السياب ودرويش.. حلم بالقصيدة الملحمية قطعه الموت

TT

* من كان يتصور أن شاعراً يكتب قصيدة بلغة شعرية بسيطة، ورؤية أكثر بساطة كما في هذه الأبيات الشهيرة:

* سجل أنا عربي

ورقم بطاقتي خمسون ألف

وأطفالي ثمانية

وتاسعهم سيأتي بعد صيف

* سيكتب، بعد سنوات قليلة نسبياً، قصيدته المركبة، التي وضعته على أعتاب مرحلة شعرية جديدة تماماً، وجعلتنا أمام شاعر مختلف لا يمت للأول بأية صلة، ونعني بها قصيدة «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا». لا نظن أن أحداً كان يتصور ذلك، ولا حتى غسان كنفاني نفسه، الذي عرّف العرب للمرة الأولى بـ«شعراء الأرض المحتلة» في الستينات من خلال مقال نشره في مجلة «الآداب» البيروتية. شعراء قليلون في التاريخ الشعري الإنساني يمكن أن يحققوا مثل هذه القفزة الهائلة في تطورهم الشعري، فذلك يتطلب، قبل كل شيء، مراجعة نقدية ذاتية حادة، وانتفاضاً على النفس والرؤى والمفاهيم الراسخة، خاصة في زمن ساد فيه مفهوم «الالتزام الأدبي» الذي ورثناه بشكله الخاطيء الذي عرف به عربياً وعالمياً. ومن هؤلاء الشعراء القليلين في الشعر العربي، قبل درويش، بدر شاكر السياب، الذي قطع الصلة بكل ماضيه الشعري المتمثل بديوانين بسيطين هما «أزهار ذابلة»،1947، و«أزهار وأساطير»، 1950، لا يمكن أن ينبئا، بأي حال من الأحوال، بما سيكونه السياب لاحقاً. لقد حقق السياب في ظرف ثلاث سنوات ما قد يحققه شعراء آخرون في مراحل طويلة من تطورهم الشعري، هذا إذا حققوه، نتيجة تطور هادئ في التجربة الشعرية، وقد اكتنزت بالمعرفة وخبرة الحياة. من قصيدة ساذجة مثل «هل كان حباً»، التي استهل بها ريادة الشعر العربي الحديث، وقصائد أخرى لا تقل سذاجة مثل «ديوان شعر»، الذي كان يتنقل بين صدور العذارى، انتقل السياب، وكأنما قد ولد من جديد، إلى القصيدة الملحمية، المركبة، التي تعانق الكوني دون أن تسقط في فخ التجريد، أو تتحول إلى معادلات رياضية باردة، كما في «أنشودة المطر» و«غريب على الخليج» و«المومس العمياء» و«الأسلحة والأطفال».

وما يجمع بين السياب ودرويش هو أكثر من ذلك. لقد اتفق معظم دارسي تجربة درويش الشعرية على تأثره المبكر بنزار قباني، وقصائده الأولى البسيطة تشي بذلك، ثم لاحقاً بشعراء مثل عبد الوهاب البياتي، في مرحلة التزامه الشعري، ثم بسعدي يوسف إلى حد ما، بقصائده التي تستلهم العابر واليومي. ولكننا نرى أن السياب كان مرجعيته الأولى، وكان شاعره العربي الأول. كانت عينه دائماً على السياب، وإن لم نقرأ له تصريحاً مباشراً بذلك. إنه لا يكف عن العودة إليه حتى في أيامه الأخير:

أتذكر السياب، يصرخ في الخليج سدى

«عراق، عراق، ليس سوى عراق..»

ولا يرد سوى الصدى

أتذكر السياب، في هذا الفضاء السومري

تغلبت أنثى على عقم السديم

وأورثتنا الأرض والمنفى معا

أتذكر السياب.. إن الشعر يولد في العراق

فكن عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي

أتذكر السياب. إن الشعر تجربة ومنفى

توأمان. ونحن لم نحلم بأكثر من

حياة كالحياة، وأن نموت على طريقتنا

«عراقُ

«عراقُ

«ليس سوى العراق..»

لقد وصل درويش الشعر العربي المعاصر بالبدايات العملاقة لهذا الشعر بحرارته، وجملته الشعرية، واستلهامه الأسطورة المعجونة بطين الواقع، وصوته الحزين، ونبرته الغنائية الشجية التي تصل الى آلاف الناس البسطاء، محتفظة مع ذلك بقيمتها الفنية العالية، النابعة من داخلها بدون حذلقات لغوية أو فكرية لحقت بهذا الشعر من منتصف الستينات ولحد الآن تحت تسميات تنتمي لكل شيء إلا للشعر، وسط استسهال وصمت نقدي مروعين. وما يوحد الاثنين، أيضاً، في رأينا، وما يوحد الشعراء الحقيقيين في كل زمان ومكان، هو ذلك التوق الجارف لكتابة القصيدة الملحمية بكل أبعادها الدرامية، وهو توق عبر عنه درويش أكثر مرة، من دون أن يسعفه الزمن، كما لم يسعف السياب قبله، لكن القصيدة الطويلة عندهما، ورؤياهما المبكرة، كانتا تشيان بإمكانية كتابة مثل هذا القصيدة التي يفتقر إليها الشعر العربي.

وفي رأينا أن مجموعته المتميزة «أحد عشر كوكباً»، كانت تمهيداً لكتابة مثل هذه القصيدة، مثلما مثلت انطلاقة جديدة له. فقد نجح فيه في الخروج من دائرة فلسطين الضيقة ليدخل دائرة الشعر الكبرى، ولم يعد يتكئ على فلسطين، بل أصبحت فلسطين تتكئ عليه، كما عبر الشاعر سعدي يوسف مرة. ومع هذه الانطلاقة، تحرر، داخلياً في الأقل، من القصيدة التي خنقته طويلا: «سجل أنا عربي»، ومن اللقب الذي ألصق به طويلاً، وما يزال ينعته به البعض حتى هذه اللحظة «شاعر المقاومة الفلسطينية». ما أدركه درويش في هذه المرحلة، وقد اكتنز بمعرفة شعرية إضافية، واطلع عن كثب على التجارب الشعرية الجديدة في منافيه العديدة، أن عليه أن «يكبح» طاقته الغنائية الهائلة، وصوره الشعرية الجامحة، ويخضعها للفكرة، والتاريخ، والأسطورة. فلم تعد الأغنية كافية، وليست هي وحدها ما يخلق الشعر العظيم، الذي ليس هو، كما قال هيغل مرة، سوى «صورة مفكرة».

لكن طاقة درويش الغنائية الهائلة، كما عند السياب، سرعان ما تداهمه على حساب الفكرة، كما في «حالة حصار» مثلا، إضافة إلى الضغوط الشعبية الكبيرة، عربياً وفلسطينياً، باعتباره شاعر المقاومة، ومغني الشعب العربي. وكما شهدنا عند السياب في مراحله الأخيرة، بحكم المرض، عودة إلى القصيدة الغنائية كما في «منزل الأقنان» و«المعبد الغريق»، حصل ذلك عند درويش إلى حد واضح في «لماذا تركت الحصان وحيدا» و«حالة حصار». الشعراء الكبار يحتاجون أن يغنوا أيضاً بين فترة وأخرى. ونعتقد أن درويش لو أمهله الزمن، كان سيعاود مشروعه الشعري الذي بدأه في «أحد عشر كوكباً»، لتبدأ مرحلة أخرى في تطوره الشعري، جامعا الأغنية والفكرة في وحدة عضوية هي حلم كل الشعراء في كل العصور.. لكنه الموت.