تجليات الحلم في شعر محمود درويش

شكل عصبا فارقا في تجربته ودفعها إلى آفاق كونية

TT

في كل مراحل محمود درويش الشعرية، يشكل الحلم عتبة أساس، وعصبا فارقا في تطوير قصيدته، ودفعها إلى آفاق مثيرة للدهشة والتأمل. فالحلم سواء باستعاراته المفردة والمركبة، أو بملامحه الدرامية والتراجيدية، أو بأنساقه الصورية والنفسية، يظل الهاجس الأهم والمفصلي في تخليص قصيدة درويش من ركام العادة والمألوف، وتحويلها في الوقت نفسه إلى طقس شعري، تمتزج فيه شتى حدوسات المعرفة، بهموم الإنسان وأحلامه في العدل والحب والحرية. وحتى اللحظات الأخيرة لم يكف درويش عن مناوشة الحلم في نصه شعرا ونثراً، حتى أصبح الحلم بمثابة مصفاة تخلص الجغرافيا والتاريخ، والعناصر والأشياء من شوائبها، لتتعرى أمام حقيقتها الأولى، كظل للحلم، وفضاء مفتوح على تخوم البدايات والنهايات معا.

وكما أن الحلم هو سؤال الوجود الدائم، هو أيضا سؤال اللغة والقصيدة على حد سواء. ولا فواصل بينه وبين الذاكرة، كلاهما يشكل الآخر، ويفيض عنه، في لحظات إنسانية فارقة يتقاطع في ظلالها الزمن بأقانيمه الثلاثة، وينفتح الشعر على وعي الشاعر بذاته، وحقيقة وجوده وواقعه الإنساني، وقبل كل شيء على طفولته، وعلى المكان، كفضاء حي يلملم شتات الروح والجسد ويوحد ما بين تعارضاتهما في لغة حميمة وأليفة تصنعها القصيدة.. فالحلم هو الوطن، هو الجرح والصرخة، هو الأمل والبسمة، هو الطلقة والبندقية، وهو «أصدق واقعية من الواقع نفسه» على حد تعبير درويش.

ومنذ بدايات درويش تبلورت تجليات الحلم في قصائده بمجموعة من السمات الجمالية والدلالية اللافتة. لعل من أبرزها الملمح التسجيلي الوثائقي الذي يعنى بإبراز المشهد، والتقاطه بعفويته وبكارته، ومحاولة تثبيته في الزمن، كشاهد على لحظة تاريخية وإنسانية محددة. وهو ما تجلى على نحو خاص في أعمال درويش الأولى (عصافير بلا أجنحة- أوراق الزيتون- آخر الليل) وغيرها.. مثلما يقول في ديوانه «أوراق الزيتون»:

«سجل..

أنا عربي

أنا اسم بلا لقب

صبور في بلاد كل ما فيها

يعيش بفورة الغضب

جذوري

قبل ميلاد الزمان رست

وقبل تفتح الحقب

وقبل السرو والزيتون

وقبل ترعرع العشب

أبي من أسرة المحراث لا من سادة نجب

وجدي كان فلاحا بلا حسب... ولا نسب

يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب

وبيتي كوخ ناطور من الأعواد والقصب

فهل ترضيك منزلتي؟

أنا اسم بلا لقب..»

لكن سرعان ما يبرح درويش مشهدية التسجيل والتوثيق، ليكتسب الحلم فاعلية الأسطورة، فمنه تولد الحكاية، تولد القصيدة واللغة، يولد الوطن والجغرافيا والتاريخ. يبرز ذلك على نحو لافت في أعماله (محاولة رقم 7- أحبك أولا أحبك- مديح الظل العالي – هي أغنية). حيث ينفتح الحلم على كل هذه الفضاءات بحيوية فائقة، وكأنها ثمرة من ثمرات طفولته، وشارة من شارات نزقه وتمرده. كما تبرز الدراما كطاقة متجددة، تخلص الأسطورة من خرافة التأويل، وتجعلها حقيقة حية ملموسة على أرض الواقع اليومي المعيش. كما تتكثف مدارات الفعل الشعري، وتعلو فعالية الحوار، في تنويع مستويات الفعل نفسه، وتقاطعاته مع لغة المسرح وإيقاع الصورة، ودهشة السؤال الذي يصعد رأسيا وأفقيا، وفي شتي الاتجاهات.. يمكننا أن نلمس ذلك بوضوح في قصيدة درويش الرائعة «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا»، حيث تتضافر كل هذه العناصر في حركة الفعل الشعري، وتكتسب طابعا تراجيديا، لا يكشف فقط عن قضية وطن وإنسان، وإنما يكشف عن أزمة الحلم في بلوغ مائه الخاص، وضياع وتشتت مسارات تحققه، تحت وطأة القهر والظلم، وكل ما يلوث الحياة من قبح وفساد.. يقول درويش في ختام القصيدة نفسها:

«-هل قتلت؟

ويسكت سرحان يشرب قهوته ويضيع ويرسم

خارطة لا حدود لها ويقيس الحدود بأغلاله

-هل قتلتَ..

وسرحان لا يتكلم.. يرسم صورة قاتله من جديد

يمزقها، ثم يقتلها حين تأخذ شكلا أخيرا ..

- قتلت

ويكتب سرحان شيئا على كم معطفه، ثم تهرب

ذاكرة من ملف الجريمة.. تهرب.. تأخذ منقار طائر

وتزرع قطرة دم بمرج ابن عامر»

وعلى جدار الحلم يستند درويش في أعماله الأخيرة ومنها (أحد عشر كوكبا- لماذا تركت الحصان وحيدا- لا تعتذر عما فعلت- أثر الفراشة). ففيها يمتزج إيقاع السيرة الذاتية الحميمة- بمفرداتها الشخصية البسيطة، وتشابكاتها الإنسانية المعقدة- بشهوة البحث عن جسد للحلم، جسد للوطن وللروح، وفي الوقت نفسه تتخلص شعرية المكان من وهج النوستالجيا والاحتفاء العابر، لتتحول إلى مرثية كونية، منفتحة بحيوية على فضاء الوجود كله.. يقول درويش في يومياته النثرية:

«هل كان علينا أن نسقط من علوٍّ شاهق

ونرى دمنا على أيدينا..

لندرك أننا لسنا ملائكة .. كما كنا نظن؟!.

... ...

أيها الماضي ..لا تغيِّرنا كلما ابتعدنا عنك

أيها المستقبل لا تسألنا: من أنتم

أيها الحاضر تحملنا قليلا.

فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل!»

لقد كان الحلم خلاص محمود درويش الأخير، وتميمته الدائمة ضد الموت والزمن، ومثلما جعله الحلم ينشغل بوعي الحكاية وشخوصها، وخفف عن قصيدته وطأة حمولتها السياسية وغنائيتها المباشرة، وجعلها أنشودة حية ممتدة في الزمان والمكان. ها هو يواصل حلمه من جديد في فضاء آخر، لا يستعصي فيه الحلم عن الولادة، ولا يكف الوطن عن دهشة المحبة والسؤال.