السينما تعيد لرعاة الصحراء اعتبارهم الوطني

البداوة هي فن مقاومة العنف بالحرية

الطالب البدوي احمد الهذالين («الشرق الاوسط»)
TT

يحافظ احمد عبد الله الهذالين (20 عاماً)، على خصائص ثقافية ميزت البدو الذين ينتمي اليهم، وهم مبعثرون الآن في صحراء البحر الميت، بينما تعيش مجموعات منهم في البادية الممتدة شرق نهر الأردن والبحر الميت، ضمن حدود المملكة الأردنية الهاشمية.

ويدرس الهذالين، في جامعة القدس، ويعيش في بيت من صفيح حياة بدائية، من دون كهرباء أو تمديدات صحية، قرب جبل المنطار، أحد معالم صحراء البحر الميت. ويتعين على الهذالين، أن يقطع كل يوم اكثر من 30 كلم ذهابا وإيابا إلى جامعته، مستخدما الحمار، وهو رفيقه الدائم الذي يراجع دروسه وهو يمتطيه.

وفي طريقه يمر، الهذالين، بالمستوطنات اليهودية، المبنية على الطراز الأوروبي، وبعضها اصبح مدنا كبيرة، والفرق بين عالم الاستيطان اليهودي ذي الصبغة الأوروبية، وعالم الهذالين البدائي، كبير إلى درجة لا يمكن وصفه، وان كان ازدهار العالم الأول، تم على حساب البدو، الذين يصارعون في عملية قدرية تشبه محاربة طواحين الهواء.

وأدت حرب 1948 وما تبعها إلى تبعثر العشائر في الصحراء الفلسطينية، بعد عملية استيطان كبيرة ودؤوبة، نفذتها الدولة العبرية، في صحراء النقب. ففي عام 1948 بلغ سكان النقب 105 آلاف نسمة، وبإنشاء إسرائيل وتشريدهم لم يبق منهم سوى 13 ألف نسمة، يعيش معظمهم في قرى غير معترف بها من قبل إسرائيل، وهذا يعني أنهم يعيشون في تجمعات سكنية محرومة من المياه والكهرباء والخدمات الصحية والدراسية ومن كل شيء.

وبمناسبة يوم الأرض نهاية الشهر الماضي، أعد مركز عدالة، الذي يعنى بالقضايا الحقوقية للفلسطينيين داخل اسرائيل، فيلما تسجيليا بعنوان «غير المعترف بهم» يتطرق إلى معاناة الفلسطينيين في النقب.

يبدأ الفيلم من «وادي زبالة» الذي ضم إلى «كيبوتس شوفال». وهذا الوادي هو موطن عشيرة أبو قيعان، التي شردتها سلطات الاحتلال من المكان عام 1956. ويقول الشيخ حسن أبو قيعان الذي يقترب عمره من التسعين، بأن وادي زبالة، هو للعرب وليس لليهود، وأنه يريد أن يموت ويدفن فيه.

وروى شهود عيان من عشيرة أبو قيعان، كيف تم إجلاؤهم عن أرضهم بالقوة، وكل من رفض أطلق جنود الاحتلال النار عليه. ويقول خليل أبو القيعان في الفيلم «نحن لم نتخل عن أرضنا، نحن ننتظر الأرض وهي تنتظرنا وسنعود إليها». ونقل أصحاب وادي زبالة، إلى قرية غير معترف بها اسمها (أمّ الحيران)، ورغم أن عمرها يزيد عن 50 عاما، إلا أنها ما زالت محرومة من الخدمات، ويتهدد منازلها خطر الهدم.

ويظهر الفيلم مدى المآسي التي تعيشها القرى غير المعترف بها في النقب، فمثلا في قرية (السر) العربية، يمر خط مياه، ولكن القرية محرومة منه، ويمر من أراضيها خط كهرباء، لكنه ممنوع عليها. وتعاني قرى أخرى، من مشاكل معقدة مثل (امّ بطين) التي يسير فيها وادٍ من المجاري المكشوفة، بطول 3 كلم، ويمكن تخيل المعاناة متعددة الأوجه للأهالي. ومن المشاكل التي يعانيها السكان عدم السماح لهم بالزراعة، ويتم رش مزروعاتهم بالمبيدات السامة من الجو للقضاء عليها.

ما لم يتطرق له الفيلم، هو استهداف من نوع آخر، داعب رواد الحركة الصهيونية، قبل إنشاء الدولة العبرية. فهؤلاء مع جماعات إنجيلية رأوا في وجود البدو طوال آلاف السنين في الأراضي المقدسة، محافظين على أسلوب حياة بدائي يعود إلى زمن الأنبياء الآباء، تصديقا لتاريخ وجغرافية التوراة. وبدأ هؤلاء يسيرون الرحلات الاستطلاعية إلى مضارب البدو، للتعريف بأسلوب الحياة التوراتي، معتبرين البدو أحفاد اليهود الأوائل، الذين اجبروا لاحقا على اعتناق المسيحية واليهودية.

ولكن هذا الافتتان بالبدو، لم يصمد أمام أحلام إنشاء دولة يهودية خالصة، فتم تشريد معظمهم، واصبحوا لاجئين، وقسم منهم غادر إلى صحراء البحر الميت، التي تسكنها عشائر بدوية أخرى، تحول كثير منهم إلى الاستقرار. وحافظ هؤلاء في صحرائهم الجديدة على أسلوب حياتهم، ولم يستسلموا لاغراءات الحياة الحديثة كالكهرباء، وتمديدات المياه، وظلوا جوّابين للبيداء، الثرية بالمعالم الأثرية والحضارية. ويرجع الفضل لهم في الكشف عن كثير من كنوز الصحراء، واشهرها ما عرف بمخطوطات البحر الميت. وحدث انعطاف كبير في حياة هؤلاء، بعد احتلال إسرائيل، لما تبقى من فلسطين، في حزيران (يونيو) 1967، وتم إجلاؤهم من المناطق الحدودية الجديدة، واعتقال العشرات منهم بتهمة مساعدة الفدائيين الفلسطينيين، ووصل الأمر لإعدام بعضهم لمشاركتهم في المقاومة، وتمت السيطرة على منابع المياه، والعيون، والمراعي، وإجلاؤهم عنها.

وخلال عملية الاقتلاع، تخلى كثير من البدو عن أسلوب حياتهم الصحراوي، بينما استمر آخرون فيه مثل راع شاب عمره 30 عاما، قال لـ«الشرق الأوسط»، وهو يقف على مرتفع صخري يطل على البحر الميت «بالنسبة للآخرين أسلوب حياتنا يبدو صعبا، لكننا لا نستطيع أن نعيش إلا هكذا، نحن أبناء الصحراء، ولدنا فيها، ولا نستطيع العيش إلا فيها». ويقول الشاب بأن تطورات طرأت على حياتهم كبدو، مثل تأخر سن الزواج، ليصبح المتوسط عشرين عاما، وليس 15 كما كان في السابق، وان كان الغالب عندهم زواج الأقارب. نساؤهم يمارسن أعمالا اقرب إلى الفلاحة، مثل قطف النباتات البرية التي تنمو في الصحراء، وأصبحت مرغوبة من قبل المستهلكين في المدن. وعلى الضفة الثانية لنهر الأردن والبحر الميت، تبدو صورة البدو الذين وصلوا إلى هناك بعد هزيمة عام 1967، مختلفة بعض الشيء عن مثيلاتها غربا.

وفي شهر شباط (فبراير) الماضي وصلنا إلى مضارب عشائر الجهالين والعزازمة هناك، الذين حافظوا على بيوت الشعر والرعي، والزواج المبكر، وكثيرون منهم يولدون ويموتون من دون أن يسجلوا أنفسهم في السجلات الرسمية الأردنية. وعلى جانبي نهر الأردن والبحر الميت، تستمر الجماعات البدوية، بإصرار عجيب، مخالف للتطورات الهائلة التي طرأت على العالم، في مواصلة نمط حياة لا يعرف أحد متى بدأ، في مكان يعتبر مسرحا لأشهر الصراعات العالمية.