البحث عن الذات روائيا

مشاهد قروية ومدينية في رواية «صخور السماء» لإدوار الخراط

TT

تطرح رواية «صخور السماء» لادوار الخراط بعدين مختلفين ومرتبطين في الوقت نفسه هما: التذكر والحلم، التذكر كفاعلية ميكانيكية، يمارسها الانسان في وقت الحاجة المادية أو العاطفية، وهذا يمثل سلوكاً مباشراً محدداً، والحلم كفاعلية إيحائية تعطي معاني متعددة، وتطرح أفقاً من التصورات العقلية والخيالية. وهذه الرواية تمارس الفعلين، انها تلجأ للتذكر أولاً باحثة عن جذور الواقع والذات، ثم تحيل المادة التي جلبها التذكر ثانياً الى حلم يفيض بالقدرة على الخلق المتجدد المتوهج بالعطاء دائماً.

البحث عن الذات في هذه الرواية يتخذ مسارات عديدة، منها البحث عن الأب، وبطل النص أو الكاتب يبحث عن ذكرياته الخاصة، أو شديدة الخصوصية مع أبيه، الذي يهدي له الرواية في الصفحة الأولى «الى هذا الحكاء والمكافح العظيم الذي عرف كيف يعيش في مسقط رأسه في قرية أخميم في جنوب الصعيد، وكيف يموت في مدينة الاسكندرية في شمال مصر، انه يبحث عن ذكرى قريته وطفولته البعيدة، ويعيد تقييم حياته من جديد».

الكتابة عند الخراط دائماً تخرق المعتاد، وتفتح منطقة تجريب مختلفة في كل نص جديد وهذا يكسبها حضوراً توالدياً، ونكهة خاصة يستمتع بها القارئ، لأنها تعينه على الانتقال من كل معنى يتم استهلاكه الى كل معنى بكر يكتشفه النص الروائي ويضيفه الى الحياة.

لقد حوت الرواية صوراً ومشاهد قروية نادرة المثال، يعيد الكاتب احياءها لتتجاور مع الحياة الحاضرة، في جدل شديد الاثارة، يمكننا على سبيل المثال ان نرى شجرة الدوم، النحيلة العتيقة، وعليها طبقة خفيفة من التراب، أغصانها تنوش في نعمتها القاحلة، والصورة تنم عن قدرة بارعة على الالتقاط، فنخلة الدوم التي سماها شجرة بطريقة القرويين في تسميتها، هي نبات ثقيل الأوراق والفروع، لذلك لا يستطيع أن ينفض التراب الذي يسقط فوقه مثل أنواع الأشجار الأخرى خفيفة الأغصان والأوراق، يحركها الهواء بسهولة. وهذه ملاحظة دقيقة لا يعرفها سوى خبير مدقق، وهذا أسلوب يميز كتابة الخراط بشكل عام.

عالم المكان ويمكننا أن نتابع عملية الخبز القروية في هذا المقطع: «عندما تحمي أقراص العجين ويقب سطحها، تبدأ بأن تدخل أقراص الجلة المدورة من الفتحة السفلية على الجانب الأيسر للفرن، وتغذيه دون توقف بحطب القطن الناشف وأعواد الذرة الجافة بعد أن تقصفها الى أجزاء صغيرة، والفروع الرفيعة الذابلة التي يكسرها لها الولد خلة ابن روماني من شجرة الجميز العتيقة، يتقد للنار وهيج هادئ له وشيش وفحيح خافت، ومن الفتحة العلوية على أرضية الفرن المسطحة المصقولة السوداء يخرج العيش الشمسي». انها صورة شعبية تقدم لنا توثيقاً في الفعل الآدمي الذي صارع وناور الوجود لكي يتمكن من البقاء والاستمرار.

ويقدم الكاتب لقطات شعبية أخرى قادرة على إيقاظ الحس الشعبي بكل ما فيه من اثارة وقدرة سحرية على اثارة خيالنا، وها هو بطل الرواية وقد هاله الزمن، يقف أمام نهايته، وبجانبه أسد مقتول ـ هل قتله أم سوف يقتله؟ ـ أسد ممدد الأطراف، مخالبه المقوسة الطويلة ناشبة في تراب الأرض الخام غير المستوية، بلا جدوى، رأسه مثقوب بطلقة رصاص واحدة، وشعر لبدته الغزير الثقيل نازل على الكتفين المنهارتين، فيه خصل ملبدة بالدم، لكن فيه كرامة لا تنال، هذه صورة شعبية قوية حورها الكاتب، أصلها منبعه صورة «مار جرجس» يقتل التنين، وهناك تحوير شعبي سابق عندما صارت «عنترة يقتل الأسد» ثم حورها الكاتب مرة ثالثة عندما جعل الأسد يموت بسلاح عصري: طلقة الرصاص، وعندما تمكن من أن يدخل الصرة الى منطقة الرؤيوي والجمالي ليعبر عن معان متعددة الدلالة، منها بطش القدر بالانسان الضعيف. وللكاتب تراث طويل مع هذا الرمز، اشتهر فيه رمز التنين، بداية من رواية «رامة والتنين»، وتتوالى الصور الشعبية بشكل يتوزع داخل العمل لتتضافر مع المعطيات الأخرى بشكل يعطينا حساً هارمونياً تتميز به كتابات الخراط.

وهناك عالم سطح البيت مثلما شرحه «جاستون باشلار»، والخراط يقدم سطحاً قروياً خالصاً حيث عشش الفراخ والبط والوز، وبجانب سور السطح ترتفع رصة الألواح الخشبية التي يقرص عليها العيش الشمسي، ويحرص الكاتب على نقل ألوان من المعتقد الشعبي والخرافة الشعبية، وأبوه على سبيل المثال يقول له ان الصقر الذي يحلق عالياً في السماء يحرس قريتهم «أخميم» من كل شر.

ولا يغيب على القارئ ان الكاتب على الرغم من مادته الواقعية، إلا انه يصيغها بأسلوب يعيد تشكيلها، ويعيد خلقها، مبتعداً عن كافة القوالب النمطية والنموذجية التي ارتبطت بأجواء القرية المصرية، انه يعيد طرح معناها من جديد، ويسعى لجعل الماضي يوجه الحاضر، والحاضر يوجه الماضي في الوقت نفسه داخل هذه الدوامة الزمنية التي يخلقها في كل كتابة جديدة.

يبحث الكاتب عن قريته القديمة الرابضة بكل حيويتها في أعماق اللاوعي ويربطها بالاسكندرية رمز التحضر والتمدين المصري والامتزاج الكوني بالعالم، والانتقال بين القطبين: القروي والمديني هو الذي صنع الحضارة المصرية في كافة الأزمان، أما القرية فهو لا يستدعيها صوراً ساكنة أو خاملة أو مهملة، بل حياة نابضة راهجة بالديناميكية والغليان لا يستدعيها العاطفي والوجداني والعقلي. ويتعمد الكاتب أن يجاور بين الحياتين: الحاضرة والفائتة، وكأن الحياة لا أول لها ولا آخر، ولكن هناك تبادلات حية بين الأجزاء لا تهدأ، ولا تكف عن الانتقال واستبدال المواقع.

جمالية التفاصيل ومن أهم الملامح الجمالية التي عرفناها في هذه الرواية هي الرغبة في التوقف بقوة عند أصغر التفاصيل واضاءتها وتوسيعها، ان أصغر تفصيلة يمكن أن تمر بها رواية أخرى مروراً عابراً، سوف يستوقفها الكاتب طويلا، ويظل يطرحها من زوايا متعددة، والمسألة ليست مجرد نزوة روائية بل هي هدف يعبر عن توجه فلسفي خاص يقدر الأشياء الصغيرة تقديراً لا يقل في أهميته عن تقديره للأشياء الكبيرة، علاوة على ان التوقف الطويل يعطي للذات فرصة كبيرة لكي تتمكن من أن تثبت وجودها وتطرح طبيعتها الخاصة، وأسلوبها الخاص في فهم الأشياء.

يتوقف الكاتب عند (الزير) وهو الإناء الفخاري الذي تخزن فيه كمية من الماء للشرب، وهي وسيلة شعبية وقروية مشهورة في مصر، وعلينا أن نتأمل كيف توقف الكاتب طويلا أمام المسألة ليطرح لنا كل هذه المشاعر الحساسة الفياضة «كان جالساً على أرض البسطة الحجرية، بجانب الزير العالي، يكاد يلتصق ببطنه الفخاري العتيق المحبب بثغرات دقيقة جداً، مُندَّى ندى خفيفاً ينضح الماء عليه، يعطيه هذا النضح ملاسة وليونة على صلابة جسمه المتين نصفه منير بوهج الصبح الباكر ونصفه الآخر معتم قليلاً»، ثم ينتقل الكاتب ليصف ملحقات (الزير) «يصف «القصعة» التي هي إناء يوضع تحته لكي يتلقى نقاط الماء التي تسقط منه: «كانت القصعة المسطحة الواسعة تحت الزير تترقرق بماء صاف في مثل صفاء روحه الطفلية، تناثرت فيه حبات قليلة من نوى المشمش (يبدأ الكاتب في وصف نوى المشمش) بلونها البني الخشبي المرسوم بخطوط منبعجة طولية في غاية الرهافة، يضخم الماء المتموج فوقها من حجمها، بينما كان يعرف ان قعر الزير، من جوة قد امتلأ بنوى المشمش، وفصي البلح الصغيرة المستدقة، لأن أباه قد رفعه الى مقدمة الزير الواسعة وشال عنها قرص الغطاء الخشبي المدور، إذ أمسك بالعارضة البارزة التي تضم نصفي القرص أحدهما الى الآخر بمسامير خشبية كعاشق ومعشوق».

وبأسلوب الخراط الدائم، سيتعمد ان يضعنا في قلب عرامة الحياة وعنفوانها، وعطائها الغني، فهناك قرى ممتلئة بالحياة وبالصراع من أجل الاستمرار وصنع الحياة وبشر يناضلون من أجل البقاء والتحقق، والسطح الذي أشير له سابقاً على سبيل المثال، ليس سوى جدار تنافح عنه الديوك بفحيح وهجوم غير هياب بالمناقير المشرعة.

وبالمقابل فالكاتب يطرح لنا معاني الاحباط التي يتعرض لها البشر، في رؤية أقرب الى التكامل، بعيدة عن التصورات المثالية أحادية الرؤية التي تدفع الى مجرد العاطفة التي تكون بطبيعتها غير قادرة على سبر غور الحقائق التي يعيشها الناس في مجتمعهم الفعلي، هناك معاناة نتيجة لامتناع أشياء كثيرة وعدم تحقق وقهر وصمت مؤلم.

ويشعرنا الكاتب لفرط حساسيته كما لو كان مسؤولا عن حماية هذه الرقة الأنثوية، ونطالع أحداثاً تبين كيف تكون الحقائق، حتى البسيطة ممتنعة، الانسان يحلم بالمعرفة الكلية، وبالقدرة على الفهم والاتصال بالوجود، ولكن هناك منعة للحقيقة، هناك معارف وخبرات لا نستطيع الحصول عليها إلا بعد مشقة وتجارب مريرة، والرواية تكتظ بهذه المعاني، هناك أفكار لا يفهمها الطفل، هو محروم من فهمها هو والطفلة «مارينا» بسبب كونهما من الاطفال بداية، وتظل المسألة كما هي عند من تجاوزوا مرحلة الطفولة، ولكنها تتقمص أوضاعاً أخرى، ولنتابع القضية في المقطع التالي المتعلق بالطفلين:

«كان باب غرفة النوم الكبيرة مردوداً، خشبه الثقيل قد بهت لونه قليلا عند حافة احتكاكه بالحائط الحجري، وكان عالياً جداً في عيني الطفل، يحجز دونهما، هو ومارينا، عالم الكبار الحافل بما هو غير مفهوم».

لقد أوجد الكاتب بين الطفل وبين الأسرار باباً عالياً، أو حاجزاً مادياً يمثل حائلا قاهراً، وستمر سنوات كثيرة حتى يتمكن الطفل من معرفة ما يدور خلف الباب العالي.

ونتعرف كذلك على منعة الأمن والطمأنينة: هناك دائماً شر كامن حتى لو بدا مسالماً أو متعايشاً مع البشر، لكنه يمثل خطورة تهدد الحياة: «يجلس الصبي مع مارينا يلعبان على «البسطة»، وفجأة: فمرقت أمامهما بسرعة عقرب كبيرة متجهة الى جحر لها في ركن البسطة، كانا يرقبانها بلا قلق، بشيء من اللامبالاة، وبفضول، مرت من أمامهما بسلام».

لقد تمكن الكاتب من أن يطرح علينا بيسر وسلاسة، رؤيته التي تعمق وعينا بقضية الذات، وتمكن ان يبحث وضعيتها في زمن تتغير فيه الأسس الكبرى اجتماعيا وفكريا، وفي زمن يواجه تغيرات جذرية على كافة المستويات.

=