حصر منظومة القيم الأساسيّة في قنوات محددة لخدمة أغراض معينة

تقنيات سرّية لوسائط الاتصال في استغلال المستهلكين

TT

يــــستكمل البـــروفيسور الأميركي «ويسلون براين كي» مشروعه التنقيبيّ المتمحور حول هيمنة الإعلان على عقل المستهلك في المجتمعات الغربيّة والولايات المتحدة خصوصاً، فبعد الضجة التي أثارها كتابه السابق (الإغواء اللاشعوريّ Subliminal Seduction)، الذي تناول فيه أساليب الخداع المرئيّ و«لا براءة» الإعلان البضائعيّ التسويقيّ، يتناول هنا في كتابه الجديد (الاستغلال الجنسيّ في وسائط الاتصال) خفايا طرق وأساليب تسخير اللاوعي البشريّ الذي يمارسه أساطين الإعلام الرأسماليّ لتوجيه السلوك البشري الاستهلاكيّ والسياسيّ نحو الوجهة التي يريدونها من خلال بثّ مُستحثِّاتٍ يتمُّ إخفاؤها داخل الصورة بحيث لا تلتقطها سوى بصيرة اللاّوعي عند المشاهد.

المؤلّف يرى بأنّ العديد من الإعلانات التي تُقدَّم للجمهور في وسائط الإعلام إنما هي مصمّمة، وبشكل قصديّ، من أجل تحفيز الرغبة والتعلّق المَرَضيّ اللذين كشف علم النفس عن وجودهما في لاوعي المستهلك كترسبات متبقيّة من مراحل تطوّر الشخصيّة أثناء حقبة الطفولة.

ينطلق البروفيسور «كي» في نظريته هذه من فرضية سيجموند فرويد Sigmund Freud التي تقول بأنّ ممارسة الفنّ تتيح للذات البشريّة فرصةً لاستخدام الخيال لتحقيق الرغبات المكبوتة أو المقموعة في الحياة الاعتياديّة، إمّا بسبب عوائق خارجيّة أو بسبب التحريمات الأخلاقيّة الداخليّة. فالرموز والبدائل في الفنّ قادرة على إثارة العواطف الحقيقيّة، لأنّ الفن ـ حسب تعبير فرويد - يحلّ محلَّ البرزخ بين عالم الواقع الذي يحبط الرغبات وبين عالم الخيال الذي ينجزها. والمؤلف هنا يضع كلمة «إعلان» مقابل «فنّ» في الفرضية الفرويديّة، حيث يرى أن مراحل التطوّر البشريّ الفمويّة والشرجيّة والأوديبيّة تشكّل الأساس المنطقيّ وراء معظم الاعلانات، فالأطفال، طبقاً لفرويد، ينمون عبر سلسلة من المراحل المختلفة الديناميكيّة في السنوات الخمس الأولى من حياتهم. فالإحباط والقلق، اللذان يرتبطان بكل مرحلة من مراحل النضوج في هذه الحقبة من حياة الطفل، يتمّ استغلالهما بشكل غير مباشر عبر بثّ معلومات إيحائيّة استرجاعية للسيطرة على دماغ المستهلك.

* الجنس في السياسة والبسكويت

* يقدّم لنا علماء النفس، ابتداءً من فرويد ومروراً بيونغ وجون واطسن، نظريةً مُبسّطةً للغاية فيما يتعلّق بالنموذج المُفترض لعمل الدماغ من خلال تقسيمه الى منظومتين أساسيتين: الوعي واللاوعي. وبالرغم من أنّ هاتين المنظومتين تندمجان في عملها بشكل كبير فإنّ لكلَّ منظومة منهما القدرة على العمل بشكل مستقل عن الأخرى، فالمعلومات الحسّية تتمّ تغذيتها الى داخل الطبقة الخارجية للدماغ (اللّحاء العقليّ)، حيث يتمّ هناك تحويل مقدار ضئيل من المعلومات الى الوعي، وقسم آخر يتمّ توجيهه الى حافظة اللاّوعي، حيث يتمّ التخلّص من المعلومات العديمة الصّلة. كما تتحول المُدرَكات الحسّية المُحرَّمة أو المُهدِّدة الى منطقة اللاوعي أيضاً. فمنطقة اللاوعي تشتمل على نظام تخزينيّ هائل في الذاكرة، خصوصاً تلك المعلومات التي يتمّ رفضها في منطقة الوعي لصعوبة التعامل معها لكونها غير منطقيّة أو متناقضة أو محرَّمة، وهذه الذاكرة اللاشعوريّة مذهلة واستثنائيّة، إذْ يمكنها خلال عمليات الاسترجاع ـ أثناء التنويم المغناطيسيّ - القيام باستردادٍ دقيقٍ لمعلومات جرى نسيانها وتخزينها في العقل الباطن، كأحداث الطفولة مثلاً. إنّ الكلمات ذات الشحنة العاطفية أو المُحرَّمة مثل كلمة «جنس Sex» تثبت بشكلٍ مُحكَمٍ في أرشيف العقل الباطن لفترات طويلة جداً، ومن الممكن أن تستمرّ الى الأبد.

من هذا المنطلق يطرح البروفيسور «كي» نظريته حول «الإخفاء اللاشعوريّ»، أي الإخفاء المتعمَّد لرموز مقصودة يتمّ إدراكها من قبل المشاهد بشكل لا شعوريّ، وهو أحد أنواع الإخفاء الذي يتمّ استخدامه لغزو واغتصاب منطقة اللاوعي عند المُتلقّي. فكلمة «جنس Sex» مثلاً ذات الأحرف الثلاثة، مُخبّأة دائماً في الدعايات والإعلانات وحتى الأفلام السياسيّة، ولا يتمّ ادراج هذه الحروف بشكل مرئيّ في الإعلان بل تُدرج بشكل خفيّ لكي تتمكّن منطقة اللاشعور، الحسّاسة للجنس والموت والمتناقضات، من إدراكه بقوّة. ففي إحدى الحملات الانتخابية للكونغرس الأميركي في ولاية فرجينيا تمّ الكشف عن إخفاء وتمويه كلمة (Sex) في الملصقات الإعلانية لجميع المرشحين، باستثناء واحدٍ فقط تبيّنَ أنّه لم يكن بمقدوره تمويل أو استئجار وكالة إعلانية لتدشين حملته الانتخابية. وفي مراجعة قام بها المؤلف لآلاف من أغلفة المجلات والإعلانات والصور الإخباريّة استطاع الكشف عن ثماني كلمات تمَّ إخفاؤها في ثنايا الصور، وجميعها تشترك بكونها ليست من كلمات التواصل اليوميّة، بل من الكلمات المُحرَّمة، كما كشف أيضاً عن كميّات كبيرة من مفردات اللاوعي اللّغوية التي تتعلق بالموت ورموزه، كالجماجم المخبأة في مكعّبات الثلج أو الغيوم .. إلخ، كما أن كلمات مثل (موت Death, Deth) غالباً ما تكون مُخبّأة في خلفيّات الصور والرسوم.

عيّنة أخرى يقدمها لنا البروفيسور «كي» تتعلّق بالتحفيز اللاشعوري في الإعلان، وهذه المرة ليس في إعلانات البضائع ولا ملصقات المنتخبين، بل في المواد الغذائية ذاتها ويختار لنا إحدى ماركات البسكويت الشهيرة باسم «ريتز»، حيث يكشف عن وجودٍ خفيٍّ لمفردة Sex على جانبي البسكويتة وبشكلٍ فسيفسائي، فسلسلة كلمات Sex تبدو كما لو أنها كانت محفورة في القوالب ممّا يسمح للعجين بالبروز مظهراً تلك الكلمات. وعندما يتمّ خبز تلك البسكويتات فإنّ القوالب التي تحمل في داخلها كلمة Sex تقوم بالتبديل بين بسكويتة وأخرى لتعطي تنوّعاً في الكثافة الكتابية. التضمين الخفيّ يجعل من طعم الأشياء الكريهة لذيذاً، كما أنّ إضافة أهمية عاطفيّة الى قيمة البسكويت، من خلال إدراك اللاشعور للكلمة المُخبّأة، من شأنها أن تصل بتلك القيمة الى الدوافع الغريزيّة الجنسيّة اللاشعوريّة عند الفرد، والذي يعدّ النظام الأقوى بين الدوافع البشريّة.

* طنين النحل وقناع الموت

* مثال آخر يقدمه لنا المؤلف عن أساليب استعمال «النماذج البدائيّة» في السينما لاستدعاء نوازع الموت والتدمير الكامنة في اللاشعور في تشريح تحليليّ لأحد أفلام الرعب الشهيرة، وهو فيلم «الراقي The Exorcist» الذي أخرجه وليم فريدكين William Friedkin عام 1973، وتدور قصّته حول فتاة صغيرة حلّ فيها الشيطان ودفعت تصرفاتها الغريبة أمَّها الى اللجوء الى طبيب ينصحها بدوره أن تلجأ الى الكاهن الذي سيقوم بتطهيرها. (يلعب دور الكاهن هنا الممثل السويدي الكبير ماكس فون سيدو Max Von Sydow).

قبل عرض الفيلم تمّت تهيئة الجمهور سايكلوجيّاً منذ البداية وإعداده للرحلة العاطفيّة المُستحثَّة لا شعوريّاً بواسطة سيل من الإعلانات والدعاية المكثّفة التي سبقت عرض الفيلم وبأساليب تشويقيّة على طراز:«الراقيّ ليس رواية فقط، بل حكاية كابوسيّة عن التلبّس الشيطانيّ»، أو «شاهد الفيلم!، إنّه أشدّ رُعباً من كل ما يمكن أن يحدث لك». وحين عُرض الفيلم في المدن الرئيسيّة حدثت أشياء غريبة؛ اعدادٌ كبيرةٌ من الجمهور أصيبت بحالات من التقيّؤ بدرجات متفاوتة، وقسم آخر منهم صار يعاني من كوابيس مُقلِقة جدّاً، أمّا عمّال السينما في دور العرض فقد وُضعَ بعضُهم تحت الرعاية الطبيّة، بينما ترك بعضهم وظيفته نهائيّاً. ولم تكن هذه الحالة تخصّ مدينةً لوحدها فقد تبيّن أنّ كلّ مستشفى رئيسيا في المدن التي عُرض فيها الفيلم استقبلت دزّينات من حالات الإغماء والغثيان والهستيريا!

من غير المنطقيّ، يقول البروفيسور «كي»، أن تكون هناك مُحفِّزات مُدرَكة أو محسوسة شعوريّاً يمكنها أن تنتج مثل هذه الكثافة من الاضطرابات العاطفيّة، فدفاعات الإنسان الإدراكيّة مُنظَّمة جدّاً وبشكلٍ ممتاز يمكّنها من حماية الأشخاص من معظم التجارب المزعجة التي قد يمرون بها. لكنّ المحفِّزات اللاشعوريّة، من ناحية أخرى، أكثر مكراً بكثير ويُعتقد بأنها مسؤولة عن الحالات النفسيّة السلوكيّة للصلات، المزاج، الميول العاطفيّة، وأنظمة القيم المتبقية. فليس هناك من إمكانيّة للدفاع أو اتخاذ أي قرارْ عقلانيّ، لأنّه قد تمّ تجاوز العقل بالكامل.

إحدى أكثر التقنيات البَصَّريّة فعاليّةً لتحفيز اللاشعور في هذا الفيلم كانت عروض شاشة كاملة لجهاز «تاكيستو سكوب» الذي يعتمد على الومضات السريعة المتتالية لإيصال رسالة ما الى العقل الباطن للمُشاهِد وتُستعمل كثيراً في إعلانات التلفزيون التجارية لترسيخ أوامر استهلاكيّة لبضاعة ما في اللاشعور لا يستطيع العقل الواعي عادةً التقاطها. في أوقات عديدة أثناء الفيلم كان ثمّة وميض مفاجئ من الضوء يظهر فيه وجه الأب كارّاس - بشكل مؤقت - وكأنّه «قناع الموت» على الشاشة؛ كان الجلد أبيض دهنيّاً، الفم ثغرة حمراء قانية، وكان الوجه محاطاً بما يشبه القلنسوة أو الكفن الأبيض. حين قام المؤلف، بمساعدة إحدى مديرات المسارح، بفحص بكرات الفيلم وإظهار سلسلة الصور التي تتعلّق بحلم الأب كارّاس اكتِشفَ وجود خطوط خارجيّة حُمر حول الفم والعينين، بدت لأحد الموظفين وكأنها «وجه الشيطان»، وتبيّن أنّ تلك الصورة اللاشعوريّة تتألف من إطارين فقط تمّ ربطهما بالفيلم.

منتجو الفيلم «الإخوة وارنر»