نور الدين فارح: نحن شعوب نعمل دائماً على تدمير أنفسنا

روائي الحرب الأهلية الصومالية يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن «ثقافاته الثلاث» وعن اختطافه على يد أمراء الحرب

نور الدين فارح
TT

ولد الروائي والقاص الصومالي نور الدين فارح ببدواة، ونشأ في مقاطعة الأوغارين التي كانت تحت السيطرة الإثيوبية. وكانت الثقافة العربية بمكوناتها اللغوية والأدبية، والثقافة الأفريقية بمكوناتها الشفاهية مصدر نشأته الأولى ومن بعد شكلت اللغة الانجليزية نافذة له كي يطلع على الأدب الأوروبي والأميركي. وفي حوار مع الكاتب جرى في نيويورك مع «الشرق الأوسط» أراد أن يختار المنطقة الرمادية من الصراع الدائر في الصومال. ومن المفارقات كما ذكر أن المحاكم الإسلامية عندما فرضت سيطرتها على العاصمة مقديشو وجهت دعوة للكاتب الذي يتخذ من مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا مقرا له للوساطة بينها وبين الحكومة الانتقالية. وقد اختارته جماعة المحاكم الإسلامية لحيادته ولأهميته ككاتب. ويقول «وافقت على الدعوة وحين وصلت الى مقديشو تعرضت الى الاختطاف من قبل واحد من امراء الحرب». وهذا نص الحوار:

* هل يمكن القول ان الجذور الأولى لتجربتك الأدبية تعود لتلك الصلة التي ربطتك بوالدتك لأنها كانت تقول الشعر؟

ـ بدأ اهتمامي بالأدب مع حكايات ألف ليلة وليلة وأول ما شد انتباهي وجود اسمي (نور الدين) مطبوعا في احدى حكايات ألف ليلة وليلة. أقطع الاسم من الحكايات ومن ثم أضع الاسم المطبوع على غلاف دفتر واجباتي المدرسية، قائلاً لأصدقائي في المدرسة: «هل تعلمون اني كاتب؟»

ويمكن أن يكون المصدر الأساسي لاهتمامي بالأدب هو أمي التي كانت شاعرة، وجدي من جهة أمي كان هو الآخر شاعرا.

وأذكر هنا أن قراءاتي الأولى كانت باللغة العربية منها على سبيل المثال قرأت الترجمة العربية لـ «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، وقرأت فيكتور هوغو أيضاً بالعربية. ولأني قرأت كل هذه الكتب، قلت لنفسي ان التجارب التي عشناها في الصومال يجب أن يكتب عنها بنفس الطريقة التي كتب فيها دوستويفسكي عن روسيا وبنفس الطريقة التي كتب فيها الفرنسي فيكتور هوغو، وبنفس الطريقة التي كتبت وجمعت فيها حكايات ألف ليلة وليلة.

وأما الأمر الثاني فهو رغبتي في أن اكون جزءا من القرن العشرين لأني انتمي الى ذلك القرن من خلال الكتابة عن التجارب التي عشتها وعايشتها. عندما بدأ اهتمامي بالكتابة اكتشفت أن اللغة الصومالية لا تملك حروفا هجائية متفقاً عليها للكتابة لذا لم استطع الكتابة بها. وكانت اللغة الثانية التي تعلمتها مباشرة بعد اللغة العربية هي الأمهرية، ولكني لم أرغب بالكتابة بها، فقد تربيت كطفل يرى في الأمهرية لغة عدو.

ومن هذا المنطلق اصبحت اللغة الانجليزية بالنسبة لي اكثر سهولة ليس لأني فقط ذهبت الى مدرسة انجليزية لتعلمها وللسيطرة عليها وانما يعود أيضا إلى أن الآلة الكاتبة باللغة الانجليزية كانت أكثر تطورا واكثر استجابة للكتابة. واعتقد ان هذه المشكلة اكثر حدة في الصومال قياسا لما عليه في بقية العالم العربي.

* ماذا عن انتشار الكتاب العربي في الصومال؟

ـ تصل كتب عربية الى الصومال بنسخ محدودة جدا. وكان الكاتب الأكثر حظوة في الفترة التي نشأت فيها هو محمد حسنين هيكل، والسبب في هذه الحظوة ولسهولة إيجاد كتبه في المكتبات، وكانت تصلنا في تلك الفترة أيضا مجلة روزاليوسف. وهذا ما كنا نجده في مقديشو واحيانا كل ستة أشهر كان يصل كتاب جديد ويصل احيانا بنسخة واحدة. وعندما تجده عليك ان تنتظر دورك حتى يتسنى لك قراءة الكتاب أو المجلة التي كانت تصل الينا من القاهرة. وكان هذا هو الحال مع الكتاب العربي في حين كان الأمر مختلفا مع الكتاب الانجليزي وكان من السهل الحصول عليه..

* تحدثت عن حكايات الف ليلة وليلة، فإلى أي حد اثرت عليك هذه الحكايات، ويبدو من الواضح تلمس هذا الأثر خصوصا في ثلاثيتك التي تنتهي برواية «أسرار» التي ترجمت الى اللغة العربية؟

ـ قرأت الف ليلة وليلة في وقت مبكر، وحتى حديثا أعيد قراءة الحكايات بين حين وآخر. ولا يعود اهتمامي بالحكايات فقط لعالمها أو لسحرها وانما يعود أيضاً لأهمية الدور الذي تلعبه المرأة في الحكايات، وهي التي تسعى الى انقاذ حياتها ومستقبل حياة نساء المستقبل، لذا انا مهتم جدا بهذه الفكرة المحورية.

* هل هذا يفسر حضور المرأة بقوة في اعمالك، إذ تكون دائما هي الشخصية الأساسية والمحورية التي تدور حولها احداث الرواية ودائما تكون ذات تأثير وقوة؟

- هذا صحيح لأننا نشأنا في مجتمعات جعلتنا لا نعتني بأطفالنا بشكل جيد ولا نعتني أيضا بنسائنا. وإذا نحن لم نعتن بأطفالنا فهذا يعني اننا لا نستثمر من أجل مستقبلنا. وفي البيئة التي نشأت فيها مثلا إذا دخلت الى الغرفة التي يكون فيها والدي لا استطيع قول أي شيء وغير مسموح لي بالحديث وكل شيء هناك خاضع الى نوع من السلطة. ولمرات عديدة لا تستطيع فتح فمك. وهذا أمر ازعجني كطفل لذا انا ابدي اهتماما بالانفتاح وأن اتحدث باحترام عن الحقيقة ولا اريد إهانة أي أحد.

وأدرك ان لي وجهة نظر قد تكون مختلفة عن وجهة نظرك وعن وجهة نظر والدي ووالدتي تصور اني التقيت بوالدي وأنا في عمر الخمسين ما كان بامكاني قول ما اريد لأنه حتى الآن هو لا يريد ان يسمع لي وفي عرفه أني ما زلت ذلك الطفل.

وهذا الأمر يثير سؤالا مهما وهو: كيف يمكنني ان اكون جزءا من هذا العالم في الوقت الذي لا استطيع العيش بشكل مريح ومن دون خوف وهذا الأمر ما زال مزعجا للغاية.

ومن النقد الذي اوجهه الى المجتمع الصومالي باستمرار هو عدم امتلاكنا طريقة مهذبة عندما نتحدث بعضنا للبعض الآخر، وحتى لا نعرف كيف ينقد بعضنا البعض الآخر. إما ان نلجأ الى استخدام القوة بشكل تام وإما الى الصمت التام. ومن المفارقة ان الشخص الذي يحبك هو من يأتي ليقتلك لأنك من وجهة نظره قد انتهكت شرف العائلة. نحن نعيش في خوف دائم وعلينا أن نزيح هذا الخوف من حياتنا.

* بعض من النقاد يصنفك الى جانب عدد من كتاب افريقيا كواحد من كتاب مرحلة ما بعد الكولونيالية فهل يريحك هذا التصنيف وماذا تعني كتابة ما بعد الكولونيالية؟

ـ أولا أن المقصود بما بعد الكولونيالية هي الكتابة التي انتجت بعد مرحلة الاستقلال، وايضا تعني الكتابة التي مارست النقد ضد القوى الاستعمارية التي كانت قبل الاستقلال، والكتابة التي تنقد الانظمة الفاسدة الموجودة الآن. بعد مرحلة الاستقلال الوطني هي الكتابة التي تسعى الى تمهيد السبيل لمستقبل تتمتع فيه شعوب مرحلة ما بعد الاستعمار بذهنية متفتحة ومستقلة.

ومن الأهمية بمكان استخدام العقل لأننا دائما نستخدم اقدامنا للهرب. ونحن كشعوب دائما نعمل على تدمير انفسنا لأننا نخشى الحديث فيما بيننا بطريقة مباشرة وصريحة ومتفتحة. والأمر الذي يزعجني في اجتماعاتنا هو استمرارية وجود الأب السلطوي. واعتقد أن احمد سياد بري (رئيس الصومال سابقا) ما كان له أن يوجد ويبقى في السلطة لو لم يوجد الأب السلطوي في العائلة. لأنه اذا كان عندك 100 ألف رجل سلطوي ففي هذه الحالة سيتوجه سياد بري لمخاطبة هؤلاء الرجال السلطويين بدلا من مخاطبة الملايين العشرة من الصوماليين. وهذا نفس الحال قد ينطبق على العراق وقت ديكتاتورية صدام حسين.

* إلى أي حد تجد نفسك ككاتب من أفريقيا مختلفا عن الكاتب الأوروبي بالرغم من ثقافتك الغربية واستفادتك من الصنعة الأدبية الأوروبية في أعمالك الروائية؟

- نحن ككتاب مختلفون عن الكتاب في أوروبا والغرب لأننا في أفريقيا، خصوصا في بلد مثل الصومال نتعامل مع ما هو أساسي. وبالنسبة للكاتب الأوروبي أو الأميركي فهو يكتسب استقلاله الشخصي في وقت مبكر قياسا بكاتب من افريقيا مثلي قد يعترف به ككائن مستقل في وقت متأخر جداً.

لذا انا ككاتب علي أن اواجه مجموعة من القضايا قد يكون أولها السعي الى تغير العلاقة مع العائلة لأني اجد نفسي في العائلة التي نشأت فيها وتكون يداي مغلولتين وفمي مغلقا. وعندما أخرج لمواجهة عالم أكبر أجد نفسي كأفريقي وزنجي بين العرب (مثلا في العراق قد اكون زنجيا). وكما تلاحظ ان تصنيفات الآخرين هي قيود تحاول ان تقيدني وما احاول القيام به هو كسر كل هذه القيود.

واستطيع القول ان الكاتب الأميركي وحتى الكاتب المصري والعربي يبدو بالنسبة لي كأفريقي متقدماً علي بخطوات عديدة. وعندما تحاول العدو، فثمة هناك من يتقدمك بألف متر وما عليك سوى اللحاق به.. ولدي احساس أنه لو توفرت نفس الفرص المتوفرة للكاتب الأميركي أو الأوروبي للكاتب العربي أو لكاتب من الهند أو من افريقيا، اعتقد حينئذ سننجز أعمالا افضل مما ينجزه الكتاب الأميركيون أو الأوروبيون.

* الملاحظ في أعمالك تنوع في طريقة السرد، فيمكن ببساطة التعرف إلى اثر حكايات ألف ليلة وليلة وعلى اساليب القص الشفاهي وثمة أثر للواقعية السحرية في اعمالك. ولاحظت في روايتك «راوبط» التي تدور حول الحرب الأهلية في الصومال بناء روائيا متماسكا ذكرني بأعمال الكلاسيكيين الأوروبيين فهل هذا التنوع في السرد مقصود؟

ـ يمكن القول بأني تحت تأثير ثقافتين وهي الثقافة العربية خصوصا الأثر الكبير الذي تركته حكايات ألف ليلة وليلة وهناك أثر للثقافة الأوروبية لأني درست الأدب الأوروبي والغربي وقد درّست الأدب في الجامعة، حيث عملت استاذا لعدد من السنوات وهذا ما اتاح لي معرفة جيدة بالأدب الأوروبي.

واعتبر نفسي كاتبا معاصرا، وأستطيع ان افعل ما اشاء ولدي القدرة في انجاز ما يمكن أن يقوم به أي روائي أوروبي أو أميركي في حدود المعرفة المتوفرة والتقنية وآليات السرد وغيرها وهذه ميزة. ولدي مزايا اخرى لأني على معرفة بأكثر من ثقافة. وكما ترى ان الثقافة الصومالية مختلفة نسبيا عن الثقافة العربية وحتى اللغة الصومالية مختلفة جدا عن اللغة العربية لذا اعتبر نفسي كائنا افريقيا مع فهم جيد للغة والثقافة العربية واكتب باللغة الانجليزية وأستطيع ايضا الكتابة باللغة الايطالية، بينما استطيع القراءة باللغة الفرنسية. وهذه كلها مزايا تسمح لي أن أكون متمكنا من صنعة الكتابة الأدبية وللكتابة بأي اسلوب ارتئيه.