دع الطفل الذي كنته يوما يقودك

خوزيه ساراماغو في «ذكريات صغيرة»

TT

في السيرة الموجزة عن حياته التي قدمها الى رئيس لجنة جائزة نوبل، كتب الروائي البرتغالي خوزيه ساراماغو: «بعد مدرسة الصنايع، اشتغلت ميكانيكيا في مرآب للسيارات لمدة عامين، أصبحت حينها زائرا منتظما، في الأمسيات، للمكتبة العامة في لشبونة، وما كان دليلي فيها سوى فضولي وحبي للمعرفة، اللذين طورا وصقلا متعتي للقراءة».

عن هذه المرحلة من حياته، وعن طفولته، يدور أحدث كتب ساراماغو، «ذكريات صغيرة»، يسجل فيه سيرة حياته حتى سن الخامسة عشرة. طفولة توزعت بين قرية آزينهاغا، التي شهدت ولادته، ومدينة لشبونة التي رحلت عائلته اليها وهو لم يبلغ السنتين بعد. كتاب صغير بحجمه، لكنه غني بألق الشاعر. بين صفحاته صور عتيقة لساراماغو الطفل والفتى ولأهله مرفقة بتعليقه عليها.

ظل مشروع كتابة سيرة حياته قائما لسنوات عديدة، وطالما تحدث الكاتب عنه، لكنه في النهاية اختار أن يكون سردا بسيطا للسنوات الخمس عشرة الأولى من حياته، في المدينة الكبيرة، وفي القرية التي كان يقضي عطلاته فيها في منزل جديه. تفاصيل صغيرة صاغت فيما بعد الرجل الذي سيحترف الأدب في عمر متأخر، ويغدو من أكبر كتّاب العصر.

لا تبدو البيئة التي عاش فيها، وكما هو واضح من الصفحات الأولى للكتاب، تمت بصلة الى عالم الأدب، ففي قرية آزينهاغا، «التي وجدت منذ فجر الأمة البرتغالية»، عاشت عائلته تمتهن الفلاحة والكدح، وفي المدينة سيضطر الفتى خوزيه الى ترك المدرسة كي يعمل ليساعد عائلته. طفولة تنتهي، كما في أغلب البيئات الفقيرة، في عمر مبكر، لكنها تبقى في الذاكرة صورا مضيئة. عن هذا العمر، يكتب: «لا أعرف ما هو الحال مع الأطفال الآن، لكن في ذلك الزمن الماضي البعيد، كان الوقت يبدو مؤلفا من نوع فريد من الساعات؛ بطيئة، طويلة ليس لها نهاية. لقد استغرقني الأمر سنوات عديدة كي أفهم ان كل ساعة لا نهائية إنما تُعَد ستين دقيقة، وفيما بعد سأتأكد ان هذه الدقائق كلها تنتهي بعد ستين ثانية...»

يقدم الكاتب طفولته بتفاصيلها العادية، التي يعيشها كل منا. يتحدث عن حبه الأول، لفتاة البيت المجاور التي تكبره عمرا، عن جاره الشاب الذي يصيبه الجنون من فرط القراءة والدراسة مثل دون كيخوته، عن دور السينما التي كان يُسمح للطفل الصغير، بصدارته وسرواله القصير وأنفه الذي يسيل، بدخولها، وفيها يتعرّف على تشارلي تشابلن وبستر كيتون والبدين والنحيف. مع هذا فقد كان للشقاء حضور في هذه الطفولة، إذ ترك فيه موت أخيه الأكبر أثرا لا يمحى. مع أنه لا يتذكر هذا الأخ، فقد كان في الثانية حين توفي فرانشسكو عن عمر الرابعة، الاً ان هذه الخسارة رافقته طيلة حياته. يكتب: «قبل سنوات حين وردت فكرة كتابة ذكريات ما عشته في الطفولة، طرأ لي في الحال بما يشبه اليقين بأني سأتحدث عن موت أخي فرانشسكو «لأن حياته كانت قصيرة جدا». في الكبر يظل سؤال موت هذا الأخ يلاحقه، فيقرر القيام بالبحث في دائرة الأحوال المدنية والمستشفى الذي مات فيه. يقول: «أعتقد حقا أن رواية «كل الأسماء» ما كان لها أن تغدو ما هي عليه، لو لم أتقصّ وأبحث بشكل دقيق، في عام 1996، عن ما حدث لأخي فرانشسكو». بين صور الكتاب صورة لأخيه، كتب ساراماغو تحتها هذا التعليق: «هذا هو فرانشسكو، الذي لم أجرؤ على الاستغناء عن صورته أبدا. لقد عاش حياة جد قصيرة، ماذا يا تُرى كان سيصبح عليه. أحيانا أفكر بأنني، من خلال حياتي، كنت أحاول أن أعيش حياته».

كما في رواياته، فإن للمكان حضورا بارزا في هذا الذكريات، إذ نتعرف على جغرافية القرية والمدينة الكبيرة اللتين تقاسمتا طفولته، حين يستعيد بدقة أسماء الأماكن والشوارع التي تقع فيها منازل الطفولة. عن مدينة الصبا يكتب: «لشبونتي كانت دائما مدينة الأحياء الفقيرة، أو على الأكثر أحياء الطبقات الوسطى. وبرغم ان الظروف قادتني فيما بعد للتعرف على عوالم أخرى، فإن أَحَب وأثمن ذكرياتي ما زالت دوما عن لشبونة السنوات الأولى من حياتي، لشبونة الشعب الذي يملك مالا قليلا وقلبا كبيرا، ولم يزل ريفيا في عاداته وتصوّره عن العالم».

نقتطف هنا المقطع الذي يتحدث فيه عن كتابه «ذكريات صغيرة»: «آن الأوان كي أشرح لماذا أردت، في بادئ الأمر، أن أضع هذه المذكرات تحت عنوان «كتاب الغوايات»، وهو عنوان لا يبدو من النظرة الأولى، ولا من الثانية والثالثة، إن له أي علاقة مع المواضيع التي ضمّها، حتى هذا الحد، الكتاب، وأيضا بشكل قاطع مع ما تبقى منه. الفكرة الطموحة الأصلية ــ التي ولدت في الزمن الذي كنت أكتب فيه رواية «ذاكرة الدير»، كم مرّ من الوقت على ذلك؟ ــ كان القصد منها أن تعرض كيف ان القداسة، هذا التعبير (المنطقي الشاذ) للروح البشرية، التي تشلّ فينا الحيوانية الكامنة وهي كما تبدو لا تفنى، تخل بالطبيعة وتربكها وتحيرها. اعتقدت آنذاك بأن القديس الأعمى أنتونيوس، الذي رسمه ييرون بوش في (غواية)، بسبب واقع كونه قديسا فإن كل قوى الطبيعة أُجبرت على النهوض من الأعماق؛ من المرئي واللامرئي، ومن البهيمي والسامي للروح، وبانت كل الغرائز المكبوتة والخطايا الظاهرة. محاولة إيداع هذه الموضوعة الشائكة (ياويلي، سأدرك عاجلا بأن مواهبي الأدبية ظلت بعيدة عن عظمة هذا المشروع) في مستودع صغير من الذاكرة، التي هي في الواقع بحاجة الى عنوان أكثر ملاءمة، لم تحد من الدهشة بأن أرى نفسي في وضع مشابه لوضع هذا القديس. هذا يعني، بما أني كنت موضوعا للعالم، كان يجب أيضا، وبسبب (انسجام داخلي) بسيط، أن أودع في داخلي كل الغرائز وأكون هدفا لكل الإغراءات. افترضْ انك مجرد طفل، ومجرد صبي، ثم مجرد رجل، ستحل محل القديس أنتونيوس، أين سيكمن الاختلاف؟ مثل القديس حين طُوّق بوحوش المخيلة، كذلك أصبح الصبي مطاردا بأشباح الليل الأكثر فظاعة. وإذا كان صحيحا أن التهويمات ستحرّم في الحال أي إمكانية للمقارنة بين القديس والصبي، فذلك لأننا لا نتذكر أو لا نريد أن نتذكر ما كان يدور في أذهاننا وقتذاك. السمكة المجنحة على لوحة بوش، التي تحمل الرجل القديس في السماء وخلال الريح، لا تختلف كثيرا جدا عن أجسادنا التي تطير، مثل جسدي الذي غالبا ما حملته الريح خلال البيوت فوق الحدائق في شارع كاريلو فيديرا، محلّقا فوق أشجار الليمون والبرقوق، أو ناشدا العلو بأن يرفرف بذراعيه ومن ثم يحوّم فوق أسطح المنازل. ولم أصدق بأن القديس أنتونيوس تحمّل مثل هذا الرعب الذي تحملته، خلال هذه الكوابيس التي كانت تعودني مرارا، حيث أجد نفسي فيها حبيسا، جالسا في حجرة مثلثة بلا أثاث، ولا نوافذ وأبواب، وفي زاوية منها هناك «شيء»، (أدعوه بالشيء لأني أعجز عن اكتشاف ماهيته)، لا يفتأ ينمو ببطء ويغدو أكبر حجما، وثمة موسيقى تدوّي وبنفس النغم دائما، وهذا الشيء يتضخم ويتضخم، وأنا أتراجع الى الزاوية الأبعد، حيث أستفيق في النهاية يملؤني الرعب، وأنا ألهث وغارقا في عرقي في ظلمة وصمت الليل. ربما تبادر الى ذهنك بأن لا شيء خارق فيما أقول. لهذا السبب تغير اسم الكتاب فصار يحمل عنوان «ذكريات صغيرة». أجل مجرد ذكريات صغيرة حين كنت صغيرا.