطابع الايمان ام عدم الايمان.

ثم يردف البروفيسور جان جوليفيه قائلا: ان المناطق التي فتحها العرب في كلتا الامبراطوريتين البيزنطية والساسانية اثناء القرن الاول للهجرة كانت متأثرة جدا بالفلسفة الاغريقية. فالكتب اليونانية العديدة كانت قد ترجمت الى السريانية منذ القرن الخامس او السادس الميلادي: أي قبل قرنين من ظهور الاسلام. فمثلا كان سيرغيوس الرشعانية قد ترجم بعض كتب الطب اليونانية، وكذلك بعض الرسائل في المنطق لارسطو. واما بولس الفارسي فقد ألف رسالة عن الاعمال المنطقية لارسطو طاليس الفيلسوف. ولكن لا نعلم فيما اذا كان قد كتب بالسريانية اولا ام بالفارسية ثم ترجم الى السريانية. وقد اهدي الكتاب الى خسرو الاول ملك الفرس. وينبغي ان نأخذ بعين الاعتبار الكتب التي بقيت في اللغة الاغريقية، وظلت محفوظة في عدة مكتبات في منطقة الشرق الاوسط او مصر. لقد ظلت نائمة تنتظر من يجيء لكي يهتم بها او يخرجها الى دائرة الضوء.

ولكن لا يمكن ان نختزل الاسلام في بداياته الى مجرد نجاحاته العسكرية او فتوحاته. فالواقع ان مضمون الدين الجديد الموحى به كان اكثر غنى من كل حكمة العرب التي سبقته.

وقد اثار ديناميكية روحية ذات خصوبة عقائدية ضخمة. وكانت الساحة الفكرية مؤلفة من القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة النبوية وعلوم اللغة والأدب بشعره ونثره. وينبغي ان نضيف الى ذلك علم الكلام والفقه وبالتالي فان الفلسفة ظهرت في العالم العربي ـ الإسلامي بعد ان تشكلت الكتب العقائدية أو الدينية الأولى. ولكن ليس بعدها بكثير. وكانت هناك حركة ثقافية حاسمة قد سبقتها ومهدت لها الطريق بل ورافقتها طيلة قرن على الأقل ألا وهي: حركة الترجمات الكبرى. وقد تمت اثناءها ترجمة الكتب من السنسكريتية والفارسية ثم بالأخص اليونانية الى اللغتين السريانية والعربية. وهكذا تشكلت لأول مرة لغة فلسفية عربية. وهذا الحدث الضخم غير معروف حتى الآن بكل تفاصيله وبخاصة في بداياته. ونتمنى لو يركز بعض الباحثين جهودهم على هذه النقطة لإضاءتها. (أفتح قوساً هنا وأقول بأن الباحث آلان دوليبيرا قد سدّ النقص فيما يخص هذه المسألة مؤخراً. فبحوثه المعمقة والموثوقة عن تاريخ الفلسفة العربية الاسلامية في القرون الوسطى أصبحت في متناول جميع القراء في اللغة الفرنسية. ونتمنى ان تترجم هذه البحوث قريباً إلى اللغة العربية). ينبغي ان نعلم ان اللغة العربية اصبحت اللغة الرسمية للامبراطورية الاسلامية بناء على قرار اتخذه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. وهكذا حلّت محل اللغة الفارسية واللغة الاغريقية في مؤسسات الدولة واداراتها. وكانت أولى الكتب المترجمة الى العربية هي كتب الطب والفلك بشكل خاص، وليس الفلسفة. وابتدأت عملية الترجمة في ظل الأمويين: أي قبل منتصف القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي. ولكنها انطلقت فعلاً وبلغت ذروتها في عهد الخلافة العباسية، وبالأخص في عهد المنصور والرشيد، والمأمون. ومعلوم حجم الدور الكبير الذي لعبه هذا الأخير في العملية. وكان المترجمون الأوائل يترجمون الكتب اليونانية الى السريانية أولاً ثم الى العربية ثانياً، وأحياناً كانوا يترجمونها مباشرة إلى العربية وفيما بعد ضعفت علاقة المترجمين العرب باليونانية فراحوا غالباً يترجمون كتب الفلسفة من السريانية إلى العربية. ولا نستطيع ان نعدد هنا أسماء جميع المترجمين الذين اشتغلوا طيلة قرنين تقريبا: أي منذ نهاية القرن الثاني الهجري، إلى نهاية القرن الرابع. ولكن ينبغي ان نلاحظ ان الكثيرين منهم لم يكونوا يهتمون باختصاص واحد فقط. فمثلاً كان حنين ابن اسحاق كبير المترجمين العرب يترجم كتب الفلسفة والطب اساساً. واما قسطا بن لوقا فكان يترجم كتب الفلسفة والرياضيات. (الأول عاش في القرن الثالث الهجري، والثاني عاش في القرن الرابع). كان ابن المقفع احد أوائل كتَّاب النثر العربي (مات حوالي منتصف القرن الثاني الهجري عام 140). ولم يترجم فقط الكتب الفارسية وبخاصة كتاب كليلة ودمنة الشهير. وانما ترجم ايضاً عدة رسائل في المنطق لارسطو. وشكَّل بذلك أول معجم عربي لعلم المنطق. وكانت توجد آنذاك ترجمات سريانية لعدة اجزاء في كتاب «المنطق» الشهير لأرسطو. ثم انضافت اليها الترجمات العربية. وكل رسالة ترجمت اكثر من مرة.

ومعلوم ان ارسطو كان يشكل آنذاك الهيبة العلمية والفلسفية العليا. وجميع كتب ارسطو ترجمت ما عدا كتاب السياسة. ولكن انضافت إليها عدة كتب مزورة أو منسوبة خطأ لارسطو ككتاب: أوثولوجيا ارسطو طاليس (أي لاهوت ارسطو).. وكذلك ترجمت كتب شرَّاحه اليونانيين (او قسم كبير منها). وتمت ايضاً ترجمة كتب افلاطون. ويمكننا ان نذكر ايضاً عناوين كتب فلسفية يونانية عديدة اخرى كانت قد ترجمت إلى العربية. وبعض هذه الكتب وصلتنا، وبعضها الآخر مذكور في الكتب القديمة ولكنه ضاع على الطريق ولم يصلنا. وبعضها الآخر وصلتنا اجزاء منه او استشهادات منه او لان احد المؤلفين القدامى يستخدمه دون ان يسميه.. ثم يطرح جان جوليفيه هذا السؤال: من هو الفيلسوف العربي الاول؟ انه بدون شك ابو يعقوب ابن اسحاق الكندي الذي ولد حوالي نهاية القرن الثاني الهجري ومات بعد عام 256هـ. ومؤلفاته الغزيرة في الفلسفة كما في العلوم لم تصلنا الا بشكل جزئي جدا، فالكثير منها ضاع ولم يبق الا الاسم، فقد ألف حوالي المائتي رسالة او كتاب، ولم يصلنا منها الا الخمس. وكان مطلعا على جميع فروع المعرفة من الرياضيات الى الفلك. وكان يتبنى مذهب المعتزلة الاقرب الى الفلسفة. وقد عاصر حركة الترجمات الكبرى في بداياتها الاولى، بل وفي فترتها الاكثر عطاء وانتاجا. ويبدو انه قد مارس الترجمة هو شخصيا، بل وجمع حوله عدة مترجمين مختصين بترجمة الكتب الافلاطونية الجديدة. وفي الغالب نجده يحيلنا الى مؤلفات الفلاسفة اليونانيين. فمثلا يقول في كتابه: رسالة في النفس بانها تحتوي على خلاصة لفكر ارسطو طاليس وافلاطون وفلاسفة آخرين. ونجد في هذه الرسالة نوعا من المقال في المنهج على غرار المقال الشهير لديكارت. ففيها يقول بان الرياضيات وعلم المنطق يشكلان المقدمة الاولى للفلسفة. وقد حدد مكانة الفلسفة بكل دقة داخل الساحة الفكرية والتاريخية والروحية. وكان ذلك في الفصل الاول من كتابه الذي يحمل العنوان التالي: كتاب الفلسفة الاولى. ولكن للاسف لم يصلنا منه الا الجزء الاول. وقد عرَّف الفلسفة على النحو التالي: انها اشرف واعلى العلوم الانسانية. انها علم الاشياء في حقيقتها بقدر ما يكون الانسان قادرا على ذلك. ثم يقول: بان هدف الفلسفة هو التوصل الى معرفة الصح والعمل طبقا لما هو صح او صحيح. ثم يشن الكندي هجوما عنيفا على بعض الفقهاء الذين يدعون العلم في الشؤون الدينية، ولكنهم في الواقع يجهلون الدين ومعرفة الصح او الحق في آن معاً. يقول رادا عليهم وعلى معاداتهم للفلسفة: ان معرفة الاشياء في حقيقتها أي الفلسفة تعني من جهة معرفة وحدانية الله وتعاليه وتعني من جهة ثانية معرفة الفضيلة أي نفس الفضيلة التي كان الانبياء قد تحدثوا عنها ودعونا لاتباعها. وبالتالي فلماذا تحاربون الفلسفة أيها الجهلة؟ وهكذا اقام الكندي منذ البداية توافقا بين الفلسفة والدين، ودحض الرأي التقليدي الذي يقول بان الفلسفة مضادة للدين او تبعد عن الدين. لقد تصادف موت الكندي تقريبا مع ولادة اكبر فيلسوف عربي في العصر الكلاسيكي: أبي نصر الفارابي وقد عاش عمرا مديدا (حوالي الثمانين عاما) وكان مهتما جدا بعلم المنطق الذي كرس له مؤلفات عديدة. وكان مطلعا كل الاطلاع على كتب ارسطو، لكنه كان يستخدمها بشكل حر ولمصلحة تأسيس الفكر العربي فلسفيا، فمثلا نلاحظ انه يقلد ارسطو او يستعير افكاره عندما ألف كتاب «الالفاظ المستعملة في المنطق». ولكنه يكرس خمس هذا الكتاب للتحدث عن خصوصيات اللغة العربية. وكذلك الامر فيما يخص «كتاب الحروف» فهو يدور حول كتاب الميتافيزيقا لارسطو. ولكنه يكرس تحليلات مفصلة ودقيقة للمفردات التي تعبر عن مفهوم الكينونة او الوجود في اللغة العربية. هكذا نجد انه يستفيد من ارسطو، لكن بشكل حر، ثم من اجل خدمة اللغة العربية والفكر العربي وموقفنا نحن المثقفين العرب الحاليين من الفكر الاوروبي ينبغي ان يستوحي ـ او يستلهم ـ موقف سلفنا الاكبر الفارابي بمعنى انه لا ينبغي ان يكون تقليدا اعمى او اغترابا واستلابا وانما استفادة ذكية، واعية وموظفة لخدمة النهضة المقبلة او الفكر العربي الجديد والمسؤول. في الواقع ان الفارابي ساهم في تشكيل ما ندعوه الآن بالسوسيولوجيا الثقافية (او علم الاجتماع الثقافي)، فكتاب الحروف يحتوي على آراء عن اصل اللغة او منشئها في أمة معينة، وعن ظهور تقنيات المحاجة العقلية، وعن العلاقة بين الدين والفلسفة. وهذه المسألة الاخيرة تقع في مركز الكتاب. وفي كتابه «احصاء العلوم» نجده يتحدث على التوالي عن علم اللغة وعلم المنطق والرياضيات والفيزياء (او الفيزيقا) والميتافيزيقا والسياسة والفقه والكلام.. وهذا مسار عقلاني محض يكاد يذكرنا بفلاسفة العصور الحديثة، حقا ان الفارابي يمثل ذروة فكرنا في تلك العصور. ولا ينبغي ان ننسى الفلسفة السياسية والاخلاقية للفارابي، فالبعض يعتبرها أهم ما انتجه. فقد فكر كثيرا في كيفية تشكيل المدينة الفاضلة بطريقة دقيقة وتجريدية تذكرنا باسلوب افلاطون. ومن اشهر كتبه حول الموضوع: آراء اهل المدينة الفاضلة، ثم السياسة المدنية، ثم في تحصيل السعادة.. الخ. اخيرا لا ينبغي ان ننسى الكتاب العميق الذي يحمل العنوان التالي: كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين افلاطون الالهي وارسطو طاليس. وفيه يحاول التوفيق بين مثالية افلاطون وواقعية ارسطو.