الترجمة إلى العربية تستبيح خيانة «الخيانة»

صفحات «إباحية» تحذف ومفردات «قذرة» تستبدل

TT

رواية (عاشقات) للنمساوية الفريدة يلنيك، فجرت أزمة في الساحة الثقافية المصرية، فقد تبين أن نسختها العربية الصادرة أخيراً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، تعرضت لتعديلات عديدة من مترجمها مصطفى ماهر وعمليات حذف لبعض المفردات التي اعتبرها «مبتذلة». ولم يقف الأمر هنا بل جاءت تصريحات المترجم دفاعاً عن الخيانات المقصودة التي ارتكبها لتسكب الزيت على النار، وحين أراد ماهر أن يخفف من وطأة تصريحاته الأولى قال ما سبب غيظاً أكبر، وفتح الباب على مصراعيه: الترجمة بحد ذاتها خيانة، فكيف إذا ارتكب المترجم خيانة على الخيانة؟.

مصطفى ماهر مترجم عريق أسهم على مدى خمسين عاماً، في التعريف بكبار المفكرين الألمان مثل كافكا وجوتة وشيللر وهيرمان هيسه، وتبين انه تصرف في مواضع عديدة من النص أثير غبار كثير حولها. وبدا الوضع أكثر إدهاشاً حين اعترف المترجم بأنها ليست المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك، كما أن تمسكه بحقه في ما فعل، يؤكد أنها لن تكون الأخيرة!.

يقول مصطفى ماهر بنبرة تميل إلى العصبية إنه يتحمل مسؤولية عمله كاملاً فقد «قدمت للقارئ ترجمة من أعظم ما يمكن، وترجمة أي عمل تنبع من أهميته ككل، لكنهم توقفوا عند بعض المفردات». وعلى الأرجح أن تصريحات ماهر التي نشرت بعد صدور الرواية هي التي أثارت التداعيات، فقد قال انه «يخشى أن يفسر القارئ العربي سلوكيات المؤلفة بطريقة خاطئة!»، وان «الرواية تضم عبارات إذا قرأها الناس سيتصورون أن الكاتبة عاهرة وقوادة وقليلة الأدب!». وعندما سألنا ماهر عن رأيه هذا نفاه، وقال: «اسأل من كتبه من أين أتى به»، ويضيف: «أنا أقدم نصاً جيداً ومحترماً ولي ملاحظات كتبتها في المقدمة». الحديث عن الاحترام يحيل إلى موقف أخلاقي من النص مرة أخرى. وينطق المترجم أمامنا بعبارات شعبية تصف العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة ويتحدانا أن ننشرها في أي جريدة. لكن النشر في جريدة تتجه إلى جمهور عريض يختلف بالتأكيد عن النشر في كتاب تقرأه نخبة، فيرد ماهر قائلا: «أرفض أن أنقل أي تعبير يتسم بالوقاحة أو الفجاجة، أنا أعرف حدودي تماماً. والحديث عن كتب تراثية تتضمن مضامين مشابهة مردود عليه، فـ(رجوع الشيخ إلى صباه) مثلاً كان كتاباً موجهاً لفئة بعينها من القراء»، ويستطرد: «رواية (عاشقات) أخذت وقتاً طويلاً في الترجمة، ولا بد من تقييم مضمون الترجمة ككل، أما التركيز على قضية جانبية فهو افتعال. أنا صاحب رسالة وإذا صادفت في نص ما مفردات لا تعجبني، لا بد أن أتصرف».

لا ينكر مصطفى ماهر أن هناك تعابير لا بد من التصرف فيها لأن ترجمتها الحرفية لا تقدم الدلالة نفسها مثل: «(وشك ولا وش القمر)، كيف أترجمها حرفياً إلى الألمانية؟، إن التغيير يحدث باستمرار، وعموما قدمت للقارئ نصاً ممتعاً، ومقدمة تزيد على الخمسين صفحة، وهوامش تشرح كيف نشر هذا النص في النمسا وقيمته الأدبية، ولا يجوز بعد كل هذا، التوقف أمام تفصيلات سطحية، خاصة ان مَن يثيرونها لم يقرأوا النص. وأود أن أشير إلى أن مَن يترجم النص بما ورد فيه من مفردات «قذرة» سيفسده، لأن يلنيك عندما كتبتها كانت تتحدث عن عادات خاصة بالنمساويين وغير متعارف عليها عندنا. ليس مطلوباً مني أن أقدم خمس صفحات كاملة تصف فيها المؤلفة الحبيب وما يفعله معها بتفاصيل بالغة الحساسية».

المثير أن التدخل في رواية يلنيك ليست السابقة الأولى له، حسبما يقول المترجم: «قدمت للقارئ العربي رواية (الأقزام العمالقة)، وكان بها مشهد جنسي خطط له الأبناء بين أبيهم وأمهم لينجبا طفلاً يكمل لهم فريق الكرة!، ولم أترجمه بكل تفاصيله كما جاء في الأصل»، ويختتم كلماته: «من يريد أن يورد في ترجمته أسماء الأعضاء التناسلية فليفعل، لكنني شخصيا أرى أن هناك اختلافاً مجتمعياً. في أوروبا يعلمون الجنس في المدارس ولا نفعل نحن ذلك، أمامنا سنوات طويلة لنصل إلى ذلك، ومشكلتنا أننا نخصص وقتاً طويلاً لمناقشة قضايا لا طائل من ورائها».

كلمات مصطفى ماهر الأخيرة تطرح إشكالية، فالترجمة تعتبر جسراً بين ثقافتين، ونقل عمل ما من ثقافة أخرى إلى ثقافتنا وفقاً لمقاييسنا يفقد الترجمة جزءاً مهماً من وظيفتها. وهو أمر يتفق معه طلعت الشايب قائلا: «المترجم ناقل حضارة، والمفروض أن نستفيد من الاختلاف، لأن القارئ في هذه الحالة قد يرفض أو يؤيد، لكنه في النهاية سيدخل في حراك فكري». قبل سنوات كان الشايب قد ترجم رواية (البطء) لميلان كونديرا عن الإنجليزية. تضمنت الرواية تفاصيل جنسية كثيرة، فاضطرت أسبوعية «أخبار الأدب» إلى الاستعاضة عن بعض المفردات بنقاط، كونها جريدة موجهة للقارئ العادي، لكن عندما نشرت الرواية كاملة لم يحذف منها أي شيء. والحذف من جانب المترجم مرفوض بصفة عامة عند طلعت الشايب: «كمترجم لا أتدخل في النص، إما أن أترجمه بالكامل أو لا أترجمه، وإذا كان التدخل غير مسموح به في الأعمال البحثية، فإنه في الأعمال الإبداعية يكتسب عدم مشروعية أكبر، لأن أي تدخل يحدث خللاً في بناء شخصياتها. لا بد أن أنقل الثقافة كما هي، إنه فكر المؤلف. لقد قرأنا نيتشه الذي يتحدث عن موت الإله، وهي فكرة مرفوضة عندنا، لكن كيف يمكن أن أخففها؟ ثم لماذا يلجأ المترجم لكل هذا؟ إذا وجد أن هناك ما يستحق التعليق فليبتعد عن النص الأصلي وأمامه الفرصة في الهوامش والمقدمة».

صفة الخيانة لم تكن مرتبطة إطلاقا بتدخلات المترجم، فبماذا يمكن أن توصف الترجمة في حال حدوث تدخلات؟، يجيب طلعت الشايب: «أرى أن النص يتعرض لعدة ترجمات، تبدأ من قراءتي له بلغته الأصلية، أما الترجمة الثانية فتحدث عندما أنقله إلى لغتي، والثالثة تتحقق عندما يقرأه المتلقي. وكل مرحلة تحدث بها تحويرات ولو طفيفة للنص الأصلي». يعمد الشايب إلى توضيح أمر آخر: «نحن أمام نوعين من الخيانة: الأولى نتيجة جهل بالثقافة المنقول منها، وهي غير مقصودة لكنها تخل بالنص الأصلي، أما الخيانة الثانية فمتعمدة، وذلك عندما يقوم المترجم بالتدخل. وفي الحالتين يتأثر النص سلباً». لكن هناك مَن يرى أن المترجم لا بد أن يستند إلى منظومة أخلاقية تنبع من المجتمع الذي ينتمي إليه، يرد الشايب قائلا: «لا ينبغي أن نجرد الألفاظ من سياقها. فالمتصيدون هم الذين يفعلون ذلك فقط، ينبغي أن يقرأ النص كاملاً وهنا سيتم تجاوز أي مشكلات»، ويضيف: «المشكلة الحقيقية تتمثل في كون الترجمة تتم وفقاً لمنظومة السوق، بدل أن يختار المترجم العمل عن اقتناع كامل أو يرفض ترجمته».

على مدى سنوات تعامل طلعت شاهين مع الثقافة الإسبانية، وقدم للمكتبة العربية ترجمات عديدة جعلته يرفض فكرة خيانة الترجمة التي أصبحت تعبيراً شائعاً، يقول: «أعتقد شخصياً أنه لا توجد مفردة في لغة ليس لها مقابل في اللغة الأخرى، والفيصل هو مدى إلمام المترجم ليس باللغتين فقط وإنما بالثقافتين: التي يترجم منها وإليها. إذا كان النص قابلاً للترجمة من وجهة نظر المترجم ويملك الجرأة على ترجمته فليفعل من دون أن يجعل من نفسه رقيباً، أو فليبتعد عن النص. لا توجد كلمات قبيحة وأخرى غير قبيحة، فحتى تلك التي تتناول الأعضاء التناسلية موجودة في اللغة واستخدمت في القرآن الكريم بمفردات مهذبة، بل إن مسمياتها العامية تتداول في الشارع يومياً. والمترجم أمامه كل هذه المستويات من التعبير، فلماذا يلجأ إلى الحذف والتبديل؟»، إضافة إلى كونه مترجماً يعتبر طلعت شاهين ناشراً، أي أنه يمسك بجانبين أساسيين في عملية الترجمة. ورداً على سؤال حول ممارسته رقابة ما في إحدى المرحلتين نفى ذلك: «لا أمارس أي رقابة، إما أن ينشر الكتاب أو لا ينشر، وعموما لديّ قناعة بأن هناك نوعين من الكتب لا يمكن ترجمتهما: النوع الأول هو الشعر الذي يعتمد على الجرس اللفظي للحرف لأن ترجمته بالغة الصعوبة. أما النوع الثاني فيضم أعمالاً تعتبر غير مقبولة حتى في ثقافتها ولا تتعدى أن تكون تياراً ضئيل الحجم. فلماذا أبحث عن الشاذ وأترجمه؟، الترجمة هي نقل ثقافة متكاملة، وعلى مَن يترجم هذه الكتابات أن ينقلها كما هي من دون تدخل؟».