جدل الموسيقى يتجدد في السعودية

فيكتور سحاب يحاضر في النادي الأدبي عن علاقة الموسيقى بالتراث

TT

تمثل الموسيقى في السعودية مركباً يجمع بين (الإشكالية) و(الانتعاش)، على النحو الذي تمثله السينما هناك. لكن غياب الموسيقى عن المؤسسات الثقافية لا يعني غيابها عن السمع والتذوق، فمبيعات أشرطة الموسيقى واسطوانات الغناء تسجل ارتفاعاً كبيراً في الأسواق، وتدل أعداد المتقدمين السعوديين في مسابقات (ستار أكاديمي) و(سوبر ستار) على انتعاش الموسيقى في البلد. وهناك الآن محاولات يتيمة تقوم بها المؤسسات الثقافية السعودية لتنظيم عروض (تحتوي) على الموسيقى، أو إقامة أمسيات وندوات عن فن الموسيقى، من دون أن يتاح للجمهور بالضرورة الاستماع لها. آخر هذه المحاولات كانت محاضرة نظمها نادي المنطقة الشرقية الأدبي للدكتور فيكتور سحّاب؛ الخبير الموسيقي؛ ونائب رئيس الاتحاد العالمي للموسيقى الدولي (اليونسكو) بعنوان (الموسيقى العربية وأثر البيئة التاريخية والبشرية والجغرافية فيها). «الشرق الأوسط» التقت الدكتور سحاب بعد محاضرته في الدمام، وكان معه هذا الحوار :

* لنتساءل أولا، ماذا خسرنا بغياب الموسيقى؟

ـ أول الآثار التي تظهر على شخصية الجيل الذي تغيب عنه الموسيقى تعرضه للغزو من الرديء أو من الغريب القادم من الحضارات الأخرى. الموسيقى بمعناها الجاد والمحتشم هي جزء من هوية الأفراد، فعندما تسمع نمطاً معيناً تعرف إلى أي حضارة ينتمي هذا الشخص أو ذاك، فالموسيقى تمثل جزءا من هويتك الحضارية وجزءا من وجدانك وثقافتك.

لعل غياب الموسيقى القومية والشعبية عن أسماع الأطفال يكّون لديهم مشاعر وجدانية غير واضحة، كما أن هذا الغياب سواء كان عن قصد أو عن غير قصد، يهيئهم للغزو الثقافي، وقد يكون هذا الغزو من الغناء الرخيص أو الخليع، أو من ثقافات وحضارات أخرى وافدة تبدأ في تشكيل وجدانك حسب مفاهيمها وحسب أولوياتها، ومن ثم استلحاقك ثقافياً لها.

كما أن غياب الموسيقى يؤدي إلى خلخلة الوحدة المجتمعية، لأنه يضر بلغة التواصل بين مكونات المجتمع على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى السياسية.

* وما هو دور التراث الموسيقي في الثقافة العامة؟

ـ تعد الموسيقى أحد مكونات التراث، كما أن للتراث ثلاثة أدوار مهمة في حياة أية أمة أو شعب من الشعوب. فدوره الأول هو توحيد مكونات المجتمع أو الأمة، وإيجاد حالة من التواصل بين هذه المكونات من خلال توحيد مشاعر أبنائها أو أحاسيسهم، والموسيقى كما الشعر إحدى أدوات التواصل. والدور الثاني للتراث هو ضمان استقلال الأمم والشعوب وكذلك الأفراد، عن الثقافات والحضارات الأخرى، لأن ما تسمعه من موسيقى وما تمارسه من أشكال فنية تراثية مثل الرقص يجعلك بالضرورة مختلفا عن الآخر، من الشعوب والثقافات المختلفة. أما الدور الثالث، فهو توحيد لغة الخطاب بين الحاكم والمحكوم، في جميع النشاطات المختلفة.

* البعض يرى أن الموسيقى هي مجرد رفاه ثقافي..؟

ـ النظرة إلى الموسيقى على أنها رفاه ثقافي، هي نظرة سطحية جداً، لأنها تؤدي إلى أن نتعامل مع التراث بشكل عام بمنطق تجاري فقط، وكأنه مصدر دخل، يمكن أن يوفر لنا مصدراً اقتصادياً جيداً، وعملة صعبة عندما نقدمه بشكل تجاري للسياح.

* من أين تنبع هذه الإشكالية بين الموسيقى وبعض الأوساط المتدينة؟

ـ دعني أقول لك، إن رواد الموسيقى المشهورين في العالم العربي نبتوا داخل بيئات دينية، وبعضهم كان قارئا للقرآن الكريم، أو من عائلة تعنى بتلاوة القرآن. فعلى سبيل المثال هناك سيد درويش، الشيخ زكريا أحمد، الشيخ محمد القصبجي، ابن الشيخ علي ابراهيم القصبجي، رياض السنباطي، ابن الشيخ محمد السنباطي، وأم كلثوم بنت الشيخ إبراهيم البلتاجي، كل هؤلاء أنتجوا موسيقى عصرية، تعتمد على التراث العربي على الرغم من أنهم عاشوا في بيئات متدينة.

* كيف تدرس مستويات الغناء والموسيقى في العالم العربي، أين تتقاطع أو تتباين؟

ـ لدي خريطة للغناء في العالم العربي، تقسم هذه المساحة الشاسعة إلى ثلاثة مستويات، المستوى الأول الموسيقى المدنية، وهي نسيج واحد في كل المدن العربية، وهذه الموسيقى أو هذا الغناء مسموع في المدن العربية من بغداد شرقاً إلى الرباط غرباً، حيث تجدهم يغنون الموشح، والموال والقصيدة، والطقطوقة، والمنلوج، والدور، وهذا النوع من الموسيقى قائم على أن الموسيقيين مؤسسون على ضبط إيقاع الكلمة، ومخارج الحروف وغيرها من أصول الغناء.

والمستوى الثاني هو الأغاني الريفية، فمن يعش في الأرياف لا يسمع غناء المدن، وهذا المستوى مقسم حسب وجهة نظري إلى أربعة أقاليم وقد تكون أكثر، وهي اقليم بلاد الشام ومن أشهر أغانيه الميجنا العتابا والدلعونا، أبو الزلف، وغيرها، وهذا الاقليم يشمل بلاد الشام وأجزاء من العراق، واقليم الجزيرة العربية ومن أشهر أغانية الأغاني البحرية والأغاني اليمنية، واقليم وادي النيل، ويستثنى السودان لأنه يعتمد على السلم الخماسي، بينما الموسيقى العربية تعتمد على السلم السباعي، والاقليم الرابع بلاد المغرب العربي، كل اقليم من هذه الأقاليم يتشابه أبناؤه في ذائقتهم الغنائية وكذلك في أنماط الحانهم وغنائهم.

المستوى الثالث الغناء البدوي، وهذا ينتشر في صحراء الجزيرة العربية وبادية بلاد الشام.

* إذاً ما هي الأسباب التي أدت إلى نعت الموسيقى العربية بالمتخلفة؟

ـ العرب منذ 200 سنة، وبالتحديد منذ مجيء نابليون بونابرت، بدأوا يسألون أنفسهم ما هو سبب هذه الهزائم الحضارية والعسكرية المتتالية؟ وعندها بدأوا يجرمون تراثهم، لأنه طالما زيهم هكذا فهم متخلفون، أو لأن ذائقتهم الموسيقية بهذا الشكل فهم غير متحضرين، وهنا بدأ الفهم الخطأ للتراث، وكذلك التفسير الخاطئ لأسباب الهزائم العسكرية والحضارية والثقافية التي لم تتوقف بعد ذلك، التي عانى منها العرب طول القرنين الماضيين، وبما أن الموسيقى التي تعبر عن الذاكرة الشعبية وعن البيئة وعن المجتمع العربي أحد مكونات هذا التراث، فقد حكم عليها أيضاً خطأ بالتخلف، فتجد معاهد موسيقية تتباهى بأنها تعلم البيانو ولا تعلم العود، وبالتالي ابعدت الموسيقى العربية عن إحياء الروح الاجتماعية في الوطن العربي كغيرها من مكونات تراث الأمة العربية.

* ألا تلاحظ ثمة تردياً للذائقة الموسيقية؟

ـ تردي الذوق الموسيقي هو أقرب لأن يكون نتيجة وليس سببا، وهو نتيجة لسلسلة طويلة من الأسباب المتراكمة، من بينها إبعاد الأطفال عن التراث بحجج كثيرة منها أن هذا التراث صعب، كذلك عدم الثقة بأطفالنا بأن يفهموا هذا التراث فنلجأ إلى المبتذل والخفيف من الأشكال الفنية عندما نقدم الفن لهم.

نحن دائماً نقول إن الأطفال عندما يكبرون يمكنهم الاطلاع على تراثنا بشكل واسع، أو حتى تعلمه، لكن ما يحدث أن الأطفال عندما يكبرون لن يستسيغوا هذا التراث، لأن ذائقتهم قد تكونت أو بالأحرى قد تشوهت، وعوضاً عن أن ينشأوا على تراثهم الشعبي وثقافتهم المجتمعية، نراهم ينشأون على المبتذل والخفيف أو على تراث آخر لا يمت لهم بصلة، مما يقطع الصلة بينهم وبين تراث أمتهم او مجتمعهم.