هل هناك هوية اسرائيلية بعد 60 عاما؟

مؤرخة إسرائيلية تتناولها تاريخا وأدبا وشخوصا

TT

أنيتا شابيرا مؤرخة إسرائيلية بارزة تعمل أستاذة للتاريخ بجامعة تل أبيب، ويتركز مجال بحثها حول دراسة الصهيونية تاريخا وأدبا وشخوصا ومدى ارتباط مجتمع الدولة الجديد في ما بعد عام 1948 بالدياسبورا اليهودي، وقد حازت أخيراً على جائزة إسرائيل للعلوم والآداب تزامنا مع صدور كتاب لها بعنوان «اليهود والصهاينة وما بينهما». الكتاب الذي يحوي عدة محاور يحاول عبرها تلخيص حال ما تسميه شابيرا بالهوية الإسرائيلية بعد 60 عاما من إقامة الدولة على أنقاض شعب آخر لا يزال يقاوم محاولات استئصاله الحثيثة.

ترى شابيرا أن الهوية الإسرائيلية بعد ستين عاما من قيام الدولة لا تزال في طور التشكل، كونها تتعرض للتغير باستمرار. وتصطدم أول ما تصطدم بتعريف الهوية والوطنية، فالإسرائيلي- كما تقول- «وطني.. إلا أنه يجهل تاريخه القصير جدا! ولعل الاستطلاعات التي رافقت الاحتفالات بقيام الدولة تدعم مسألة تأرجح الهوية الوطنية، إذ يجهل30% من طلاب المدارس الابتدائية والوسطى في إسرائيل أن ديفيد بن جوريون كان أول رئيس لوزراء إسرائيل. في حين يظل التعريف الأبرز للوطنية الإسرائيلية مرتبطا بالعداء للعرب، فأكثر الإسرائيليين وطنية هم الأكثر كراهية للعرب»!

تستهل شابيرا كتابها بالكتابة عن وقائع طرد العرب من القرى والمدن الفلسطينية عام 1948 عبر تحليل رواية شهيرة للكاتب اليهودي س. يزهار (1916-2006) بعنوان «قصة خراب خزعة» التي تصور قيام وحدة من القوات الصهيونية بتدمير قرية عربية وطرد أهلها منها بناء على أوامر من قيادة الجيش. هذه الرواية التي سجلت أعلى مبيعات وقتذاك وأصبحت منذ عام 1964 ضمن المناهج الدراسية في الثانوية العامة في إسرائيل، وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني في عام 1978 أثارت ولا تزال الجدل داخل إسرائيل. وعندما كتب بيني موريس المؤرخ الإسرائيلي كتابه «ولادة قضية اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949» قال يزهار عن نفسه إنه «الرجل الذي رصد الخطيئة الأصلية لدولة إسرائيل».

ترى شابيرا أن يزهار لم يكن يرفض الصهيونية بل كان مؤمنا بها تماما، إلا انه ككثير من أبناء جيله كان محشورا بين القيم الإنسانية الأساسية البسيطة وبين الطموح القومي والتعليم الصهيوني. كان الصراع مستعرا بين النظرية الصهيونية الاشتراكية التي تدعو لعدم التعارض بين الشعب القادم من أوروبا الذي يطالب «بحقوق قديمة»، وبين الشعب المقيم الذي يرى نفسه مالكا للأرض، والنظرية الأخرى التي رأت أن النتيجة النهائية على أرض الواقع يجب أن تكون واحدا في مقابل صفر. لكن يزهار بحسب شابيرا ظل مؤمنا طوال حياته بشرعية مجيء اليهود لأرض فلسطين كما يحلو لهم بشرط عدم التعرض للعرب المقيمين فيها!

ترصد شابيرا ردود الأفعال التي صدرت من كبار زعماء الصهيونية متهمة يزهار بتشويه سمعة الجيش الإسرائيلي، بينما يصور العرب كبشر لا غبار عليهم. ثم تستعرض شابيرا الضجة التي أثارها عرض المسلسل التلفزيوني «نهاية السبعينات»، لتختتم بحثها التاريخي الأدبي بالقول أن وقائع طرد العرب لم تكن تجري على نحو سري بل كان النقاش مفتوحا وفي العلن وان المجتمع الذي ضمن رواية يزهار ضمن المنهج الدراسي لا يمكن اتهامه بالتعتيم على ممارسات حرب 48، وذلك على المستوى الإدراكي، لكن من ناحية أخرى، تظل الذاكرة الجماعية الإسرائيلية غير قادرة على استيعاب الرسالة التي بثتها رواية يزهار. وبين الوعي ونقيضه والمعرفة وتعمد الاستئصال والتجاهل، يفضل الإسرائيليون تذكر الرواية دون تلك المقاطع التي لا يرتاحون إليها التي تنغص عليهم وتزعج الإدراك الذاتي لهم حيث تعتبر شابيرا في نهاية المطاف رواية يزهار «ذكرى غير سارة».

وفي دراسة أخرى في ثنايا الكتاب تناقش شابيرا العلاقة بين التوراة والهوية الإسرائيلية حيث ترى أن التوراة كانت الركيزة الأساسية في تشكيل الهوية اليهودية التي ظلت قائمة طوال الدياسبورا، خاصة في مرحلة دعاة الاندماج «الهسكالاه» الذين رأوا إمكانية اندماج اليهود في الشعوب الأوربية وعملوا على صياغة هوية جديدة، حيث بدأ أدب الهسكالاه في مراحله الأولى في حلحلة سطوة الدين في الشارع اليهودي، وصارت الرسالة الأبرز وقتئذ هي أن الإنسان يمكنه أن يكون يهوديا وطنيا ومخلصا لشعبه دون الحفاظ على وصايا التوراة». وتعتبر شابيرا ذلك انقلابا في تحديد هوية اليهودي. لكن مع صعود الصهيونية كان من الضروري البحث عن رابط بين الماضي والحاضر، الأمر الذي خول التوراة مكانة رئيسية في الخطاب الصهيوني الناشئ. لكن شابيرا ترصد خفوتا ما في علاقة التوراة بالهوية الإسرائيلية في التحول من المنفى إلى الدولة، حيث تحولت التوراة بحسب شابيرا من كونها نصا يثير المشاعر والخيال في المنفى إلى علاقة الشعب بالأرض. وبدا ما يعرف بأدب الدولة يدشن مرحلة جديدة من الكتابة مستلهما الماضي التوراتي بشخوصه وأحداثه ومدنه وقراه، التي ظلت حاضرة بقوة في الخمسينات واستعرت حدتها في أعقاب الانتصار الساحق في يونيه 1967، حيث اكتسبت قراءة التوراة مسحة متطرفة وانتقائية، وصعدت حركة جوش امونيم بخطابها المتطرف وبدأت حركة الاستيطان في الضفة الغربية وثورة التعليم الديني في المدارس الدينية والتفسيرات التي صاحبت هذه المرحلة.

ترى شابيرا إذاً نكوصا في المد التوراتي وتأثيره على الهوية الإسرائيلية، فقد خرج من عباءة الايديولوجيا ومن النقاش الشيوعي الليبرالي والديمقراطي الديكتاتوري، حيث كانت للتوراة مكانة في الخطاب بين زعماء ومنظري الصهيونية الدينيين والعلمانيين على حد سواء. وتعتبر الكاتبة أن هذا التحول الذي حدث للتوراة وسرقة المتطرفين لها وانتهاء زمن الايديولوجيا قد وجه طعنة نجلاء لمركزية التوراة في الهوية الإسرائيلية، فتضاءل موقعها في الثقافة الإسرائيلية، وأصبحت المحرقة اليهودية هي العوض عنها، في احتلالها مركزية الخطاب الإسرائيلي الراهن، كمحاولة لربط الشعب بالتاريخ، لكن شابيرا تعلن تخوفها من انتهاء سريع ووشيك لهذه الرابطة بعد تجاوز الشباب الإسرائيلي فزع الكارثة وقيامهم برحلات عودة للجذور، وتصالحهم مع الماضي متسائلة عن إمكانية قيام الدوائر العلمانية داخل الدولة برعاية خطاب يضمن عودة التوراة إلى مركزية الهوية والثقافة العبرية بوصفها إحدى ركائز الأساس الثقافي العبري الجديد.

وبعد 60 عاما من إقامة الدولة ترى شابيرا أن المجتمع الصهيوني لم يتمكن من تشكيل هوية يمكن تحديد ملامحها. حيث أصبح مجتمعا متعدد الثقافات، رغما عنه، محذرة من تأثير الهجرات المتتالية على صياغة هذه الهوية وتذويب أية ملامح آخذة في التشكل، «إذ تأتي كل هجرة بمركباتها الخاصة بها الجديدة على المجتمع».. ومن ثم تطرح شابيرا التساؤل الذي لا يكاد يمر يوم دون تعرض المشهد الإسرائيلي له ألا وهو: متى يمكن لهذه الدولة أن تصبح بالفعل دولة ذات هوية حقيقية جامعة لكل مواطنيها على اختلاف أصولهم وروافدهم الثقافية بدلا من التسليم بنمط الديمقراطية العرقية التي تهيمن على تفاصيل الصورة هناك حتى بعد مرور 60 عاما.