من هو «ذاك» مؤلف «رواية البطلين»؟

بيروت: جان دايه

جرجي زيدان
TT

يذيل أو يتوّج العديد من الصحافيين والأدباء مقالاتهم باسماء مستعارة لمجموعة أسباب، لعل ابرزها اتقاء الإحراج من زملائهم واصدقائهم في الدرجة الأولى، وخطر الاعتقال في الدرجة الثانية. ومن أطرف الأمثلة، ما جرى للأديب سعيد تقي الدين حين بعث بأول مقال له إلى جريدة «البرق» البيروتية لصاحبها الشاعر عبد الله الخوري الملقب بالأخطل الصغير، وذيّله بتوقيع مستعار «حماد» مخافة عدم نشره، وما ينجم عن ذلك من إحراج إزاء عمّه النائب والشاعر أمين تقي الدين الصديق الكبير للأخطل الصغير. ولكن، حين ظهر المقال في الصفحة الأولى من الجريدة، حاول الأديب الناشئ إقناع أصدقائه بأنه كاتبه، فلم يصدقه أحد.

ولكن نسبة وجود الأسماء المستعارة على أغلفة الكتب العربية هي الأدنى بما لا يقاس. ويعود ذلك الى أن السبب الوحيد او الرئيسي الى توسل المؤلف الاسم المستعار يكمن في اتقاء الاعتقال او الاغتيال. ولنا من عبد الرحمن الكواكبي خير مثال. فقد صدر كتابه «طبائع الاستبداد» بتوقيع مستعار «الرحالة ك» وكتابه الآخر «أم القرى» بتوقيع مستعار آخر «السيّد الفراتي» مخافة تعرّضه لبطش السلطان عبد الحميد. وكان خوفه في محلّه. فقد مات مسموماً اثر انكشاف اسمه الحقيقي عام 1902.

ولكن ماذا عن كتاب «رواية البطلين» الاسم المستعار «ذاك»؟ هل توسّل مؤلفه اسماً مستعاراً اتقاء لخطر ما؟ وما هو الاسم الحقيقي لمؤلف الكتاب، ولبطلي روايته؟

خصص «ذاك» كامل مقدمة الكتاب الممتدة على ثلاث صفحات للكلام عن تأليف الروايات التي اكثر الغربيون منها وتفننوا في ابوابها دون ان يصيب بلادنا العزيزة منها الا اليسير، واكثر هذا اليسير، بل جمعية من المنقول لا من المعقول. ولاحظ المؤلف افتقار العربية الى عبارات يحتاجها فن الروايات، يستطيع الكاتب بمساعدها ان يحصر معانيه ويعبّر عن أفكاره بعبارات اصطلاحية تغني وتفيد. أضاف مؤكداً ان قصده في هذه الرواية أو سواها الزجر عن ارتكاب الرذائل والتشجيع على تحصيل الأدب واحتمال المصاعب. وختم واعداً ومتعهداً بأن رواياته المتمحورة على التاريخ سوف تستند على أصدق الروايات وأدق الكتب مباحثا.

أطلق المؤلّف على البطل الأول لروايته اسم كريم معلوف. ثم راح يروي سيرته عبر محطاته الرئيسية. وبالمقارنة بين سيرة معلوف وسيرة جرجي زيدان، يمكن القول ان أحد بطليْ الرواية هو زيدان نفسه، منذ طفولته حتى عام 1889 تاريخ صدور الرواية.

في سياق حواره مع طالب الطب داخل المطعم الذي يعمل فيه بوظيفة غرسون، قال كريم معلوف في الصفحة 12: نعم اني مستخدم جديد. وكنت أتعلّم سابقاً عمل الأحذية. وبعد أن صرفت في ممارسة الحرفة ستة أشهر، وتقدمت في الصنعة رأيت مع انها سهلة العمل، ومع انني كنت قد ابتدأت ان اكتسب قليلا من الدراهم زيادة عما حصله غيري في مثل هذه المدة القصيرة، انما لا تناسبني لأنني لا ارى فيها الا دق مسامير هذا الحذاء وخياطة ذاك واصلاح اطراف نعل هذا. اضاف بعد ان قدّم لأحد الزبائن صحنا من الكبة مع قليل من اللبن والفجل والخبز: قلت لك انني سئمت عمل الاحذية لانني رأيت انه عمل متعب بدون لذة، ولهذا أتيت الى هنا اخدم في هذا المكان، مع انني على يقين ان هذه المهنة ليست بأحسن كثيراً. وفي كتابه «جرجي زيدان - حياته – أعماله» قال نظير مارون عبود في الصفحة 19: قرر الأبوان ان يتعلم الابن صناعة الاحذية، فتعلّمها على احد الاسكافيين - اذ لا مدارس مهنية آنذاك - وبقي فيها مدة سنتين. فاضطر ان يعود ثانية الى المطعم، يعمل فيه، ويبحث في الوقت ذاته عن عمل آخر. والجدير بالذكر ان زيدان بدأ العمل في مطعم والده.

ومن حضيض مصنع الاحذية والمطعم، تمكّن كريم من تسلّق قمة الجامعة الاميركية والانتساب الى كلية الطب بمساعدة طالب الطب، وبالجهد القياسي الذي بذله لتعلّم الانكليزية. وحول هذه المحطة يقول (ذاك) على لسان رفيق كريم في الجامعة خلال احتفال امتحان آخر السنة الاولى: هذا فتى اقام نفسه من بين العامة بطريقة غريبة، قيل انه كان عامل أحذية أولاً، ثم خدم في نزل ولقي هناك أحد تلامذة الطب الذي ساعده على الدروس الاستعدادية، ومن الغريب انه تلقى هذه الدروس المطلوبة بأربعة أشهر. وكنت حاضراً في فحصه وسمعته يجيب اجوبة لا تقل في مكانتها العلمية عن تلك التي يجيبها من درس سنوات عديدة.

ويروي نظير عبود في الصفحة 21 من كتابه المتمحور على اعمال جرجي وسيرته ان الاخير انتمى الى كلية الطب سنة 1881 بعد ان درس العلوم الاعدادية كلها على احد اصدقائه بنحو شهرين ونصف.. وقد كان في السنة الاولى من الطب مثال الاجتهاد، ونال في الامتحان السنوي شهادات الامتياز على تلاميذ صفه. وفي الفصل الخامس (ص32) تمنّى كريم لو بقي عامل احذية او خادم نزل. لماذا؟ لان الدهر ابى الا معاكستي وآلت الظروف الا معارضتي. فقد مرت الجامعة بمتاعب نتجت عن انفصال الاستاذ. فأقسم كريم مع غيره الا يرجع اليها- اي الجامعة- الا اذا وقعت عمدة المدرسة على شروط خصوصية. اما اذا رفضت العمدة الشروط، فلا نقصد ترك الدروس، بل سنلازمها في بيوت الاساتذة. فالعلم لا يجنى في القصور الشاهقة وحدها. ويستفاد من الفصول اللاحقة انه ترك الجامعة، ولكنه لم يوضح السبب. ولكن اسباب انتفاضة طلاب الطب والصيدلة في الجامعة الاميركية عام 1882 باتت معروفة منذ ان نشرت مذكرات جرجي زيدان عنها في مجلته «الهلال» بدءا من تشرين الاول 1924. ويمكن تلخيص ذلك بأن الاستاذ المستقيل او بالاحرى المقال هو الدكتور ادوين لويس الذي القى خطبة شجّع فيها الطلاب على مطالعة كل الكتب، حتى العائدة منها الى داروين. غضب رئيس الجامعة دانيال بلسّ من زميله وحرّض مجلس الامناء في نيويورك ضده، فوافقوا على اقالته. وكانت إقالة هذا الاستاذ الديمقراطي والمحبوب من الطلاب، احد ثلاثة اسباب وراء اول ثورة طلابية في العالم العربي. السببان الاضافيان للانتفاضة هما، أولاً، اقرار الادارة بتدريس العلوم باللغة الانجليزية بعد ان كانت تدرّس بالعربية منذ تأسيس الجامعة في عام 1866. وثانياً، اضطرار طلاب الطب والصيدلة لتعلم التركية والسفر الى اسطمبول لتقديم الامتحان النهائي ونيل الشهادة الرسمية. وهكذا انتخب الطلاب المنتفضون لجنة منهم برئاسة جرجي زيدان رغم انه الاصغر سنا والادنى صفا. دامت الانتفاضة عاماً كاملاً، وانتهت بطرد عدد من المنتفضين وعلى رأسهم زيدان نفسه. فأكمل المطرودون دروسهم في منزل الدكتور كورنيليوس فاندايك الذي استقال من الجامعة تضامناً مع زميله لويس. ولكن زيدان بقي مضرباً، بمعنى انه غادر التعليم الطبي نهائياً وسافر الى مصر. وهنا بدأت المرحلة الخامسة من حياة زيدان التي دخل على خطها بطل الرواية الثاني والاخير فيكتور.

وكالعادة، نقرأ في الرواية عبارات غير محدودة واسماء مستعارة. يقول المؤلف في الصفحة 169: نخشى هجوم العدو.. ولولا أمانة (كريم) ترجمان المعسكر، لكنا بلينا بنكبات عديدة. وفي الصفحة 163 خاطب القائد البريطاني كريم والترجمانين الآخرين آمين ويوسف بلهجة فوقية: يا تراجمة، خذوا هذا الحصان وخلّوا عنكم الكسل. ولما لم يجبه احد بسبب غلاظة حديثه غضب وصاح. يو بلدى انتا رترتس (You Bloody Interpreters) اما سمعتم أمري؟ فأجابه كريم: نعم أيها القبطان سمعنا.

ولكن إعلم اننا في مقام خدمة. وإذا كان بيننا من يخضع لاوامرك الاستبدادية، فاعلم اننا لا نخضع بغير الحق لنفس بشرية ولو نزلت من السماء. يضيف المؤلف في الصفحة 166: يقترب الجنود كل يوم من الخرطوم. يأتينا الجواسيس كل يوم ويخبروننا عن بقاء فيكتور في قيد الحياة. ويختم «ذاك» الكتاب المؤلف من 187 صفحة من القطع الصغير بالعبارة التالية التي نحتت على تمثال موجود في كنيسة سان بول اللندنية: هنا تمثال يذكّر أبناء المستقبل بعسكري بذل حياته في خدمة الوطن والانسانية فسمي بطلاً: الجنرال فيكتور ولد سنة ؟؟؟18 وتوفي قتيلاً في الخرطوم سنة ؟؟؟؟18.

وإذا عدنا الى كل الدراسات والكتب التي تناولت سيرة جرجي زيدان ومنها كتاب «رحلة جرجي زيدان الى الاستانة عام 1959» لمؤلفه محمد حرب، تتوضح الصورة الروائية السابقة على النحو التالي: رافق الترجمان زيدان الحملة البريطانية التي انطلقت من القاهرة الى الخرطوم لانقاذ الحاكم البريطاني غوردون باشا واعادة احتلال السودان بعد ان حررها المهدي. وكان نجاح الحملة جزئياً. فالاحتلال تم من جديد، ولكن غوردون باشا قتل. والجدير ذكره ان زميل جرجي زيدان في الترجمة «أمين» ليس سوى العلاّمة جبر ضومظ.

لقد علمنا حتى الآن اسم كل من بطلي الرواية. ولكن ماذا عن اسم مؤلّفها الحقيقي؟ يؤكد الكاتب توماس فيليب في كتابه الانجليزي «جرجي زيدان - حياته وفكره» في الصفحة 24 ان «ذاك» هو الاسم المستعار لنسيب عبد الله شبلي رفيق زيدان في كلية الطب. ولكن التأكيد في غير محله لسبب بسيط وهو ان شبلي لم يكتب باللغة العربية، وقد عُرف عنه ممارسته الكتابة الصحافية باللغة الانجليزية في لندن ونيويورك حيث عاش بعد تخرجه في الجامعة الاميركية. والمرجح ان المؤلف هو جرجي زيدان نفسه، بدليل تضمينه الرواية سيرة حياته منذ ولادته حتى تاريخ صدور الكتاب، بكل دقائقها واسرارها، والتي يستحيل على أي كاتب معرفة بعضها في تلك الحقبة. أضف الى ذلك، ان كتاب «رواية البطلين» لم يكن باكورة نتاج زيدان في حقل الكتب. فقد سبق وأصدر في عام 1886 كتاب «الالفاظ العربية والفلسفة اللغوية». أما لماذا لم يضع اسمه الصريح على كتابه الثاني، فلأنه كان يلقي الضوء فيه على شخصه. وزيدان المعروف بتواضعه، أبى ان يكتب بتوقيعه الصريح عن تفوقه ونبوغه، خصوصاً وان «رواية البطلين» ليست في معظم وقائعها وصفحاتها إلا رواية البطل الواحد وهو زيدان نفسه. ومهما يكن من أمر، فإن «رواية البطلين» هي باكورة السير الذاتية في اللغة العربية التي تملأ رفوف مكتباتنا الخاصة، ومنها، وربما آخرها «المدينة الملونة» لحليم بركات.