الأميركيون يسألون: ما هي هويتنا؟

بعد ترشح باراك أوباما لرئاسة الولايات المتحدة

أميركا الغارقة في حمّى الألوان («الشرق الاوسط»)
TT

أعاد ترشح باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، سؤال الهوية إلى الواجهة. صحيح ان الأميركيين، حاولوا باستمرار تحليل وفكفكة هذه الهوية المختلطة والمعقدة، لكنهم هذه المرة، يبدون أكثر الحاحاً على فهم هذه التركيبة الهجينة التي صعدت بهم عالياً، خوفاً من أن تهوي بهم سحيقاً. ولعل السؤال الأصعب الذي لا جواب عليه، هل هي القيم الأميركية التي ستغلب العولمة ام ان العولمة هي من سيفتت الجبروت الأميركي؟

مؤخرا، القى السناتور باراك اوباما، منافس السناتورة هيلاري كلينتون في الترشيح لرئاسة الجمهورية باسم الحزب الديمقراطي، اول واهم خطاب من نوعه عن المشكلة التاريخية بين البيض والسود في اميركا. استفاد من حقيقة ان والده اسود من كينيا، ووالدته بيضاء من ولاية كنساس. ودعا الى نسيان الماضي، وفتح صفحة جديدة. لكنه، وهو السياسي الذكي، حاول ان يكسب السود بالتركيز على والده الاسود، وزوجته السوداء، وابنتيهما السوداوين، ويبدو انه بفعلته هذه اثار شكوك البيض.

في البداية، صوتوا له باغلبية كبيرة، لكنهم الآن، يبدون غير متأكدين: هل هويته سوداء (بدون اعتبار لأمه البيضاء)؟ ام ان هويته اميركية (بدون اعتبار لامه البيضاء ووالده الاسود)؟

بعد ثلاثة ايام من خطاب اوباما، كتب ديفيد فورم، الذي عمل في البيت الابيض لست سنوات كاتبا لخطب الرئيس بوش، ويكتب الآن في مجلة «ناشونال رفيو» اليمينية: «اعتقد ان أوباما قرر، عمدا، ان تكون هويته اميركية سوداء». وكتب روس دوثات في مجلة «اتلانتك» المستقلة المحترمة: «في البداية، كان يريد هوية اميركية تجمع الجميع. لكن فضيحة القسّ الاسود جيرمايا رايت (والد اوباما الروحي لعشرين سنة، الذي كشفت شرائط فيديو انه يشتم البيض في وعظه الكنسي) اوضحت ان اوباما يريد هوية اميركية سوداء. وشتان بين هذا وذاك». 

زاد خطاب اوباما (وفضيحة فيديو والده الروحي) النقاش عن ماهية الهوية الاميركية. وهذا نقاش عمره عمر اميركا. ومن وقت لآخر، يحدث شيء ما يزيده حدّة.

السنة الماضية، رفع وتيرة هذا النقاش صدور كتاب لأستاذ القانون بيتر سبيرو، المعنون «ما بعد الجنسية: الهوية الاميركية بعد العولمة». على غلاف الكتاب، بدلا عن النجوم الزرقاء والخطوط البيضاء والحمراء للعلم الاميركي، هناك نجوم سوداء، وخطوط صفراء وخضراء، اشارة الى احتمال ان تغير العولمة اميركا اكثر مما تغير اميركا العولمة.

ركز الكتاب على الأميركيين متعددي الجنسية، وقال ان: «الهوية الاميركية نظرية عامة، وتطبيق ضيق»، وأثار ثلاث نقاط:

اولا: صارت الاميركية (اميركانزم) فكرة، بعد ان كانت جنسية فقط.

ثانيا: ربما ستهزم الاميركية العولمة. لكن، ربما هزمت العولمة الاميركية.

ثالثا: اذا انهزمت الهوية الاميركية من الخارج، ستنهزم من الداخل ايضاً بسبب الهويات العرقية: سود ولاتينيون وغيرهم.

يقول قاموس «وبستر» ان الهوية (أيدنتتي) نوعان: فكرية (عن فردية الشخص وخصوصيته)، ووصفية (عن شكل الشخص وصورته). من جانب، يمكن القول ان شخصا ما «ليس متأكدا من هويته» او «هذه هي الهوية التي اختارها» او «سيفقد هويته اذا لم يعد الى وطنه». ومن جانب آخر، يمكن القول: «الشرطة ليست متأكدة من هوية فلان». او «مؤخرا، اكتشف العلماء الهوية الجينية المسببة للسرطان».

تعني الهوية في الرياضيات: «معادلة لا تتغير»، وفي علم النفس: «رأي الانسان في نفسه»، وفي علم النفس الادراكي «تحليل الذات»، وفي علم الاجتماع «جزء من هوية اجتماعية»، وفي المنطق «معنى لا يتغير». وفي التاريخ، يعود اصل اللفظة الى سنة 1560، عندما استعملت ككلمة لاتينية تعني «نفس الشيء». وفي اللغة العربية لا يوجد فرق واضح بين «الهوية» و«الشخصية».

«ابو الهوية» هو اريك اريكسون (هولندي ولد في المانيا، وهاجر الى اميركا، وتوفي قبل 14 سنة). قال ان الاساس هو «انا»، وسماها «هوية الانا»، وقسمها الى هوية شخصية وأخرى اجتماعية. وقال هناك فرق بين «الهوية» و«النفس». الهوية هي «من انا؟» والنفس هي «كيف افكر؟».

واضاف جيمس مارسيا، تلميذ اريكسون واستاذ علم نفس كندي، شيئين:

اولا: يختار الانسان هويته عندما يواجه ازمة هوية. ثم يلتزم بما يحدد (اذا لم يلتزم يكون منفصم الشخصية).

ثانيا: يفضل ان يختار هوية لها صلة بفكرة، لا بمال او شهادة او سلطة. (لان هذه الاخيرة تتغير من وقت لآخر).

ومع تداخل علم الاجناس مع علم الاجتماع، تداخلت الهوية القبلية والعائلية مع الهوية الوطنية. ومع زيادة الحضارة والتعليم، زاد الانتماء الى الوطن.

لكن، ما هي حدود الهوية الوطنية؟ هل هناك هوية ديمقراطية او شيوعية او انسانية او عالمية؟ وهل تعلو هذه فوق الوطن؟ وماذا عن الهوية الدينية؟

حذر مارسيا من ان ينتمي الشخص الى هوية لا يقدر ان يسيطر عليها: ماذا اذا انتمى الى قبيلة تظلم قبيلة اخرى؟ او دولة تحتل دولة اخرى؟ او نظرية مهتزة؟ او عقيدة لا مستقبل لها؟

ازداد النقاش في السنة الماضية، عندما صدر فيلم «أميركان أيدنتتي» (الهوية الاميركية)، بطولة: جيسيكا غارسيا، واللينا اوليفر. الفيلم يقدم مقارنة بين عائلتين عسكريتين اميركيتين، تأثرتا بهجوم 11 سبتمبر. ذهب الرجلان الى الحرب، وترك كل واحد زوجته. وبينما تواجه الزوجتان مشاكل الحياة اليومية، يواجه الزوجان العدو. قال واحد منهما: «اهم حرب هي التي في اعماقنا». وقالت زوجة احدهما: «نريد ان ننسى الحرب، لكننا لا نقدر». وقال المخرج: «ليس للفيلم أي هدف سياسي، وإنما انساني، فالجندي، في النهاية، انسان. وهزات تحدث من وقت لآخر (مثل هجوم 11 سبتمبر، وحربي العراق وافغانستان) تهز الامة بأسرها».

يرينا الفيلم ان الهوية تتعرض لتحديات، تصمد أمامها حين تكون قوية وتعتمد على الإيمان، وتهتز حين تكون ضعيفة وربما انهزمت أيضاً. وتساعد الحرية على مواجهة هذه التحديات. 

وكتب بيل جينكنز، استاذ الأدب في كلية غريشتون (ولاية مسيسبي): «يجب الا يتوقع الناس خارج اميركا ان تكون الهوية الاميركية سهلة وطيبة وبسيطة. نحن خليط من هويات، قررت، بدل ان تحارب بعضها، ان تتعايش. نحن اميركا القبيحة (اسم كتاب صدر قبل اربعين سنة عن اخطاء السياسة الخارجية الاميركية) لكننا، ايضا، اميركا المساعدات، والمنح الدراسية، وتبادل الطلاب واساتذة الجامعات، ووكالة التنمية الدولية».

 سنة 1946 صور فيلم «وندرفول ويرلد» (عالم مدهش) تناقض الهوية الاميركية بين الريف والمدن. حيث ترك البطل جورج بيلي مزرعة والده وجده وذهب الى نيويورك، لكنه وجد ان القيم الاخلاقية في المدن ليست مثل التي في الريف. وبقدر ما انبهر بناطحات السحاب، افتقد اجتماع العائلة في عيد الميلاد حول ديك رومي مطبوخ. يرينا الفيلم ان الهوية الاميركية، مثل بقية الهويات، فيها تناقضات. لكن اساس الهوية هو «الايمان». ركز الفيلم على تاثير الايمان المسيحي (احتفال الميلاد والصلوات والدعوات). وقال هنري والترجين، مؤلف كتاب «هويتنا» ان الايمان يجب ألا يكون مسيحيا، لان ذلك يجعل غير المسيحيين وكأنهم بدون ايمان، وبدون هوية، وأضاف يمكن ان تحلّ اي نظرية محل «الايمان»، ما دامت قوية، ثابتة وأخلاقية.

فيلم آخر يصور هذا النقاش عنوانه «فرونتيرز» (الرواد)، اعتمادا على رواية بنفس الاسم كتبتها فيلا كاثر، عن ريف الغرب الاوسط. يصور الجانب المظلم من الهوية الاميركية: غزو اراضي الهنود الحمر، وطردهم، ان لم تكن ابادتهم. ويصور أيضاً الجانب المضيء: الطموح المتفائل.

وحسب الرواية، ساعد الاصلاح والنهضة والصناعة في اوروبا هذا الطموح والتفاؤل الأميركيين. وساعدت، ايضا، الجغرافيا الاميركية، حيث السهول تمتد الى ما لا نهاية، والجبال ترتفع الى ما لانهاية، والانهار تنهمر الى ما لا نهاية.

معنى هذا ان التعددية العرقية في الهوية الاميركية توازيها تعددية جغرافية. واحسن من وصف ذلك كاثرين بيتز، التي كتبت سنة 1919 قصيدة «اميركا ذا بيوتيفول» (اميركا الجميلة) التي صارت، فيما بعد، النشيد الوطني الاميركي، التي يقول مقطعها الأول: «ايتها الجميلة. ذات السموات الواسعة. وامواج القمح الصفراء. وعظمة الجبال البنفسجية. فوق سهول البرتقال، اميركا، اميركا، ليصب الله نعمته عليك».

 وهناك روايات وافلام صورت الجانب المظلم للهوية الاميركية. مثل ارنست همنغواي الذي كتب رواية فيلم «لوست جينريشن» (الجيل المفقود) عن تأثير الحرب على الطبيعة البشرية)، وسكوت فتزجيرالد الذي كتب رواية فيلم «لاست تايكون» (آخر العمالقة) عن رأسمالي خان زوجته مع عشيقات كان يغدق عليهن اموالا بدون حدود.

  الشهير صمويل هنتنغتون، صاحب كتاب «صراع الحضارات»، يعود في كتابه «من نحن» إلى جذور الهوية الاميركية. ويقول: «لا بد من تأكيد هويتنا الاوروبية البروتستانتية. مع كل الاحترام لاسهامات السود، واللاتينيين، والاسيويين في حضارتنا. ودعا هنتنغتون الى «صحوة»، لم يسمها «صحوة مسيحية» لانه علماني ملتزم. لكن، يبدو واضحا ان الاخلاق المسيحية جزء من الصحوة التي يريدها. وقال: «نحن دولة مستوطنين، لا دولة مهاجرين». هذا تفريق واضح بين الاصل والفرع (لكنه لم يقل ان اولاد المهاجرين يصبحون مستوطنين). ودعا الى ما اسماه «اميركان كريد». حيرت كلمة «كريد» الذين يكتبون عن الهوية الاميركية. فليس المقصود بها الدين، وليست أيضاً «نظرية» مثل الشيوعية والنازية. 

ربما افضل تفسير لكلمة «كرد» هو «الإيمان» الثابت الذي لا يتغير. ما هو اساسها؟ قال هنتنغتون: «بروتستانت ويرك اثيكس» (أي اخلاق العمل المسيحي). لم يقل «الاخلاق المسيحية» لان ذلك يجعل النقاش دينيا، لكنه ربط الدين بالعمل، على اعتبار ان العمل الجاد يحتاج الى اخلاص، والتزام، ونزاهة، وعدل، ومساواة، وطبعا حرية.

اعتمد هنتنغتون في هذا التفسير على جون كالفن (قس فرنسي، كان كاثوليكيا، ثم انتقل الى البروتستانتية، وتوفي سنة 1564). وهو خليفة مارتن لوثر، الالماني، ابو الاصلاح الديني (توفي قبل كالفن بعشر سنوات). في رأي كالفن ان «طاعة الله والعمل الصالح يمحوان الذنوب». لذلك فالعمل الصالح جزء من طاعة الله.

وكان ثالث الثلاثة هو ماكس ويبر (الماني توفي سنة 1920). مؤلف كتاب «الاخلاق المسيحية وروح الرأسمالية». غير ان ويبر انتقد الديانات الاخرى، وقال انها تتحمل مسؤولية «كسل» شعوبها. واشار الى كسل البرازيليين لأنهم كاثوليك وكسل الشرق اوسطيين لأنهم مسلمون.

وسار هنتنغتون على خطاه. وانتقد شعوب العالم الثالث، وخص بالنقد المسلمين، وقال ان المواجهة ستكون معهم في «صراع الحضارات». طبعا، لم يعرف، او لم يقل، ان العمل عبادة في الاسلام ايضا.

وداخل اميركا انتقد ما يسمى «ملتيكلشرزم» (الثقافات غير الاوروبية). و«كومسوبوليتانزم» (ثقافة الصفوة في المدن). و«ملتي ناشوناليزم» (عدم التزام الشركات بهوية دولها). و«بايلنغوالزم» (غير اللغة الانجليزية).

اتهم لويس ميناند، الكاتب في مجلة «نيويوركر» الشهرية الثقافية هذه الآراء كلها، وقال انها تثير الفرقة. وانها «ليست إلا صورة من صور استعلاء الرجل الابيض. فهي تحصر الهوية الاميركية في اللون الابيض والدين المسيحي».

لكن، هنتنغتون، رغم انه قال ذلك، قال نقطة اخيرة هامة. ففي رأيه «صحيح ان الهوية الانجلوساكسونية مرتبطة بعرق البيض الذين جاءوا من اوروبا. لكن الفكر اهم من العرق». واضاف: «حتى بعد ان يموت آخر «واسب» (اشارة الى البيض البروتستانت الاميركيين)، ستظل الهوية الاميركية انجلوساكسونية».

ربما يبدو هذا، نفسه، تفرقة بالنسبة للاميركيين السود، والسمر، والصفر. (ولن يقبله القس الاسود جيسي جاكسون، وربما لن يقبله السناتور باراك اوباما، نصف الأسود). لكن هنتنغتون -على الاقل- فرق بين الفكر واللون في الهوية الاميركية. ثم ان بيتر سبيرو، مؤلف كتاب «الهوية الاميركية والعولمة»، قال ان الهوية الاميركية يمكن ان تكون عالمية، فيها كل الالوان، والاديان.