متى صدر مرسوم بتسمية الوردة؟

تساؤلات نيرودا في ديوانه الأخير

TT

في لحظات توجس الذات، تتجه مجسات العقل لفتح باب يطل على الطمأنينة او البراءة بهدف الوصول الى السكينة و«التمكن من القلق وتقشير خشونة العالم»، وقد تكون الطفولة احد اوجه تلك البراءة ومكمن الطمأنينة المنشودة، لكن نيرودا الثوري بأبعاد ثوريته الثلاثة (الشاعر / العاشق / السياسي) اقتنصها بحكمة شيخ مدمن الوجود، مختارا قرار الاستمرار قبل الحياة وبعد الموت في مناهضة صارمة لكنها تتميز بالهدوء ايضا للموت الزاحف نحوه بزي سرطان الدم. يختزل نيرودا كل هذا في جملة قاطعة، لكنها ذات آفاق متعددة:

ماذا يقول عن شعري الذين لم يلمسوا دمي؟

ما اجترحه نيرودا / الثائر في تطلعاته الممتدة تحت اغشية الحياة ليس سوى استهداف للمتكدس على غلاف العالم الذي يراه الاخرون على السطح ولا يفهمون ما يتكاثر تحته من استفسارات وتناقضات ولا اجوبة. وتلك الاجتراحات المنسابة في تدوينه الاخير (كتاب التساؤلات)* والذي انهاه قبل وفاته ببضعة اشهر ما انفكت تؤكد تواشج وعيه مع براءة الطفل الذي مازال حيا فيه، فحينما يدرك العالم ويمسكه كدفتي كتاب مقروء حد الفهم والهضم، يعود المتسائل في رحلة عكسية نحو الذات الاولى / الطفولة، فيستقرئ نيرودا المنحنيات والانعطافات في مدار جوانيته التي يشك بما تحتويه من كم الطفولة، ويقودنا في سلسلة براءات واستحضارات وتخيلات يانعة تعكس سخرية ذلك العجوز من البدء والانتهاء، رافضة ما يحيل الحلم الى فراغ داكن، منددة بما يشوب الروح من تجعدات، معلنا كل ذلك في نمط سؤالي يتسم بالرصانة والهدوء، واللامبالاة ايضا، كمن يتهجى المثير للدهشة في مرته الاولى:

- هل في الحياة أسخف من أن تدعى بابلو نيرودا؟

- من أسأل عما جئت أصنعه في هذه الدنيا؟

- أين الطفل الذي كنته؟ أما زال بداخلي، أم رحل؟ أيعلم أني لم أحبه وأنه لم يحبني؟ لماذا أنفقنا كل هذه السنين نكبر لنفترق؟ لماذا لم نمت عندما ماتت طفولتي؟

لكن نيرودا يدرك في سره حياة الطفل داخله، وإن أخضعه، ظاهريا، للتساؤل، لكن هذا ليس سوى نوع من مراوغة الذات ومحاولة اقناعها بزوال الازمنة بالتتابع، لاسيما وان الطفولة تندرج في سياق ماض يحاول هو اظهار عدم التشبث فيه. الالتفاف حول الطفولة ينكشف من خلال المواءمة بين عبث الطفل وحكمة الشيخ في منطقة غرائبية / استهجانية / بريئة / ومنكرة ترفض الواقع وانعكاساته المتشظية من خلال صوت الثوري المنبثق من سكينة تكترث بالسعادة ابداً:

- أين ترك البدر كيس طحينه الليلة؟

- سأل الجمل السلحفاة: ماذا تحرسين تحت السنام؟ فأجابت السلحفاة: ماذا تقول للبرتقال؟

- لو نفذ اللون الاصفر، فبماذا نصنع الخبز؟

ونيرودا، الذي اعتبر أن بيكاسو هو الشعر، يحرص في تأملاته ان يظل بعيدا جدا عن النمطية، منتقلا من صورة نحو اخرى، فكان المناهض للقبح / الذواد عن الفضائل / القارئ للجمال دونما منغصات / الباحث عن الأمل في آخر شهقة حظ / المتحسس مواقع الاصفرار في الروح والمعلن عنها / الدائم الاخضرار خارج هالة وجوده / العاشق بلون متوهج / الثائر الذي يتردد بين الحين والاخر بين العقيدة والاديلوجيا / المتماهي مع الهواء الاول / البارع في رسم نص مغاير، عصي الامساك بالصورة الشعرية بشكل تقليدي، وانما بشكل مراوغ للتأويل. إنه المستفهم دائماً بنبرة واطئة عميقة:

- لماذا لا يدربون المروحيات على جني العسل من الشمس؟

- لماذا لا تحلق الطائرات العملاقة مع اطفالها؟

- هل تنزلق الكلمة أحيانا ً كالأفعى؟

- من المذنب، الصرخة أم الاسماك الملطخة بالدم؟

- كم سؤالا ًعند القطة؟

- هل هذه الهدنة الدائمة نظام أم حرب؟

- هل يغضب النمل لو صنع الذباب العسل؟

- لماذا يعرض الربيع ملابسه الخضراء من جديد؟

- لماذا تنتحر الاوراق عندما تشعر بالاصفرار؟

- لماذا يكتبون في العصور المظلمة بحبر خفي؟

- أي شغل شاق يقوم به هتلر في الجحيم؟ يدهن الحيطان أم الجثث؟ يستنشق أدخنة الموتى؟ هل يطعمونه رماد الاطفال المحروقين؟

و بينما هو يتنقل بين أقبية الحياة وأزقتها، كان بابلو نيرودا يدرك بأن الزمن العام الخارجي لا يشبه زمنه ابدا، لا الساعات هي الساعات ولا الاعوام مشابهة، فزمنه يصل بعضه البعض بلا فواصل غير انفجارات أهوائه وتلاوينه المترامية. وهكذا فهو يقترح زمنه الخاص المنبثق من امساكاته الخاصة واشتهاءاته الدؤوب، ايضا يحاول اشعال الفتنة للثورة على المحسوب والمحصى لانتظار القادم، وربما تخيل شكل المجهول، وقد يستعين بمشاكسة بكر لا تريد ان تكبر بتاتا:

- ما اسم الشهر الذي يأتي بين كانون الاول وكانون الثاني؟

- كم عمر تشرين الثاني؟

- كم نحلة في اليوم؟

- بأي حق أحصوا حبات العنقود الاثنتي عشرة؟

- لماذا لم يعطونا شهوراً طويلة تدوم كل السنة؟

- ما الصورة الحقيقية لنهاية المستقبل؟

انطلاقاً من زمنه الخاص / المقترح، لم تتبدل قناعة نيرودا بأن الروح انما هي تجوال دائم، وبهذا يكون للموت عنده شكل النوم المؤقت، مستنكرا ان يكون هناك موت بمعنى الرقاد الابدي، مستفسرا، في أحيان اخرى، عن مدى حقيقة ان توجد للروح حياة واحدة تنتهي بالتوحد مع الارض بصمت، مثلما كانت البداية بالتوحد مع الهواء على سطح تلك الارض (تشيلي):

- لماذا اخترت الهجرة اذا كانت عظامي تسكن شيلي؟

- أين تذهب أشياء الحلم؟ هل تنتقل الى احلام الاخرين؟

- أين ينتهي قوس قزح؟ في روحك أم في الافق؟

يبقى بين كل هذا وذاك حاجز من القلق يستوي بين النضج والبراءة في مخيلة بابلو نيرودا يستند اليه في مواجهة رحلته التي استوعب جيدا مفرداتها واشاراتها، متمكنا دائما من ايجاد معادلات في الشعر قادرة على إبراز المعنى في صورته اليومية، ومعززا في نفس الوقت هاجسه من الفصول وهي تتعاقب للنيل من روحه وسجنها في جسد قد لا يروق له فيما بعد، ووضعها في دلالاتها المرتبطة بتوالد سنوات العمر. إنه ينتخب مادة الطبيعة لمعيار صورته الموجزة:

الارض / الولادة، السماء / الحرية او المجهول، الشجرة / الحياة، الجذور / الطفولة، الأوراق / العطاء ) غير متناس لمعان اللون في شحذ كل ما اراد ان يقول:

- لماذا تنتحر الاوراق عندما تشعر بالاصفرار؟

- ماذا تعلمت الشجرة من الارض؟

- لماذا تخفي الاشجار روعة الجذور؟

- في الشتاء هل تعيش الاشياء خفية مع الجذور؟

- من هلل لولادة اللون الازرق؟

- أصحيح أن الخريف ينتظر أمراً وشيكا ً؟ ربما ارتعاشة أو حركة في الكون؟

- متى صدر تحت الارض مرسوم بتسمية الوردة؟