غادة السمان «الزوجة» تكشف عن «الجنتلمان» الذي يقف وراءها

بشير الداعوق بدأ معها بثلاثة كتب وتركها مع أربعين

غادة السمان
TT

بعد طول ممانعة، تكشف الأديبة غادة السمان عن حياتها كزوجة، وعن عشقها لرجل ملأ حياتها طوال الأربعين سنة الماضية، وكأنما المرأة المتمردة، المتفلتة من كل قيد، التي رسمت لنفسها منذ الستينات صورة الأنثى الحرة التي لا يلجمها تقليد ولا يروضها رباط، قد قررت إماطة اللثام عن جانب حميم من حياتها، بعد رحيل شريك عمرها بشير الداعوق، فمن كان هذا الرجل بالنسبة للكاتبة وأي شيء أضاف إلى أدبها؟ ولماذا أرادت أن ترسم لنفسها صورة المرأة الوحيدة الجامحة، متكتمة على المرأة الوديعة والزوجة المتيمة التي سكنتها وألهمتها؟

فجأة، وكأنما الأديبة الكبيرة غادة السمان غيرت رأيها أو تبدّل مزاجها. وهي تعترف بذلك حين تكتب صراحة بتاريخ 18 أكتوبر 2007: «يبدو أنني فقدت إلى الأبد لقبي: المرأة التي لا تدمع». هكذا نشعر وكأنما رحيل رفيق العمر بشير الداعوق يتحول إلى مفصل في حياة كاتبة، أرادت منذ البداية أن تكون نموذجاً للمرأة المتمردة، التي تعيش كطير لا يعترف بقانون الأسراب الجماعية، ولا يذعن لأعراف عشائرية. منذ مطلع الستينات وهي تحارب على جبهة الكتابة لتقول انها المرأة العربية الجديدة التي تخط طريقها، كما يحلو لها، بالطريقة التي تختارها هي لا أحد غيرها، ولو أغضب ذلك نصف الأمة وأثار استهجان النصف الآخر. وكان القارئ يشعر أن كاتبته لا تشبه أمه او اخته المنضويتين تحت أجنحة ذكورية غليظة. إنها صنف آخر من النساء، تركت بيت العائلة الدمشقية لتصارع وحيدة في بيروت، ثم نجدها تسكن المطارات وتدمن الفنادق، وربما نامت على شواطئ البحيرات، وفي ظلال المتاحف الكبرى المنتشرة في العالم، أما عشاقها فهم لا يعدون ولا يحصون، تبادلت الصحافة أسماء بعضهم، وقيل انها تبادلت رسائل مع مشاهير منهم تخبئها في بنك سويسري حتى يحين موعد الإفراج عنها. أما رسائل غسان كنفاني الرائعة اليها والتي قد تكون من أجمل رسائل العشق التي عرفها أدبنا العربي الحديث على الإطلاق، فهذه عندما نشرتها أثارت غباراً كثيفاً، وكلاماً دميماً، وفهمت على انها ضربة خبيثة من غادة السمان للروح الثورية لمناضل كبير تم تقزيمه من قبلها، وكأنه مجرد عاشق صغير لها. وهي ردة فعل قاسية ربما، لجمت رغبة دفينة عند غادة السمان بالإفراج عن مزيد من الرسائل العشقية التي وجهت لها ذات يوم من أدباء أو شخصيات معروفة، واجلت مشروعها إلى أجل غير مسمى. وقد نجحت هذه الكاتبة الكبيرة، ذات القلم الحاد والريشة المبتلة دائماً بالمعاني المشاكسة والصور البديعة في أن تتحول إلى نموذج نسائي لا نبالغ لو قلنا ان أجيالا من الفتيات العربيات عشن في كنفه، وتربين على الاحتذاء به. ولا نعرف اليوم، كم من امرأة عربية كسرت أغلالها بفضل تتلمذها في مدرسة غادة السمان! والأهم من ذلك ان هذه السيرة النسائية الذاتية التي كتبتها السمان منذ الستينات، في مقالات وروايات وقصص ودواوين شعر، كانت صاحبتها دائماً وحيدة، تتنقل بمفردها، وتعاند اقدارها وكأنها وجدت مقطوعة من شجرة وأرادت أن تبقى كذلك صوناً لحريتها ودرءاً لما يمكن ان يعكّر صفو سباحتها عكس التيار. وبذلك تحاشت، هي التي جعلت من تفاصيل حياتها ومشاهداتها وتجاربها، مادة للكتابة، أن ترسم سيرتها كاملة، كامرأة متزوجة وأم وربة بيت. ولا نعرف إن كانت بذلك قد أرادت أن تحافظ على صورة المراهقة الأبدية، أم أنها ارادت أن تسيّج حياتها الحميمة وتحميها من خرمشات الفضوليين الذين قد يدمونها؟

أياً يكن الجواب، ها هي غادة السمان تقرر أخيراً، وبعد رحيل شريك العمر أن تكتب حكايتها معه أو ما يمكن أن يكتب منها، وكأنما سقط المحرم، وبات بمقدورها ان تبوح بحكايتها دون أن تقص نصفها بمقص الرقيب. فبمناسبة صدور كتاب جمعت فيه «دار الطليعة» التي أسسها وأدارها بشير الداعوق، كتاباً وداعياً له نشرت فيه المقالات التي نشرت في الصحف بمناسبة رحيله ورسائل التعزية التي انهالت على دار النشر والعائلة بعد فقده، قدّمت غادة السمان لهذا الكتاب بمقالات كانت قد نشرتها في الحوادث، تبكي وتحكي فيها مقتطفات من هذا العمر الثري بالعمل والمثابرة، حتى يخيل لنا أن هذين الزوجين كانا يعيشان على طريقة النمل الذي لا يكل ولا يهدأ بعيداً عن الأبصار. فماذا أخبرتنا غادة، وما الذي كشفت عنه؟

نكتشف أن غادة السمان المثقفة والقارئة، لم تزدد بزواجها من بشير الداعوق القارئ المدمن، إلا مزيداً من الشره للقراءة والمعرفة وهو ما أغناها وأضاف إلى كتاباتها، كما أن طبيعته الهادئة والمعرضة عن الكرنفالات الاجتماعية والسهرات والثرثرات جعلتها هي الأخرى تسايره وتقبع في عزلة العمل على مكتب مقابل له، بدل تضييع الوقت في ما لا طائل تحته. وتقول غادة السمان انها من لحظات تعارفهما الأولى شعرت انه: «يضع حجر الأساس في علاقتنا بحرصه على أن أكتب وأكتب، ولم يكن مصاباً بالازدواجية، وكان يحتضن ما أخطه كالنبلاء والملوك الذين يتبنون فناً أعجبهم ووجدوه يستحق الحياة». وتروي غادة السمان حكاية لقائها الأول مع بشير الداعوق، يوم كانت تحضّر لكتابة تحقيق صحافي عن «ازدواجية الثوريين العرب في سلوكهم الرجعي نحو المرأة»، وقابلت حينها العديدين منهم، واكتشفت منذ اللحظة الأولى ان بشير الداعوق كان شيئاً آخر، ولم تمض ثلاثة اسابيع حتى كان قرار الخطوبة قد اتخذ. وتروي غادة السمان في هذه المقدمة الصغيرة، تفاصيل مثيرة عن اكتشافها للقصر الذي كان يعيش فيه بشير الداعوق وكيف تم عقد القران بحضور قريبها الشاعر نزار قباني كشاهد على زواجها، وكيف انتفض خالها حين علم بأمر طلبها ان تكون العصمة بيدها، لولا تدخل بشير الداعوق مدعياً انه صاحب الفكرة. ولعل اكثر ما يمكن ان يؤثر في القارئ وهو يكتشف هذه النصوص القصيرة لغادة السمان هي الساعات التسع الأليمة التي قضتها ممسكة بيد زوجها الحارة بينما كانت الحياة تفارقه رويداً رويدا. ثم ما يمكن أن يصيب امرأة حين يتركها حبيبها وصديق عمرها بعد سنوات من الشراكة الحقة، حيث يصبح الرجل جزءاً من الأنثى وهي قطعة منه، عندها، في هذه اللحظة التي لا نظير لمأساويتها، تخاطبه غادة السمان قائلة، وكأنما الأمل قد عاد لينبجس من داخلها:

لا وقت عندي إلا لكتابة رسالة حب وشوق اليك، لكنك رحلت، ونسيت أن تترك لأحد في كوكبنا عنوانك. ثم وكأنما كانت الحياة اقصر من ان تتسع لهذه الحياة الزوجية الهانئة المثمرة تتعجب غادة السمان: لماذا حين نتعلم كيف نحيا ونكتب، ونحب، يكون قد جاء دورنا لنموت؟

تقرأ هذه الكلمات التي خصت بها غادة السمان زوجها وهي تطلع القراء على هذا الجانب من حياتها للمرة الأولى، وتتعرف على بشير الداعوق الإنسان، الذي قررت زوجته غادة ان تكتب عنه، تاركة الجوانب الأخرى من حياته النضالية والتنويرية ودوره كناشر وكعروبي متيم لآخرين يصولون ويجولون كما يشاءون، أما هي فيعنيها منه هذا الحبيب والزوج «الجنتلمان» الذي صار اباً وأماً لها، كما كان أباً نبيلاً لابنه حازم، يصطحبه تحت الشتاء والمطر في شوارع باريس، كي يوصله في كل مرة إلى مدرسة تعليم اللغة العربية، كي لا يبقى جاهلاً للغته الأم.

نادراً ما كتبت أديباتنا عن أزواجهن كعاشقات متيمات، ورسمن لهؤلاء الرجال الذين لعبوا دوراً كبيراً في حياتهن صوراً أدبية، يمكن أن تجعلنا نكتشف كيف أن وراء كل امرأة عظيمة رجلاً، تماماً كما تقف وراء كل رجل عظيم امرأة. فالحياة تصبح أكثر جلالاً حين تكون مبنية على ثنائية نبيلة. ولعل ما ينعش القلب هو ذلك الوعد أو ما يشبه الوعد الذي تقطعه غادة السمان لفيروز التي أرسلت لها بطاقة تهنئة بولادة ابنها ومن ثم رسالة تعزية يوم رحيل زوجها، تقول غادة السمان وهي تضع الرسالتين بقرب بعضهما بعضا: «عسى أن أكتب قصة عمر ووطن بين بطاقتين على طول ثلاثة عقود عسيرة... وأهدي تلك القصة للعزيزة فيروز». قصة أو قصص كثيرة بمقدور غادة السمان أن تكتبها عن حياتها من دون أقنعة هذه المرة. فالقارئات اللواتي همن بها مجنونة بالحرية وتحطيم القيود، وابتكار نمط حياتي مجنح طوال نصف القرن الماضي، وقالت لهن انها عاشت تنتظر حبيباً لا يأتي، وحياة لا تشبه المخلوقات العادية التي تدبّ على الأرض - وقد يكون هذا من لوازم الأدب الناجح - هن بحاجة اليوم أن يعرفن السيرة البشرية الحقيقية لغادة السمان الزوجة والأم، كي يصبح أدبها بالفعل، سيرة امرأة عربية يعاش ويتنفس بملء الرئتين.

«وسط البلد» يشهد ولادة ثقافة بديلة في مصر