كتب محمود درويش سيرته الذاتية سينمائيا فمن يتكفّل بإخراجها فيلما؟

احلق ذقنك وحضّر قهوتك تبعا لوصفات شاعرك المفضّل

TT

شاعر في قامة محمود درويش، لا يمكن ان نتصوره بريئاً أو ساذجاً، فهؤلاء الكبار غالباً ما يخططون لحركاتهم وسكناتهم، وهم المهجوسون بالرؤى ومغامرات الكشف. صحيح ان درويش لم يعلن أبداً أنه كتب سيرته الذاتية، لكنه كان مسكوناً بتسجيلها بأدق تفاصيلها. وأي قارئ متيم بدرويش يكاد يعرف ما يحب شاعره ان يأكل ويشرب، وكيف ينام ويتقلب على وسادته، وأي طفل كان، وكيف شبّ وبأي طريقة ترك فلسطين ثم عاد إليها، وماذا تعني له كل محطة من محطاته، وبمقدور الفضولي النهم ان يعرف حتى كيف كان درويش يعيش لحظاته الحميمة مع حبيبته. كل هذا مسجل وموثق، متفرقاً او مجتمعاً، ينتظر النبش عنه والاستفادة منه لبناء حياة الشاعر سينمائياً.

وهو ما لم يغب عن درويش حين كتب مخاطباً نفسه:«ترى نفسك في شريط سينمائي طويل تروي على رسلك ما حلّ بأهلك مسروقي اللسان والقمح والبيت والبرهان». ولهذا روى شاعر الثورة، قصة شعبه وحكايته الشخصية كما لم يفعل شاعر عربي معاصر من قبل. وإن كان المجال لا يتسع لسرد ما كتبه درويش كاملاً، فمقاطع مختارة أو مشاهد مقتطفة من ثلاثة كتب فقط هي «في حضرة الغياب»، «ذاكرة للنسيان»، «أثر الفراشة»، قد تعطي فكرة أولية عن هذه الاتوبيوغرافيا الدرويشية.

على صفحات «في حضرة الغياب» نعثر على محمود درويش الطفل الهشّ، يعاني من سوء تغذية، ويرغمه اهله على ابتلاع زيت السمك البغيض الطعم، فيما يحاول جده ان يسعفه بالعسل بديلاً، لكن الطفل يجد الطعم جارحاً. هذا العسل الذي كانت تقطفه جدته بشهده وهي تضع المنخل على وجهها لتتفادى عقصات النحل. بقاء الصغير محمود على قيد الحياة حدث محض صدفة، فقد تعرض لحوادث متكررة وكلها خطرة كادت تودي به. وهو حين يسردها يبدو تفصيلياً ومتأثراً وكأنها حدثت للتو. يزداد الطفل هشاشة في «ذاكرة للنسيان» عندما يضطر لمغادرة فلسطين مع أهله لاجئاً إلى لبنان. يسأل الصغير:«ما معنى وطن ما معنى لاجئ؟»، فيأتيه الجواب معقداً وعصياً. ابن السادسة في لبنان، لاجئ يركب الترام في بيروت، يتعرف على البحر في الدامور، يتلقى دروسه الأولى، يقطف الورد والتوت وينام قرب بركة رميش القذرة بجانب الأبقار والخنازير، يتعلم ان التفاح يتدلى من أغصان الشجر ولا ينبت في الصناديق، يشاهد الثلج للمرة الأولى في جزين. لكن العائلة سرعان ما تعود مع صغيرها إلى فلسطين، وتضطر للاختباء في كهف القرية عندما يأتي جنود الاحتلال للتفتيش عمن عادوا متسللين.

حياة صعبة في قرية فلسطينية دمرتها النكبة، داخل «بيت طيني مبني على عجل كقن دجاج يحشى فيه سبعة حالمين، لا أحد منهم ينادي الآخر باسمه، منذ صار الاسم رقماً». يكبر الصغير ويصير شاباً متمرداً على الاحتلال ويسجن. ويعتاد ان يحصي عدد السوس في صحن حساء العدس، وان يتغلب على الاشمئزاز، لأن الشهية تتكيف ولأن الجوع أقوى من الشهية، ولكنه لم يتكيف أبداً مع غياب القهوة الصباحية. يغني محمود درويش في زنزانة لا تتجاوز المترين، لأن تلك «هي الطريقة المتاحة لترويض العزلة وصيانة كرامة الألم».

وحين يخرج من فلسطين طريداً أو شريداً تتقاذفه المدن قبل ان يصل إلى بيروت، ليعيش فيها عشر سنوات، اختلطت خلالها ذاكرته بذاكرة المدينة، وعجنت الصور التي رسمها بكلماته بحياة النضال الفلسطيني في لبنان، حتى لحظة الانسلاخ القسري بعد اجتياح 1982. ففكرة الخروج من لبنان «تشبه فكرة الخروج من الجنة أو من الوطن». وفي كتابه «ذاكرة للنسيان» مشاهد حية، وحياة نابضة لفترة تاريخية مفصلية، تراه خلالها تحت القصف، أو مع جيرانه في الملجأ، أو في منزله يحاول ان يفلت من صواريخ تهطل كالأمطار على بيروت، وتعيش معه في الشوارع يبحث عن قطة تموء فلا يجد، يودع أصدقاءه الذين فقدوا أجزاء من أجسادهم أو تشوهوا بالكامل. يرفض محمود درويش ان يخرج مع المقاومين الفلسطينيين في البحر، ويهرب بسيارة دبلوماسية ليبية إلى دمشق.

ويخاطب درويش نفسه:«وحين دخلت إلى حمّام مطعم على شاطىء طرابلس تغسل يديك، ونظرت إلى المرآة، رأيت وجهاً لا تعرفه:«كان أنفاً كبيراً يحمل نظارة طبية، ولا يشبهك! لكنه وجهك». محطات تتلوها محطات، عمومياتها معروفة، لكن المبهر يكمن في التفاصيل والصور المرسومة بعناية، ففي «ذاكرة للنسيان» يعلمك محمود درويش كيف كان يصنع قهوته تحت القصف، وإليك الوصفة:

«ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال ترسو ببطء على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكاً بطيئاً بالملعقة، بشكل دائري في البداية، ثم من فوق إلى تحت. ثم تضيف إليها الملعقة الثانية، تحركها من فوق إلى تحت ثم تحركها تحريكاً دائرياً من الشمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة. بين الملعقة والأخرى أبعد الإناء عن النار ثم أعده إلى النار. بعد ذلك «لقّم» القهوة أي املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى ثم أعدها عدة مرات إلى أسفل، إلى أن يعيد الماء غليانه، وتبقى كتلة من البن ذي اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق، لا تدعها تغرق. أطفئ النار ولا تكترث بالصواريخ».

«في حضرة الغياب» بمقدورك أن تعثر على الشاعر يحيا وكأنما أنت معه. ها هو يتقلّب على وسادته أرقاً رغم حبه الجارف للنوم، وفي مكان آخر يتأهب ليغازل امرأة أعجبته فيتظاهر حينما ترنو اليه انه ينفض قطرة سائلة وقعت على قميصه، وبمقدورك ايضاً ان تدخل معه إلى الحمام، فهو يصف بمهارة نادرة كيف يتعامل مع جسده، وهو ينقعه في «البانيو» وينظفه قطعة قطعة، كما تتعامل أم مع جسد طفلها.

ولا عجب ان تقع على وصفات درويشية قد لا تخطر لك على بال. فهو يصف لك كيف يحلق ذقنه مثلاً:«تضع رغوة الصابون وتشرع في الحلاقة. تبدأ من الجانب الأيسر، من أسفل السالف نزولاً إلى الذقن ثم من تحت إلى فوق.

تفتح حنفية الماء الساخن لتنظيف ماكينة الحلاقة، تباشر العملية ذاتها من الجانب الأيمن. تواجه صعوبة في حلاقة العنفَقَة والسامغين. وكالعادة تسيل قطرات من الدم، فتضغط على الجرح الصغير بإبهامك، ثم تنظر في المرآة برضا من يتناسى مخاتلة الزمن».

بمقدورك لو أحببت كذلك أن تعود في الزمن، وتقضي مع درويش يوماً باريسياً حين كان مقيماً هناك، من لحظة يصحو إلى أن يحل المساء، وتكتشف ان شاعرك كان يدخل بيته، ثم يقفل بابه وينزع المفتاح». ويروي:«تفعل ذلك منذ مات صاحبك في غرفة مغلقة: تبقي القفل جاهزاً لاستقبال مفتاح آخر تحتفظ به مدبرة المنزل التي تأتي منتصف النهار».

من السهل جداً أن يعيد أي مخرج بناء حياة محمود درويش، فقد ترك لنا هذا الشاعر الفذّ تفاصيل تستحق ان تصور، وحياة يختلط فيها المغرق في الفردية بالذات الجماعية، حتى ليصبح درويش هذا الرجل العادي حتى الإدهاش، والبسيط حد العبقرية، هو فلسطين نفسها، حين يشرب قهوته أو يقرأ الجريدة أو يتابع مباريات كرة القدم التي يدمنها او يتمايل على صوت معشوقته أم كلثوم. أوليس هو الذي قال:«لا حاجة بي إلى الاعتراف، فلا سرّ لي. وفضيحتي هي اللاسرّ، منذ سبق قلبي لساني».