أول البوم غنائي لماري جبران بعد أكثر من نصف قرن على رحيلها

نقيبة الموسيقيين التي طارت شهرتها بين القدس والقاهرة

TT

عادت روح ماري جبران، «مطربة بلاد الشام» لترفرف من جديد على ساحة الغناء والطرب الأصيل في سورية، مع إصدار أول ألبوم لمجموعة من أغانيها سجلت قبل وفاتها بعامين في الإذاعة السورية عام 1954. وماري جبران التي أعتبرها النقاد مطربة بلاد الشام بلا منازع في الأربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي، لا نكاد نعثر في الأجيال الشابة على من سمع صوتها أو عرف بوجودها، ومن سوء الحظ أنه لم يسجل لها أي شريط تلفزيوني أو سينمائي، وصورها الفوتوغرافية نادرة، وسوى التسجيلات الصوتية الموجودة في أرشيف إذاعة دمشق لا يوجد شيء يذكر عن ماري جبران، غير نتف ذكريات من هنا وهناك. لكنها لا تغيب تماماً، فنسمع المطربة السورية ميادة بسيليس بصوتها الساحر تغني «آه من عينيكِ» مهداة إلى روح ماري جبران، أو نتعرف على بعض ملامح حياتها وفنها من خلال فصل في كتاب الناقد الموسيقي صميم الشريف «الموسيقى في سوريةـ أعلام وتاريخ». أو نقرأ في رواية (تياترو) للروائي السوري فواز حداد وصفاً لها من خلال أكثر من فصل، أحدها يتناول لقاءها مع أحد المعجبين في ملهى العباسية وقد سبق أن عرفها في القاهرة: (استرجع شغفه بها وهو في تلك الزاوية القصية، يتسمع إلى ماري الشامية «أنا هويته وانتهيت» يرمقها بنظرات ملتهبة ومتحسرة، تتواصل دون انقطاع حتى «خلي بأه اللي يلوم.. يلوم»... في القرب، كانت حقيقية، دون غوايات الطرب وتوابعه وزوائده، طبيعية، وأجمل، شعر أثيث أسود وحريري، الفم مزموم، وعينان ساهيتان في وجه مستدير، كما لم يرها من قبل في ملهى بديعة، أو قبل قليل فوق خشبة المسرح. ابتسمت أو هكذا تخيل، تراءى له أن يصارحها بحبه الذي استيقظ بعد أن نام سنوات. لم يتجرأ، وهي ترفع رأسها مصغية إلى الصالة، أمسك راحتها، انحنى وطبع قبلة على أصابعها، ونبس بعد لأي معرفاً عن نفسه: معجب قديم).

المفارقة أن ماري جبران التي شهدت بداية عصر السينما والإذاعة في مصر وسورية، لم تحظ سوى بأرشيف إذاعي أقل بكثير مما قدمته، وليس بمتناول اليد، في حين أنه مع انتشار الانترنت، أعيد الاعتبار للفن الأصيل، وتم إنصاف ماري جبران من خلال تشكيل أرشيف لها، جمعه المهتمون من أعضاء المنتديات الطربية، مع إضافة معلومات وثائقية للتعريف بفنها. ويمكن القول ان أعضاء منتدى سماعي للطرب العربي الأصيل، وضعوا في متناول اليد أدواراً وأغاني نادرة من روائع غناء ماري جبران مثل أدوار: كادني الهوى/ ياللي كويت الفؤاد ارحم/وأصل الغرام نظرة/وغيرها.

وتبرز أهمية المنتديات من حيث استقطابها للمهتمين بموضوع معين، وتوفير الانترنت للتقنيات الحديثة واستغلالها في تبادل المعلومات وتعميمها، ومع تحويل الصوت إلى ملفات رقمية، فكَّ أسر التسجيلات القديمة من أقبية الإذاعات العربية لتعود وتنتشر وتنال ما تستحقه من اهتمام. ويأتي مشروع «إعلام الموسيقى والغناء في سورية والعالم العربي الذي تقوم به الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون من إطار إحياء الفن الأصيل، وإخراجه من قيود الحفظ والأرشفة إلى قيود التداول. وقد أصدرت الدار، مجموعة كبيرة من الألبومات لأساطين الطرب الموسيقيين العرب آخرها ثلاثة ألبومات للمطرب فهد بلان والمطربة مها الجابري وماري جبران.

تأتي أهمية ألبوم ماري جبران من كونه أول البوم لها، ويتضمن خمس أغان بها (خليك يا بدر معاياـ الحان راشد عزو) (أحلام الرمال/ زنوبيا ـ الحان زكي محمد) (يا زمان ـ الحان نجيب السراج) (يا ليل ـ ألحان رياض البندك). وتنوي دار الأسد إصدار ألبوم آخر لها يتضمن ما غنته من أدوار وأغان لكبار الملحنين المصريين أثناء وجودها في القاهرة.

يصنف النقاد صوت ماري جبران بأنه من الأصوات القوية المعروفة بالسوبرانو، مع اتصافه بخصائص جمالية، توازي أم كلثوم، صوتاً وأداء، ويقال انه لو امتد بها العمر لكان لها شأن آخر. هذا ما جعلها تتربع على عرش مطربات عصرها، واعتبارها سيدة مطربات بلاد الشام، كما أنها أكدت موقعها في الغناء كصاحبة موهبة كبيرة، في زمن الحروب وانحطاط الفن، فرفعت من مستواه.

وحسب التقديرات، ولدت جبران في بيروت عام 1907، ونتيجة لظروف المجاعة والحرب الأولى هاجرت العائلة إلى دمشق، إلا أن أباها يوسف جبور، عاجله الموت تاركاً أسرته تواجه ظروفاً صعبة، دفعت والدة ماري لتلبية دعوة أختها الممثلة المشهورة حينها ماري جبران (الخالة) للعيش معها في القدس. وهكذا قدر للصغيرة ماري ذات العشر سنوات النشوء في وسط فني وهناك اكتشفت موهبتها باكرا، فأخذت تغني في المسرح وترقص برشاقة وتضرب الصنوج، وتعلمت العزف على العود فبرعت. ثم عملت مطربة في فرقة الممثل المصري «علي الكسار» التي كانت تتجول في يافا وحيفا وبعض مدن شرق الأردن، بعد انتهاء الموسم في القاهرة.

ذاع صيتها في القدس، وأقبل عليها المعجبون ولقبت بـ «ماري الصغيرة» تمييزاً لها عن خالتها ماري الكبيرة، إلا أن الأخيرة غارت من نجاحها، فأساءت معاملتها ودفعتها للعودة إلى دمشق بعد تسع سنوات، مكنت ماري من سلوك طريق الاحتراف.

في دمشق، عملت بملهى «قصر البلور» عدة شهور، ثم وبسبب الظروف المضطربة في سورية جراء الانتداب الفرنسي والثورة السورية الكبرى، انتقلت إلى بيروت وعملت في ملهى «كوكب الشرق». عندما هدأت الأوضاع عام 1927، عادت إلى دمشق لتعمل في ملهى «بسمار»، ثم غادرت إلى حلب واشتغلت في ملهى «الشهبندر». بعد سنة عادت مرة أخرى إلى دمشق، للعمل في ملهى بسمار، وكان يعج بالمعجبين بفنها، وبلغ أجرها الشهري أكثر من خمسين ليرة ذهبية.

في أوائل الثلاثينات، تعرفت على الفنانة المعروفة بديعة مصابني في سهرة خاصة بدمشق وعرضت عليها العمل في القاهرة، هناك فتنت الناس بجمالها وقوة صوتها لتغدو بين ليلة وضحاها قبلة الأنظار، فأطلقوا عليها اسم ماري الجميلة وماري الفاتنة. شهرتها السريعة ونجاحها أثارا غيرة مصابني، فأنهت التعاقد معها متذرعة بأوهى الأسباب. ورغم محاربة مصابني الشرسة لها، مكثت ماري في القاهرة تغني سبع سنوات ضمن ظروف جيدة، وعندما تركت القاهرة مقررة العودة إلى دمشق، لم تُعرف الأسباب الحقيقية لذلك. أواخر الثلاثينات عملت في ملهى العباسية بدمشق بمبلغ مائة وخمسين ليرة ذهبية شهرياً.

حتى هذا التاريخ، كانت ماري جبران تغني أعمال مشاهير الملحنين كأدوار سيد درويش وداود حسني وزكريا أحمد وأبو العلا محمد، من التي تؤديها سيدات الطرب آنذاك كفتحية أحمد وأم كلثوم ومنيرة المهدية ونادرة الشامية. كما وغرفت من ألحان محمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب في المونولوج والقصائد والطقاطيق، وبعض الأعمال التراثية الشامية في الموشحات والأدوار والأغاني الخفيفة. وكانت تستعذب من الغناء القديم الأدوار المشهورة (دع العذول ده من فكرك/في البعد ياما كنت أنوح/ياما انت وحشني) والموشحات (يامن لعبت به الشمول/ حبي دعاني/ منيتي عز اصطباري/ صحت وجداً).

اعتبرت من أكثر المطربات تميزاً لغنائها على أصول الوصلات التي تخصص فيها الرجال، كما غنت الموشح والليالي والموال والدور، بشكل سلسلة منتظمة وهو نظام الفصول الغنائي الذي كان سائداً قبل 100 عام. ويقول النقاد ان ابرز مواهب ماري الفنية أنها تستطيع بصوتها المرسل إنشاد الليالي بجولات تصويرية رائعة.

في دمشق اكتشفت ضرورة أن يكون لها أغانيها الخاصة. اتصلت بمشاهير المطربين من أمثال صابر الصفح ومحمد محسن ورفيق شكري وزكي محمد ونجيب السراج، لتبدأ معهم المرحلة الأخيرة في حياتها الفنية.

ارتاحت لألحان زكي محمد، فغنت من تأليفه عدداً كبيراً من القصائد والمونولوجات والأغاني العاطفية الدارجة. وأول لحن غنته له مفتتحة به حفلاتها الشهرية في عام 1937، مونولوج رومانسي ناعم بعنوان «الشباب» من نظم أحمد مأمون، ثم تتالت أعماله لها، وبخاصة القصائد التي حلقت بها، مثل «زنوبيا» من شعر زهير ميرزا. وقد غنتها عام 1949.

تدمر... مهما ركبنا لمجاليك الزمانـــــا والمكانــــا

واحتوانا منك تاريخ على الدهــر عنانــا ودهانــــا

وهذه الأغنية ضمن ألبومها الصادر حديثا.

بلغت ماري قمة مجدها الفني في سورية، وكرمت بانتخابها نقيبة للموسيقيين سنة 1950. لكن ذلك جاء متأخرا جدا، وبعد أن لم يعد هناك فائدة من الشهرة في حياة بدأت باليتم والفقر والترحال وآلت إلى مرض الأم ومن ثم فقدان الابن الوحيد، لتنتهي بإصابتها بمرض عضال توفيت من جرائه عام 1956. واليوم ونحن نستعيد ذكراها من خلال مشروع دار الأسد، نزين حياتنا بصوتها العذب وفنها الفريد، دون أن ننسى أن كل آه انطلقت من حنجرتها نبعت من ألم جارح ومعاناة طويلة.