ضياع القصيدة العربية بين التجريب وتنافس الأجيال والصراعات

الشاعر العراقي جمعة الحلفي: المثقف العربي مجرد من السلاح ولا يملك حتى الدفاع عن نفسه

TT

أمور كثيرة تقلق مشاعر وأحاسيس الكثيرين ممن يخافون على وطنهم، ومنهم الشاعر العراقي جمعة الحلفي الذي عبر عن معاناته بشعره الشعبي الموحي والمرن. له ثلاث مجموعات شعرية، الأولى صدرت في بغداد في عام 1976 بعنوان «ساعة ويذبل الزيتون» والثانية في بيروت في عام 1992 بعنوان «مليت» والثالثة في دمشق خلال العام الحالي بعنوان «عطر الغايب» وله مساهمات في القصة القصيرة، ويعمل في الصحافة العربية والعراقية. ويرد على ان نفس الشعر الشعبي قصير المدى أي أنه يموت مع موت الشاعر، قائلاً:

إذا كان هذا الشعر شعراً حقيقياً فهو لن يموت أبداً، فالإبداع الحقيقي، بأية أداة كتب، بالفصحى أو باللهجة، يظل يحتفظ بديمومته. والشعر على وجه التحديد، له جذور أسطورية في علاقته مع الناس فهو أول نشاط جمالي للعقل البشري وقد تأثرت به جميع الفنون ولا يزال يحتفظ باستقلاليته، لهذا لن يموت الشعر الشعبي بموت شاعره إنما قد يحدث العكس، أي أن يتخلد شعره بموته. خذي مثلاً بيرم التونسي، الشاعر المصري الذي كتب أروع أغنيات أم كلثوم، فقد مات قبل ستين عاماً، لكن كلماته لا تزال حية في نفوس الملايين من الناس. بل ان بعض أشعار بيرم تحول إلى أمثال وحكم شعبية يرددها المصريون في حياتهم اليومية، وهذا قلما حدث مع الفنون الأخرى وحتى مع الشعر الفصيح. وفي العراق عندنا شعراء عديدون ماتوا منذ مطلع القرن الماضي، لكن أشعارهم لا تزال تتردد على شفاه الناس. من بين هؤلاء شاعر اسمه الحاج زاير، توفي في الأربعينات من القرن الماضي، لكنه مثل المتنبي لم يتجاوزه أحد حتى الآن على الصعيد الشعري.

* هل اللغة المحكية (العراقية) هي البديل عن الفصحى في التعبير؟

ـ بالنسبة لي شخصياً ربما، لأنني أجد في اللهجة آفاقاً وإمكانيات تعبير لا أجدها في الفصحى، على الرغم من أنني أكتب أحياناً بالفصحى، أكتب الشعر والقصة.. لكن في الغالب اختار اللهجة لأنها محملة بالإيحاءات والرموز والاستعارات الشعبية، وهي تشبه مادة مرنة يمكن أن تكوني منها ما تريدين من أشكال جمالية، على خلاف الفصحى التي تبدو أحياناً كالحجر في عملية الكتابة الشعرية. هذا إلى جانب أن اللهجة توفر للشاعر علاقة حميمة مع المتلقي لأنها جزء من وجدانه الجمعي أو الاجتماعي، لذلك أقول إن من لم يجرب كتابة الشعر باللهجة الشعبية لا يستطيع اكتشاف سحرية هذا النمط الكتابي الغني بعوالمه الجمالية.

* من مجموعتك «مليت» إلى المجموعة الجديدة «عطر الغايب» ما الذي تغير على صعيد لغتك الشعرية؟

ـ حدث ما يمكن تسميته بالنقلة، فقبل صدور «عطر الغايب» كانت موضوعاتي محدودة ولا تخرج، إلا نادراً، عن الحنين والبكاء على أطلال التجارب والإنكسارات السياسية والعاطفية، وهذا من الناحية الطبية، أعتقد أنني تجاوزته نحو عوالم شعرية وجمالية أرحب وأعمق، بدأت ملامحها في «مليت» واكتملت أو تواصلت في المجموعة الجديدة. أما ملامح هذه النقلة فيمكن رؤيتها أو تلمسها في اختيار أو في التقاط اللحظة الشعرية وفي تشذيب الصورة والعزوف عن تصنيعها، وفي توظيف الإحساس العفوي بالأشياء المحيطة من دون إقحام أو تقريرية، وكذلك في استخدام المؤثرات الحسية مثل اللون والحركة والإيماءة والصمت ولحظات احتدام الرغبة. لهذا أعتبر أن ديوان «مليت» كان أشبه ببيان روحي أملته علي تجربة التحالف السياسي في العراق، وفرارنا جماعات ووحداناً إلى أوروبا ودول الجوار، وجدنا انفسنا فجأة، (وكنا في بداية تفتحنا على الحياة السياسية والثقافية) مطرودين من الجنان كلها، من الوطن والأهل والبيئة، وكذلك من أحلامنا العجائبية ببناء الاشتراكية على أنقاض واقعة كربلاء! هذه الصدمة جعلتنا نشعر حينها وكأننا بلغنا نهاية العالم، أو نهاية التاريخ، وهكذا في هذا المناخ كتبت «مليت» وكان أشبه بصرخة المطعون، إلا أنني تجاوزت ذلك بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، كما يقال، واكتشفت أن الحياة أرحب وأكبر من التجارب الخاصة والسياسة، مهما كانت مريرة.

* وماذا عن الشعر والبدايات الأولى؟

ـ في وقت مبكر من حياتي اشتغلت في السياسة وكان عمري 17 سنة، وفصلت من المدرسة الثانوية ثم اعتقلت أكثر من ثلاث مرات، جراء النشاط السياسي. هذه التجربة، ومرة أخرى أقول، رغم قسوتها، هي التي علمتني كتابة الشعر... كنت أكتب وأرسل إلى الصحف والمجلات وكانت هذه تنشر لي مقاطع قصيرة في بريد القراء، وكان ذلك مصدر فرح وفخر، حتى جاء اليوم الذي نشرت لي فيه إحدى الصحف قصيدة كاملة. وأذكر أن عنوانها كان «دهشة». بعد ذلك اندمجت في خضم حياة سياسية وصحافية وثقافية صاخبة حتى هروبي من العراق عام 1979.

* أنت مقل في نتاجك الشعري، لماذا وكيف ترتب لعملية الكتابة والإبداع؟

ـ هذا سؤال آخر أكثر إحراجاً! فأنا أعتبر القصيدة الجيدة أشبه ببيضة الديك، أما الشعراء الذين يطبعون كل خمسة أشهر مجموعة شعرية، فهؤلاء أشبه بالدجاج البياض. أنا مقل بمعنى التأني وانتظار لحظة الإبداع الحقيقية، التي تأتي من غير مواعيد. لا يهمني عدد المجاميع الشعرية بل تهمني قصيدة واحدة معبرة وصادقة ومدهشة. فمثل هذه القصيدة يمكن ان تعادل أو تتجاوز مجموعة شعرية مصنوعة. لذلك أقول إن الشعر الحقيقي والصادق هو ذلك الذي يحمل عطر الأشياء لا صورتها.. فهو شعر تفوح منه رائحة الإبداع لأنه أشبه بالورد البلدي، أما الشعر من غير إبداع فهو أشبه بورد البيوت البلاستيكية.

* وماذا عن طقوس الكتابة؟

ـ أكتب أحياناً عندما أكون على حافة اليأس، اليأس بمعناه الروحي والنفسي، أي عندما تبدو لي القصيدة وكأنها المنفذ الوحيد للنجاة من نفق مظلم. وأكتب أحياناً عندما تمتلئ روحي بالانفعالات الوجدانية اللاهية، حتى تبدو الروح مثل غيمة محملة بالمطر، وفي احيان أخرى أكتب برغبة مسبقة، وفي هذه الحالة أكتب أسوأ القصائد ولا أنشرها بالطبع.

لا أرتب لعملية الكتابة الشعرية أبداً لسبب بسيط هو أنني لا أعرف الموعد الذي يختاره الشعر، لكنني أعرف المحرضات على الكتابة، كالسفر... فالسفر اختراق للزمان وليس للمكان، أي أنك عندما تسافرين لا تغيرين المكان فقط إنما الزمن أيضاً... وكذلك في أثناء، أو بعد، تجربة عاطفية ساخنة، أو إثر خضة روحية وجدانية. المهم طقس الكتابة خاص جداً وقد يختلف من شاعر إلى آخر، لكن لا تصدقي أحداً يقول لك إنه يمكن أن يجلس وراء الطاولة ويكتب شعراً حقيقياً باللحظة التي يقررها هو، فهذا الشاعر واحد من اثنين إما كاذب وإما كاذب!

* فترة السبعينات في العراق كانت من أغنى الفترات ثقافياً، لكن يبدو أن هناك وضعاً، مختلفاً هلا حدثتنا عن هذه الفترة؟

ـ نعم، فترة السبعينات كانت فترة غنية ثقافياً وسياسياً أيضاً، كان هناك شيء من الانفتاح السياسي تلقفه الناس مثل رحمة نازلة من السماء.. وخلال فترة قصيرة تحول العراق إلى ورشة ضخمة من العمل والنشاط في مختلف ميادين الحياة، وكانت الثقافة في مقدمة العناصر التي ازدهرت، فظهر مئات الشعراء وصدرت آلاف الكتب وبرزت مواهب وإبداعات في الفكر والثقافة والفن، وتحولت بغداد إلى عاصمة للثقافة العربية. لكن كل هذا سرعان ما انطفأ وتدهورت الأوضاع والسبب الأساسي يعود إلى سياسة النظام، فالنظام هو الذي أوقف مسار التطور، الذي حصل في تلك الفترة، عندما أغلق الهامش البسيط من الحريات وشن حملة بوليسية ضد القوى الوطنية، وعسكر المجتمع وذهب بالعراق وشعبه إلى الحرب مع إيران، التي دامت ثماني سنوات، ثم إلى الحرب مع العالم كله، بعد اجتياح الكويت، وهكذا جرى تدمير كل شيء. والعراق يعيش منذ عشر سنوات أزمات خانقة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، إضافة إلى الحصار الدولي والعزلة، ويكفي أن نعرف أن هناك ما يقرب من أربعة ملايين عراقي في الخارج، بينهم آلاف المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين.

* كيف تقيم وضع القصيدة العربية في اللحظة الراهنة؟

ـ القصيدة العربية في اللحظة الراهنة أشبه بالباحث عن هوية، فهي ضائعة في مناخات التجريب واختبار التقنيات وتنافس الأجيال والصراعات، وكما أعتقد أن المشكلة لا تقتصر على القصيدة أو على الشعر عموماً، فأزمة الشعر مرتبطة بالأزمة العامة للثقافة العربية والمثقف العربي، التي هي نتاج لحالة التدهور السائدة على أصعدة مختلفة فكرية وحضارية وسياسية واجتماعية. وما يفاقم هذه الأزمة هو المتغيرات التي طرأت على حياة الناس، فإلى جانب الانشغال باللهاث وراء لقمة العيش، هناك التطورات الهائلة والمدهشة في وسائل الاتصال والتكنولوجيا والفضائيات، التي صارت تأخذ من الناس وقتهم الفائض، وإزاء ذلك لم يعد الشاعر يجد من يستمع إليه، مثلما كان الأمر في السابق، وهو ما يجعله أكثر فردانية وإنطوائية في كتابته للقصيدة. ومع أن الكتابة الشعرية عمل فردي خاص أساساً، إلا أن التفاعل بين الشاعر والمتلقي عامل مهد لفعالية الكتابة. طبعاً هذا لا يعني أبدا أنه ليست هناك قصيدة جيدة أو مشروع شعري معبر عن تجربة غنية، بل يعني أن مثل هذه القصيدة أو هذا المشروع يكاد يضيع وسط هذه الفوضى.

* يقال اذا افسدت السياسة، تصلح الثقافة، الى اي مدى تلعب الثقافة دور في ايصال السياسة برأيك؟

ـ الدور الحاسم كان وسيبقى للسياسة، وفساد السياسة معناه فساد ميادين الحياة الأخرى، بما في ذلك الثقافة. والأدلة على هذا الواقع واضحة وضوح الشمس في عالمنا العربي، ففي ظل غياب الحريات العامة وغياب المشروع الحضاري الديمقراطي وسيادة أنظمة بهلوانية لا يهمها من مصائر شعوبها غير التمسك بكراسي السلطة، ماذا تستطيع الثقافة أن تفعل؟ هناك وهم اسمه دور الثقافة والمثقف في التغيير، ولأن المثقف العربي جرى تجريده من السلاح منذ عقود طويلة فهو لا يملك حتى وسائل الدفاع عن نفسه أمام أنظمة تمتلك كل شيء.

وبالإضافة إلى هذا وذاك هناك مشكلة أخرى هي أن المثقف نفسه يعيش أزمته الخاصة، أزمته مع أوهامه وتصوراته للعالم، لهذا أقول جواباً على سؤالك: لن تستطيع الثقافة إصلاح ما أفسدته الأنظمة، إلا إذا حدثت معجزة.

* أخيراً ماذا تحدثنا عن المنفى، ماذا أعطاك وماذا أخذ منك على صعيد الكتابة؟

ـ علاقة الكتابة بالمنفى علاقة جدلية تتيح للمبدع الحقيقي فرصة كتابة جيدة. يأخذ المنفى من الكاتب الكثير لكنه يعطيه الكثير في الوقت ذاته. إنه يأخذ (على سبيل المثال) من تماسه الحسي مع حياة شعبه، ومن إيماءات بيئته المحلية، ومن مفرداته اليومية، ومن أدوات كتابته، لكنه في المقابل يعطيه هامش الحرية وفرصة الإطلاع والتجريب ومستجدات المكان. كذلك يعطيه قارئاً جديداً بتكوينه المختلف ثقافياً واجتماعياً. وهنا تبتدئ علاقة الكتابة بالمنفى كعلاقة جدلية تتيح للكاتب ما يمكن تسميته بفرصة الكتابة الجديدة إذا ما استطاع، بالطبع، تمثل المتغيرات والمعطيات الروحية والثقافية وإعادة إنتاجها إبداعياً. وتختلف تجليات المنفى في الكتابة من كاتب إلى آخر فعند البعض تتجذر الكتابة وتتعمق، لكن الأمر سيختلف لدى من يشعر خارج الوطن وكأنه في حالة فصام نفسية دائمة، وعند البعض من هؤلاء ستكون الكتابة عملية استرجاعية لخزين الذكريات واذا ما ظلت هكذا سينضب ذلك الخزين، لأن الذكريات نفسها يمكن أن تهترئ إذا ما انقطعت عن التواصل مع الجديد، وسيجد الكاتب نفسه أمام الفراغ. وعند البعض الآخر ستكون الكتابة انقطاعية غرائبية تشبه الوليد المشوه. وللمثال: هناك الكثير من الكتاب العراقيين المهمين توقفوا تماماً عن الكتابة في المنفى، والتوقف عن الكتابة هنا يبدو وكأنه جزء من توقف صلة الكاتب بوطنه، وبيئته وتجلياتها الروحية والثقافية. هناك البعض تغربت كتابته كما تغرب هو ثقافياً... بمعنى أنه بتر الصلة بأدواته أو أنه كان منقطعاً أصلاً عن هذه الأدوات. البعض الثالث تعمقت كتابته وتجذرت تجربته الإبداعية، وهذا البعض يمكن أن يرفد الثقافة الوطنية بدماء حية ومتواصلة. عموماً لا يمكن المضي بالتفصيل أكثر، لكن يمكن القول ان علاقة الكتابة بالمنفى علاقة جدلية، ومن يستطيع تمثل معطيات المنفى تمثلاً إبداعياً سيتواصل مع كتابته بروح جديدة.