كيف يمكن للمجتمع المتعدد الثقافات أن يحافظ على تماسكه؟

التعددية الثقافية وما يتفرع عنها من مفاهيم الهوية والخصوصية والاختلاف

TT

يناقش مؤلف هذا الكتاب، بيخو باريخ، جملة من المشكلات التي ما زالت الثقافة العربية، أو المجتمعات العربية ترفض الدخول في نطاقها الفكري، وتنكر في كثير من اللامبالاة وجودها، أو تحاول الالتفاف عليها والتخفيف من آثارها المباشرة أو الجانبية على بنية هذه المجتمعات، أو تحاول تحويرها والاستفادة منها كآلية من آليات الدفاع عن النفس في مواجهة أعدائها الخارجيين. أبرز هذه المشكلات هي مفهوم التعددية الثقافية، وما يتفرع عنه، أو ما يتعلق به من مفاهيم مثل سياسات الاعتراف، والهوية، والخصوصية الثقافية، والاختلاف.

ينتمي مؤلف الكتاب إلى مجموعة من الدارسين الذين أخذوا ينظرون إلى الغرب خارج منظور رؤيته لنفسه كمركز، وذلك في مجال البحث عن الخصوصيات الثقافية التي تميز الكثير من الفئات، والحركات، التي تعيش داخل هذا الغرب، وتعاني من محاولات المحو الثقافي، ومساعي الاندماج، في ظلال الثقافة السائدة. وتستخدم هذه الفئات مفهوم الهوية للإشارة إلى تلك السمات الموروثة، أو المختارة التي تعينها كأنماط محددة من الأفراد والجماعات، التي يعتبرونها جزءا لا يتجزأ من فهمهم لذواتهم. ولاحقا سوف تطالب هذه الفئات بحقها في الاعتراف بأنها مختلفة عن المجتمع الذي تعيش فيه، وعن الفئات الأخرى الموازية لها، وتدعو إلى احترام هذه الاختلافات، بناء على النظر إليها على أنها طرائق وجيهة ولائقة لتنظيم مجالات الحياة برمتها لا مجرد انحرافات مرضية يجري تقبلها على مضض. وهو ما سيشكل مضمون الخطاب الثقافي المتمحور حول سياسات الاعتراف. اللافت أن الكاتب يشير إلى أن سياسات الاعتراف التي تتمتع بمنطقها الذاتي والمستقل ترتبط بصورة وثيقة مع سياسات أقدم عهدا وأكثر انتشارا، كانت وما زالت تطالب بالعدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروة، أي بالمطالب ذات الطابع الاقتصادي، المرتبط ببرنامج ثقافي ضمني ومعلن. لكن المؤلف لا يعود إلى هذا الموضوع، أو يناقشه ويعرض الجوانب التفصيلية المتعلقة به في ِأي مكان من كتابه،ما يخلف نقصا بارزا، أو ثغرة خطيرة لطالما نفذ منها نقاد نظرية التعدد الثقافي حيث يتهمونهم بأنهم أغمضوا أعينهم عن المشاكل الاقتصادية الملحة التي يعاني منها المجتمع، وما عادوا يلتفتون إلى المضمون الاقتصادي «للثقافة» أو إلى علاقة الثقافة بالمجتمع. تشير عبارة متعدد الثقافات إلى حقيقة التنوع الثقافي، وهي حقيقة موجودة في العديد من المجتمعات البشرية، في حين تشير عبارة التعدد الثقافي إلى الاستجابة السلوكية والمعيارية لتلك الحقيقة، أي أن المجتمع التعددي يتجاوب مع واقع تنوعه الثقافي بإحدى طريقتين: فقد يرحب بتعدديته الثقافية ويرعاها، ويجعلها محور فهمه لذاته، فيحترم المتطلبات الثقافية للمجتمعات المؤسسة له. أو قد يسعى إلى تمثيل تلك المجتمعات ودمجها ضمن السياق العام للثقافة السائدة كليا أو جزئيا. في الحالة الأولى يعتبر المجتمع تعدديا، وفي الحالة الثانية يعتبر أحادي الثقافة في توجهاته.

يناقش المؤلف في الجزء الأول من كتابه تاريخ النزعتين الطبيعية والثقافية فيما يخص الإنسان في المجتمع، ففيما يرى الطبيعيون أن البشر كائنات ثابتة لا تتغير، ولم تترك نظمهم إلا حيزا ضيقا تلعب الثقافة فيه دورا خلاقا، وإبداعيا، بينما يجد أنصار النظرية الثقافية بأن البشر كائنات ثقافية، بل إنهم (أي البشر) يختلفون من ثقافة إلى أخرى، وقد لا يشتركون إلا بالحد الأدنى من الخاصيات المشتركة.

وقد احتاجت البشرية إلى مخاض فكري عسير، كي تتمكن من الانتقال من النزعة الأحادية الأخلاقية التي مثلها أفلاطون وأرسطو في الفلسفة اليونانية، والقديس أوغسطين، وتوما الأكويني، في الفكر المسيحي، وكل من جون لوك وجون ستيوارت ميل في الليبرالية الكلاسيكية، حيث جرى الدفاع عن الرأي القائل بأن ليس هناك إلا طريقة واحدة مثلى أو صحيحة أو إنسانية لعيش الحياة الكريمة.وهي الحياة التي وصفها كل واحد من هؤلاء على حدة، مع الإشارة إلى أن المؤلف قد اختارهم كممثلين لاتجاهاتهم الفكرية وحسب. كانت الليبرالية أكثر المبادئ السياسية التي تقبلت موضوع التنوع الثقافي، غير أنها لم تصل إلى مرحلة النضج إلا في القرن الثامن عشر، على يد مفكرين من أمثال فيكو مونتسكيو وهيردر، ثم رسخت كنظرية متكاملة على يد مفكرين مثل جون رولز جوزيف راز وويلي كيميلكا، في النصف الثاني من القرن العشرين.

قبل أن ينتقل إلى القسم الثاني من كتابه، حيث يحاول رسم معالم نظرية شاملة للمجتمع متعدد الثقافات، يعرف الثقافة بأنها «مجموعة من المعتقدات والممارسات التي تتفهم من خلالها فئة من الناس ذاتها، وتعي العالم المحيط بها، وتنظم على أساسها حياتها الفرية والجمعية». وتعريفه هذا مهم في بحثه، إذ سوف يتوصل من خلاله إلى الأسباب التي تجعل التنوع الثقافي قيمة إيجابية علينا تشجيعها ورعايتها، من دون أن ننظر إليها في الوقت نفسه كحقيقة مطلقة. وبالمقابل ينشأ السؤال المهم الآخر، وهو: كيف يمكن للمجتمع المتعدد الثقافات أن يحافظ على لحمته، وتماسكه، وكيف يمكن أن يطور الحس المشترك بالانتماء، أو كيف يحقق الجمع بين متطلبات الوحدة السياسية، وضرورات التنوع الثقافي. تستطيع الدولة الحديثة فقط أن توفي بهذه المتطلبات، وهي الدولة التي قامت على أساس أن منح الهوية للإنسان ينهض على ارتباطه بأرض الدولة أولا، لا على انتمائه الثقافي، أو ولاءاته الأخرى، وبهذا المعنى ينصرف انتباه المواطن عن طبقته الاجتماعية، وانتمائه الإثني، وديانته، ومكانته الاجتماعية، إلى نظام مشترك للسلطة، ولكن مثل هذه الهيكلية قد تصبح أداة للظلم والقمع في المجتمعات متعددة الثقافات، وتتسبب من بعد في حالات من عدم الاستقرار، والحركات الانفصالية.

يرى المؤلف الحل في فكرة تعريف الهوية الوطنية، إذ يجب أن يشمل هذا التعريف قبول جميع المواطنين كأعضاء متساوين في القيمة والشرعية في المجتمع، وأن تتموضع هذه الهوية ضمن بنية المجتمع السياسية، وليس بين الصفات الشخصية المشتركة للأفراد، ،وأن تسمح الهوية الرؤية السائدة للهوية الوطنية بوجود الهويات المتعددة من دون توجيه تهمة الولاءات المقسمة إلى الأشخاص المعنيين.

يعمل المؤلف في القسم الثالث من كتابه على مناقشة عدد من القضايا والمشاكل العملية المستمدة من واقع المتجمعات الغربية مثل قضية الحجاب، والختان، وتعدد الزوجات، وفي رأيه أنه لا يمكن الحكم على أية ممارسة ثقافية بمعزل عن سياق المجتمع الأوسع وعن تبعاتها المحتملة على المدى البعيد. ويناقش في فصل مستقل، يحتاج في الحقيقة إلى عرض واف قضية الآيات الشيطانية، ومسائل السياسة والدين وحرية التعبير.

وفي رأيه أيضا أن من المناسب إيجاد منتدى عام تجري فيه مناقشة المواضيع العامة بحيادية وترو، وهو رأي طوباوي تماما، خاصة حين يتعلق الأمر بمشكلة تخص المجتمعات التي لم تحقق بعد أي تقدم في شأن موضوعات التعدد الثقافي.