أفكارٌ من وحي خطاب الرشوة

الراشي والمرتشي والرائش.. في دراسة لبنانية

TT

رداً على التساؤل عن كيفية توسل اللسانيات منهجاً، واللغة وسيلةً لمقاربة خطاب الرشوة لدى أبطاله الثلاثة: الراشي والمرتشي والرائش، يقول نادر سراج مؤلف كتاب «خطاب الرشوة، دراسة لغوية اجتماعية»، الصادر عن دار نجيب الريس ببيروت، «إن اللسانيات الوظيفية، لسانيات العرف والواقع معتمدة هنا باعتبارها الأداة العلمية الضرورية لمعاينة الحقائق اليومية للغة الانسانية. وهذه الأخيرة تتميز عن سائر وسائل الاتصال المتاحة باشتغاليتها وديناميتها وتطورها الدائم بغية تأدية وظيفتها في التعبير عن احتياجات متكلميها المتنوعة السياقات، والمتطورة بدورها على الدوام. واللغة، مأخوذة هنا باعتبارها ثابتاً من ثوابت الهوية والانتماء وبوصفها معلماً أساسياً من معالم الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي».

والجديد الذي يسلط الضوء عليه في هذا المضمار هو انطلاقه من الحقيقة اللغوية المعاشة والعفوية، والشائعة والمعروفة إلى درجة اعتبارها تحصيلاً حاصلاً، والتي قد لا تعتبر في أغلب الأحيان في نظر العديد من الباحثين والدارسين جديرة بالأخذ بعين الاعتبار، أو ذات خصوصية علمية واضحة المعالم والسمات.

يلفت الكاتب إلى أن مفردات الرشوة وتعابيرها تسربت إلى خطابنا التعاملي اليومي، على ألسن أشخاص احترفوها؛ فأنتجوا هذا الخطاب وأحسنوا صياغته بفطريتهم منطلقاً، وعملانيتهم لاحقاً، وروجوه وردّدوه واختلفوا بشأنه مع الزبائن (الراشين)، أو مع الوسطاء (الرائشين)، وحينما راجت «بضاعتهم»، دوروا زوايا لغة المطالبة بالأتعاب، الوقحة بطبيعتها، وابتدعوا استعارات طريفة لها؛ إن بلسانهم الأم أو بمحكياتهم المناطقية، أو بألسن الأمم الغربية، التي يلمون بشذرات من لغاتها، على حدّ سواء. وفي هذا المجال، لاحظ الدكتور نادر سراج أن خطاب الرشوة يتلاعب بالألفاظ لمجانبة الألم. فتوصيف الرشوة وما يتصل باسمها الحقيقي لدى القائمين بها يولد «وخز ضمير». لذا يفضلون اعتماد تحايل لغوي يحفظ لهم منافعها ويجنبهم «الشعور بالخطأ». فيتجنبون الاسم المولد للألم ويستبدلونه بألفاظ وتعابير محايدة أو ملطفة أو مقبولة اجتماعياً.

وهو يعرفه باعتباره تعبيراً مجازياً مختصراً إلى حدّ الالتباس، ومثيراً للإعجاب لجهة عفوية مرسله ودقة دلالته؛ يكرّس طريقة التعاطي المباشر ويوحي بالمردودية المفترضة، ويسعى لنقلها بأبسط السبل والأشكال لجمهور المتلقين (الراشين رغماً عنهم أحياناً كثيرة)، بغضّ النظر عن اختلاف ثقافاتهم الاجتماعية وتنوّع إمكانياتهم التواصلية وتباين قدراتهم المادية.

وبغية إلقاء الضوء على سيرورة تشكل مفاصل هذا الخطاب وتراكيبه في المجال التعاملي اليومي، يلاحظ سراج أن جماعة المرتشين تصوغ التعبير الرشائي المطلوب والأكثر عملانية في محيطها «المهني»، وتضعه بتصرف الجمهور، الراشي بالقوة، ومن ثمّ بالفعل. وعبر متابعته لترسخ التعبير في سلوكيات الجمهور، يلفت إلى أن هذا التعبير متى راجَ في أسواق التعامل واستمدّ شعبيته ومشروعيته من ظروف «الضرورة» المواكبة لإنتاجه، مكاناً وزماناً، بات متكأً لغوياً سائراً ومرجعَ إسنادٍ واسع الانتشار وسهل الاستحضار، مشافهة، عند راغبيه. ومحصلة لهذا التدرج في الاستخدام، أمسى حالياً يندرج ضمن المسكوكات اللغوية الجاهزة (أشكال التحية والتخاطب، التعبيرات الشبابية...). وهي تعابير تعبّر عن واقع الحال وتغني عن فائض الكلام وتمتلك جملة وظائف تحفيزية أو ندائية أو إقناعية أو تخفيفية أو برهانية. ولتذكير القارئ، ينبهنا سراج إلى

هنا، يتساءل المؤلف هل بات الكلام عن «أدبيات» الرشوة في بيئاتنا العربية مباحاً ومتاحاً بعدما تحول هذا الخطاب المتواري والمسكوت عنه خطاباً متماسكاً بمفاصله الرئيسية وبأبطاله الأساسيين الذين أضحوا «نجوماً ونجمات» وبالجمهور المتناقل له. الإجابة تأتي بصيغة غير مباشرة يضمنها موقفه المتمثل في أن محاولته لجمع شذرات هذا الخطاب رغب منها ردم القطيعة المعرفية أو الهوة الافتراضية بين الكاتب والجمهور المنتج، بين الباحث والرواة اللغويين «الشعبويين»، وبين المثقف ومجتمعه، وبخاصة لنبش دفائن العالم السفلي الذي نتأبى عادةً الكلام عنه ونجهّل أبطاله؛ لكننا لا نسقط من الحسبان خدماته. من هنا فإن دراسة سراج لنماذج وافرة ومتنوعة للشكل المدوّن لخطاب الرشوة يأتي في حلة بحثية ميدانية ويُحلَّل في ضوء المناهج اللسانية، ويعتمد مواد إعلامية موثقة وإحصاءات بيانية، ليميط اللثام عما تلهج به صدور المتعاملين، ويؤكد قدرة اللسانيات على تدوين نموذج حي لـِ «مواجع ومعاناة الأفراد والجماعات» من خلال التكريس الواضح للكلام المنطوق بعفويته وجرأته وتعدد منابته. استنتج نادر سراج من مجريات دراسته الموثقة والمدعمة بالاستشهادات والاحصاءات – اللبنانية بمجملها - أن ثقافة الارتشاء الشفاهية أو المدوّنة تختزن، كماً محترماً من التعابير والصيغ والمصطلحات والرموز التي لا تُخفى عن اللبيب. فقد رصد منها 883 مصطلحاً أو صيغة.

ولاحظ الباحث أن الأمثال الشعبية تتّخذ حيزاً لا بأس به في هذه الثقافة الشفوية السائدة. أما ما يتصل بمفاصل خطابات الأطراف المعنية، فهي لا تحدُّ بالطبع بما أدرجه هنا. وهي لا شكّ غيضٌ من فيضٍ يتناسل يومياً ويتمّ تناقله على الألسن همساً ووشوشة، تلميحاً وتصريحاً. لذا، يعتبر أن إمكانية ابتكار وإطلاق وترويج صيغ وتعبيرات جديدة وغير مألوفةٍ، واسعةٌ ومفتوحة لا يمكن حدّها. وهي تتعلّق بالفضاء الثقافي الاجتماعي لمنتجيها ومرسليها ومستقبليها. وهذا الأمر يتصل أساساً بالاحتياجات المستجدّة للمواطنين أو أصحاب الحاجات الذين يلجأون مكرهين إلى اعتماد هذا الخطاب، ويضطرون، في بعض الأحيان، إلى توسّله أو استعارته أو استلهامه من الزاد اللغوي الشعبي السائد للجماعة.