صراع على السلطة والنفوذ في نظام عالمي خال من الضوابط

إيران والقنبلة النووية في بحث د. نزار عبد القادر

TT

التجاذب، وشد الحبال حول إيران النووية يكاد يغرق المنطقة في أتون مجادلات ونقاشات قد تتحوّل إلى مواجهة عسكرية مكلفة، وقد خاض الكتّاب والصحافيون والمحللون السياسيون والعسكريون والاستراتيجيون الغربيون في هذا الموضوع، وتناولته وسائل الإعلام من وجهات نظر متعددة. وهذه الدراسات بمجملها تتوجه عادة إلى صنّاع القرار، وإلى مراكز أبحاث متخصصة لها تأثيرها المباشر في توجيه القرار أو اتخاذه. أمّا الدراسات العلمية الصادرة بالعربية التي تتناول طموحات إيران النووية فقليلة جداً وتتوجه إلى القارئ العربي. ودراسة الدكتور نزار عبد القادر، بحث أكاديمي موثّق مكتوب بدرجة عالية من الاحتراف والعمق والموضوعية، يتوجه إلى القارئ العربي وأصحاب الاختصاص في المجال الاستراتيجي العسكري.

يركز الكتاب، الصادر عن «المكتبة الدولية» هذا العام، على جوانب محددة من السياسة الإيرانية تجاه الدول المحيطة بإيران، وهي الدول المعنية مباشرة بطموحات طهران وأهدافها السياسية والعسكرية في نظامها الإقليمي العربي بدءاً بالعراق ودول الخليج العربي، مروراً بالنزاع العربي ـ الإسرائيلي، وصولاً إلى لبنان وسورية وفلسطين.

يرجع المؤلف إلى جذور الأزمة النووية الإيرانية، فيؤكد بالوثائق، أن تاريخ البرنامج النووي الإيراني يعود إلى مطلع السبعينات من القرن الماضي زمن حكم الشاه محمد بهلوي الذي أنشأ عام 1974 «المنظمة الإيرانية للطاقة النووية»، التي وقعت عقداً مع الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات لتزويد إيران بالوقود النووي، واستتبعت ذلك بعقدين مع كل من ألمانيا عام 1976 وفرنسا عام 1977، واشترت إيران حصة 10% من أسهم شركة Eurodif لتخصيب اليورانيوم عام 1975. وعند سقوط الشاه في يناير ( كانون الثاني) 1979، كان هناك ستة مفاعلات نووية قيد البناء، وكانت الخطة تقضي بشراء اثني عشر مفاعلاً من ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. أمّا الجهود الخاصة بالسلاح النووي فقد تركزت هذه الفترة، في منطقة أمير آباد وشملت العمل على دراسة إنتاج قنبلة نووية وعلى موضوع استخراج البلوتونيوم من الوقود النووي المستعمل. واستطاعت إيران عام 1978 الحصول على أربعة أجهزة تعمل بالليزر على ذبذبات الشريط 16 ميكروناً لتخصيب اليورانيوم بأشعة الليزر.

وقّع الشاه على اتفاقية عدم انتشار الأسلحة النووية، لكنه لم يتقيّد بالضوابط التي فرضتها. وظهرت الانتهاكات الإيرانية جلية من خلال عقد صفقة نووية سرية مع جنوب أفريقيا، تحصل بموجبها على ما قيمته سبعمائة مليون دولار من «الكعكة الصفراء»، وذلك من ضمن اتفاقية تخولها الحصول على 1000 طن/ متري في السنة. وليس من معلومات دقيقة عن الكميات التي حصلت عليها إيران قبل أن توافق جنوب أفريقيا على تطبيق الضوابط التي فرضتها المنظمة الدولية للطاقة الذرية عام 1974، وليس هناك أيضاً معلومات مؤكدة حول مدى احترام جنوب أفريقيا لما التزمت به تجاه إيران.

توقفت الجهود الإيرانية بعد عام 1979 لسنوات عدة. وتفيد تقارير استخباراتية عن تسلم إيران بعد عام 1984 معدات ذات علاقة بالتكنولوجيا النووية من كل من ألمانيا والأرجنتين خلال فترة الحرب مع العراق. ومعدات طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم من كل من باكستان والصين. وهناك معلومات مؤكدة عن تزويد الصين لإيران بمفاعلين نووين للأبحاث ركزا في أصفهان. ورشحت معلومات عن أن إيران تحتفظ بكميات كبيرة من اليورانيوم، وأنها نقلت أبحاثها بمساعدة فرنسية من أميرآباد إلى أصفهان، وقد أخفت هذا المركز عن الوكالة الدولية للطاقة النووية.

في هذه الأثناء وقعت إيران مع روسيا عقداً لبناء أربعة مفاعلات نووية بدءاً من مركز بوشهر: اثنان منها بقوة 1000ـ1200 ميغاواط واثنان بقوة 465 ميغاواط بالإضافة إلى منشآت تكنولوجية أخرى. كما أطلقت ورشة من أجل استخراج اليورانيوم من داخل أراضيها، ونقلت بعض معدات التكرير إلى منجم «سلغند» لليورانيوم عام 1990.

تصر إيران على أن الغاية من جهودها في الحقل النووي هي من أجل الاستعمال المدني والسلمي، متجاهلة بذلك بأن إنتاج اليورانيوم المخصّب سيفتح أمامها إمكانية استعماله من أجل صنع قنبلة نووية.

يعرض المؤلف الدوافع الإيرانية لامتلاك السلاح النووي، فيرى أنَّه من الطبيعي أن ترخي الحرب في أفغانستان والعراق بثقلها على الخيارات السياسية والعسكرية الإيرانية. فالحشد العسكري الأميركي المطوِّق لإيران يشكل من وجهة النظر الإيرانية تهديداً مباشراً لأمنها الوطني ولمصالحها الاستراتيجية مع محيطها المباشر كالعراق ودول الخليج وأفغانستان ودول وسط آسيا، خصوصاً تلك التي تطل على بحر قزوين.

صحيح أن سقوط نظام صدام حسين يصب في مصلحة إيران المباشرة، لكنه لا يبرر القبول بالمخاطر والتهديدات المقبلة. ومما زاد تحسس إيران لمخاطر الطوق الأميركي حولها، المنحى الأحادي الذي اعتمدته الولايات المتحدة من أجل شن الحرب على العراق، متجاهلة المعارضة الأوروبية وممانعة مجلس الأمن.

جاءت هذه التطورات في وقت يتعرض فيه الحكم الإيراني لضغوط داخلية قوية، فهناك حالة عامة من عدم الرضا على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، وهناك المعارضة الشاملة التي تبديها الجامعات لأسلوب الحكم، التي تطالب بالإصلاح وبإطلاق الحريات العامة والتحرر من القيود التي فرضها حكم رجال الدين.

مع الشعور بالضغط الداخلي والخارجي قررت إيران متابعة سياساتها المستقلة التي تتعارض مع الانتشار الأميركي المطوق لها، ومع المصالح الأميركية في الدول المحيطة بها. وكان من الطبيعي أن يشكّل البرنامج النووي الإيراني النقطة المحورية في المواجهة الجديدة بين إيران والولايات المتحدة. وضخَّمت إيران هذه المواجهة انطلاقاً من قناعتها بأن ذلك كفيل بتوحيد الموقف السياسي الداخلي بين الإصلاحيين والمحافظين، وهو كفيل بشد انتباه الجميع نحو الخطر الخارجي وتخفيف الاحتقان حول المطالب الداخلية.

كما ترى إيران بأن امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل، قادر على إعطائها قوة الردع اللازمة لمنع تنفيذ التهديدات الأميركية ضدها، وبأن الإحجام الأميركي عن مهاجمة كوريا الشمالية ما هو إلاّ ترجمة حيّة لهذا الاعتقاد. كما أن هناك مجموعة عوامل تدفع إيران للسعي الحثيث لامتلاك السلاح النووي منها: طموحات إيران للعب دور قيادي وأساسي في العالم الإسلامي، واستعادة مجد الماضي للسعي لبناء أمبراطورية إسلامية على أنقاض الإمبراطورية الفارسية. كما تعتقد أن دورها التاريخي في غربي آسيا والشرق الأوسط، يحتم عليها تصحيح موازين القوى الذي يتمثل في امتلاك ثلاث قوى إقليمية (الهند، وباكستان، وإسرائيل) للسلاح النووي، مما يشكل معادلة جديدة قادرة على تغيير قواعد اللعبة مع أميركا، وفي مسألة أمن الخليج، وجنوبي غربي آسيا.

في المقابل ترى الولايات المتحدة وإسرائيل بأنه ستترتب مخاطر كبيرة لا يمكن التحكم بها جرّاء امتلاك إيران لقدرات نووية انطلاقاً من العناصر التالية: يشكل امتلاك إيران للقدرات النووية تهديداً مباشراً للوجود الأميركي في المنطقة وتهديداً لوجود إسرائيل. وتشعر الدول العربية الخليجية بأن امتلاك إيران للسلاح النووي يهدد أمنها ويخل بموازين القوى الإقليمية، ويدفع باتجاه سباق التسلح. كما تدرك الولايات المتحدة والدول الأخرى أن التهاون مع إيران في برنامجها النووي، سيعطيها الذخيرة اللازمة لتحصين الحكم في الداخل، حيث تتبدد الانقسامات أمام الأهمية التي تعلِّقها القوى موالية أم معارضة على موضوع دخول إيران النادي النووي الدولي.

يشكل كتاب العميد الركن الدكتور عبد القادر المرجع الأساس لفهم تعقيدات الواقع. ويؤكد أن لإيران الثورة الإسلامية طموحات تفوق طموحات إيران الشاه، بعد أن أدّى الاجتياح الأميركي للعراق إلى فتح الباب واسعاً أمام التمدد الإيراني في العراق، وإلى تعزيز حضورها في محيطها الإقليمي سيما في لبنان وسورية وفلسطين.

إنها مسألة صراع على السلطة والنفوذ في نظام عالمي خالٍ من الضوابط، وفي مرحلة بلوغ الأصوليات الدينية المعسكرة أقصى مداها في حقبة الدولة الحديثة، وليس في زمن الإمبراطوريات منذ نشوء الإسلام حتّى انهيار السلطنة العثمانية. في هذا الزمن تبرز إيران وطموحاتها الإمبراطورية.