مسرحية سياسية سورية

في مسرحية «طاب الموت يا عرب» يحتمي شالوم وشالومة بالغربي ضد أبو الهول

TT

من كان يعتقد أنه سيكتشف الموهبة المسرحية المتميزة في مجموعة من المهندسين الهواة المختصين بالبناء والكهرباء والارقام؟

الرأي السائد هو ان المهندسين بعيدون عن الفن ولا تهمهم السياسة بقدر ما تهمهم المعادلات الرياضية والقياسات ومواد البناء، ولكن مسرحية «طاب الموت يا عرب» التي تعرض منذ أشهر على مسرح العباسية بدمشق تثبت أن موهبة التأليف والتمثيل والاخراج تتعدى المنطق التقليدي وتصل مباشرة إلى نقابة المهندسين بحلب التي أنجبت مجموعة من أبرع الفنانين الذين عرفهم المسرح السوري المعاصر، حيث يقدمون كوميديا سياسية تتوالى فيها النكات والقفشات والمعنى المزدوج والضحك لمدة ثلاث ساعات متواصلة، وحين تفيق من نشوة المرح وتصحو من لعبة الكلمات ينتابك الهم والقلق، لأن الموضوع جدي للغاية وهو: كيف ضاعت فلسطين وماذا عمل زعماء العرب لاسترجاعها وكيف سهلت خلافاتهم مؤامرات اسرائيل لالتهامها بمباركة غربية اميركية.

فكرة المسرحية بسيطة ومبنية على التسلسل التاريخي في القرن الماضي منذ أن دخل شالوم (اليهودي التائه) إلى منزل أبو نضال (عرفات) بعد التوسل لكي تضع زوجته شالومة وليدها، لانهما يبيتان في العراء من دون مأوى. ومنذ ذلك الحين يكتشف العرب متأخرين أنهم وقعوا ضحية حيلة ومؤامرة خبيثة بسبب طيبتهم وسذاجتهم، ولا يتمكنون من طرد شالوم وعائلته، لانهم دخلوا في حماية الغربي (اميركا) الذي يقوم بدور الشرطي لحفظ الأمن والاستقرار. ويعقد العرب اجتماعاتهم المتكررة ويطلقون تصريحاتهم الرنانة دون فائدة ترجى لانهم يختلفون فيما بينهم حتى عندما يصدرون البيانات الختامية لمؤتمرات القمة ويضيعون الوقت في اختيار الكلمات وأيها أحسن: الشجب أم الادانة أم الاحتجاج، ونراهم يؤثرون مصالحهم ونزعاتهم الشخصية. وفي المسرحية عدة شخصيات رئيسية الأول، مهتم بإخضاع زوجته أم الهول واثبات رجولته المزعومة والثاني يلاحق أي ساقين تمشيان أمامه من بنات حواء حتى على الفضائيات والثالث يهجم على زميله (الكويت) متوهماً أنه هجم على عدوه (اسرائيل)، لأنه أحول! ولبنان سيدة محترمة تغني بصوت حنون ولا أحد يسمع غناءها، وليبيا تفتح شباكها الاخضر وتهاجم الاستعمار والاستكبار بمناسبة وغير مناسبة، أما الغربي (اميركا) فهو سيد الموقف وحارس الحي، والحوار باللهجة الحلبية اللطيفة التي لم يتعودها أهل دمشق سابقاً. لكنهم فهومها بسهولة لأن العرض الدمشقي تحاشى بعض الكلمات الحلبية العامية الصعبة التي استعملت حين بدأ العرض في حلب في اوائل العام الجاري وحضرها الرئيس بشار الاسد بنفسه واستمتع بروحها الفكاهية النقدية.

وان ادخال الافكار السياسية في النص المسرحي ليس غريباً في الوطن العربي وإن تخفى بالرموز أحياناً، والمسرح السياسي كان موجوداً منذ أيام الاغريق، ففي القرن الخامس قبل الميلاد كتب يوريبيدس مسرحية «هيلين» وبعث بها إلى طروادة بينما ذهبت هيلين في الحقيقة إلى مصر كما ورد في كتاب الاوديسة لهيرودوت. وفي عهد الرومان أصبح المسرح ساحة سياسية تعوض عن فقدان الديمقراطية الاغريقية وفرصة لافراد الشعب لكي يلتقوا الزعماء والسياسيين، فحين دخل قيصر إلى مسرح الكولوسيم في روما عام 59 قبل الميلاد ساد الصمت العدائي له بين الجمهور وحين دخل خصمه وقف الجمهور لتحيته والهتاف له وانقلب الموضوع إلى نوع من الاستفتاء الشعبي مثلما صفق الجمهور التشيكي في الثمانينات، حين تفوه الممثل بكلمة «الجيش سيرحل» في مسرحية «الشقيقات الثلاث» لتشيكوف في إشارة ضمنية إلى الجيش السوفياتي، وبعدها تسلم الكاتب المسرحي فاكلاف هافل رئاسة الجمهورية التشيكية إثر انهيار المعسكر الشرقي.

ومن أشهر المسرحيات السياسية ما كتبه برتولد بريخت في «طبول الليل» عام 1922 وهاجم فيها الاتجاهات السياسية كافة آنذاك وصور الوضع السائد بعد الحرب العالمية الأولى حين غدت المصلحة الفردية طاغية لدى جميع السياسيين ولم يهتم أحد منهم بتكريم الجندي البطل البسيط الذي قاتل في الخنادق لحماية الأنظمة.

لا شك أن مؤلفي مسرحية «طاب الموت يا عرب» الذي يسخر حتى عنوانها من النفاق هما المهندسان: مصطفى أحمد آغا وعبد الحليم قطان يدركان مدى تفاعل الجمهور مع قضية العرب الكبرى ويعرفان ايضاً الحدود التي ينبغي أن تقف عندها السخرية، أما المهندس همام الحوت الذي قام بدور الشيخ ساكت وبإخراج المسرحية فكان ناجحاً إلى أبعد الحدود وكأنه لا يمثل ولا يتفوه بنص مكتوب. واداء المجموعة كلها كان على أعلى مستوى مثل صفوان عقاد الذي تقمص دور شالوم وأبدع في حركاته وتشديد ألفاظه، وعبد الرحمن عيد (أبو نضال) الذي أبرز تحول الثورة الفلسطينية من التحام بالعرب إلى اتباع خط مستقل ثم العودة اليهم مجدداً، وسلوى جميل (لبنان) التي تفوقت في غناء الليالي بصوتها الرخيم الدافئ، وحازم حداد الذي قام بدور صطيف (العراق) وجسد غروره وصلفه اثناء مخاطبة النشامى وهو ينفث دخان السيكار الكوبي، اساس الكفاح الثوري الذي لا يتعدى الكلام والتبجح.

ليت هذه المسرحية تطوف البلاد العربية كلها، وأقل ما يقال ان الجمهور العربي سيكتشف ويستعذب اللهجة الحلبية بعدما تعود على اللهجة الشامية الدمشقية في المسلسلات التلفزيونية السورية. والشرط الوحيد أن يشاهد الرقباء ذلك العرض ويستمتعوا بظرافة النكتة ويرتاحوا من أعباء مهمتهم دون أن يقلقوا لمضمون المسرحية.