المصري أحمد هريدي يطل على المغرب من نافذة أدب الرحلة

يذكرنا بكتابات كالفينو

TT

في كتابه «رحلة إلى المغرب» الصادر حديثا عن دار المعارف بمصر، يواصل الكاتب الصحافي أحمد هريدي التنقيب في أدب الرحلة، محتضنا أمكنة وأزمنة وبشرا وعادات وتقاليد وتاريخ عدد من المدن المغربية مثل: مراكش، أغادير،الدار البيضاء، والصويرة.

بأسلوب سردي بسيط وسلس، يجعلك تشم أجواء المكان، يحكي هريدي قصة سفره وولعه بالمغرب وكأنها حالة عاطفية وحلم قديم، سرعان ما يتحول بدوره في الكتاب إلى قصة، أو مروية شعبية، تبدو وكأنها خارجة توا من عباءة التراث والماضي العريق.

وفي كل مشاهداته لا يتوقف المؤلف عند الوثائقي والتسجيلي، بل يذوبهما في نسيج الحكي، محتفظا بطزاجة رؤيته الخاصة للعناصر والأشياء. وبروح شاعرية، تكسب الوصف ملمحا من الدراما والأسطورة.. فحين يتحدث عن الدار البيضاء يرسم لها صورة أشبه باللوحة الفنية، حيث «المدينة الجغرافية تدخل التاريخ وتخرج منه، لتتسكع لبعض الوقت على هامشه، متفرجة على مدينة أخرى تصنع لنفسها تاريخا. المدينة امرأة تعشق النظر طويلا إلى جسدها في مرآة التاريخ، وترنو إلى واقعها وتحلم، محفزة المسافرين إليها على الحلم».. يكثف هريدي هذه الصورة «البورتريه» باستدعاء اللحظات المهمشة والمنسية في تاريخ المدينة. فيركز مثلا على الهوامش الثقافية والحضارية للمدينة، راوياً كيف اجتذبت شمسها العديد من الرسامين والمصورين العالميين مثل: ديلاكروا، ماتيس، بول كلي، كاندينسكي، وغيرهم من المصورين المولعين بفنون الشرق العربي والإسلامي. ويشير في السياق نفسه إلى أهمية هذه الرحلة، التي اعتبرها «اندريه مالرو» نقطة انعطاف مهمة في التصوير الفرنسي.

لا يغفل هريدي نثريات المكان والحالة، فتلتقط عيناه كل شيء مهما كان صغيرا أو كبيرا، حتى أنواع الأكل وطرق الطهو، والمناسبات الاجتماعية والدينية، وقضايا الكتاب والمثقفين وشكل المرأة المغربية في مرآة واقعها وذاتها، ويحوله إلى علامات وإشارات دالة سواء على المستوى الإنساني، أو على مستوى التاريخ نفسه.

وفي نسيج الكتابة يتقاطع كل هذا مع اهتمام ذكي بإيقاع المشهد في رصد وبناء الحالة السردية، والتعامل مع عناصر الطبيعة والجغرافيا الخاصة للمكان، وهو ما يجعلنا إزاء لغة تحتفي بالقيمة البصرية، فالكثير من المشاهد تبدو وكأنها فلاشات وومضات في مشهد سينمائي مترامي الأبعاد.. بهذا الحس يصف هريدي ساحة جامع الفنا الشهير بمراكش «ساحة جامع الفنا القلب المفتوح للمدينة العاطفية.. عقد اجتماعي غير مكتوب، يسمح لكل فرد، مهما كان لونه أو جنسه أو لغته، أن يعرض نفسه في الاستعراض الكبير للحي الصاخب دون قيد أو شرط.. هنا في ساحة الفنا من السهل على أي إنسان أن يفتح مغالق روحه، ويعانق الأشياء والأحياء من حوله، وهي تعلن عن حقيقتها دون قناع».

إن هذه الكتابة التي بدأها هريدي قبل سنوات، وأثمرت أربعة كتب هي نتاج رحلاته إلى أميركا، واستكهولم، ولبنان، وتونس، ثم هذا الكتاب تشكل - في رأيي - إضافة حقيقية، لأدب الرحلة، فهي تحلق فوق تخوم الحكي والسرد الروائي، وتمزج الوثائقي التاريخي بإيقاع المشهد وروح السيرة الذاتية. وبأسلوب يذكرنا بكتابات الإيطالي إيتالو كالفينو صاحب «مدن لا مرئية»، بعيدا عن النمط الوصفي التقليدي لأدب الرحلة كما هو معروف في تراثنا الأدبي.