محمود درويش يتحدث عن المرأة ومعاناة الكتابة

انتظر «الفيزا» الأميركية 3 أشهر وحصل عليها بوساطة رايس

TT

فرصة، وبالنسبة إليَّ مصادفة نادرة أن أمضي سهرة مع محمود درويش بعيداً عن معجبيه ومحبيه، وبعيداً عن الأجواء الثقافية الاحتفالية، ساعات قليلة سرقت خلسة، كان خلالها ينشد الراحة وساعة صفا؛ هيأ لذلك ناشره وصديقه رياض نجيب الريس، لدى وجودهما في دمشق بمناسبة توقيع ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» صيف عام 2005 على هامش معرض الكتاب في مكتبة الأسد. وأعود اليوم إلى تلك السهرة التي دونتُ وقائعها، ولم أفكر يوماً بنشرها لأن المجالس ، كما يقال، أمانات، فذلك كي لا يكون التأمين قاتماً ثقيلاً لشاعر كبير عشق الحياة وعرف بخفة الظل والمرح.

كانت الجلسة في مطعم لتناول عشاء خفيف ، بعد يوم مضنٍ انتهى على حين غرة، بعد أقل من ساعتين وقع خلالهما أكثر من 300 نسخة من كتابه «كزهر اللوز أو أبعد»، وتوقعنا أن يتضاعف الرقم، لو لم يُفاجأ الشاعر والجمهور بإطفاء الأنوار وإغلاق القاعة، ومغادرة الجمهور الغاضب من اختصار فترة التوقيع.

تفاصيل ذلك اليوم كانت حافلة بالمفارقات، وشكلت المادة الرئيسية للجلسة، وكان السؤال الأول الذي تردد بين الحضور ونقلته لدرويش هو لماذا قبلت بطرد قرائك ولم تحتجّ؟ فأجاب بسخريته المعهودة: «كنا مضبعوين»، وأنه «لم يعرف لماذا انتهى التوقيع، فقد قيل له إنه لم يبق احد من الجمهور، والصالة أصبحت معتمة، وبالتالي لم يعد بالإمكان البقاء، فغادر في حالة من الذهول، وهو يتساءل «أين الناس؟!».

أكثر ما لفت درويش هو التنظيم الصارم الذي فرض على الجميع. وقال: «بذلوا كل جهدهم لإنجاز الفشل، ولم ينجحوا».

وكان للإعلاميين نصيب في ذهول درويش، حيث افتتح يومه حينذاك بحوار مطول مع إعلامي سأله عن كل شيء ما عدا نصوصه الشعرية!! مثل سؤال هل يزعجك أن تقارن بنانسي عجرم؟ والذي أجاب عليه: لا أبداً لا يزعجني أن أظهر أنا ونانسي في صفحة واحدة، لكن ما هو المشترك بيني وبينها لأقارن بها؟

أما الصحافية التي أدهشته، فتلك التي انتظرته طويلاً في بهو الفندق، لتجري معه حوارا لصحيفة محلية ووكالة أنباء، فطلب إمهاله بعض الوقت ليصعد إلى الغرفة ثم يعود، وفي الغرفة انشغل ونسيها. صباح اليوم التالي، فوجئ بأنها أمضت ليلتها تنتظره على الكنبة. أجرى حواراً مطولاً معها، متوقعاً أن ينشر في اليوم التالي، قياساً إلى إصرارها، إلا أنه لم يعثر على شيء. الأغرب من ذلك مجيء صحافية أخرى من المؤسسة ذاتها لتحصل على حوار مطول بزعم أنها من يمثل هذه المؤسسة لا زميلتها التي سبقتها.

ومن الصحافة إلى المعجبات، أجاب بشكل غير مباشر عن سؤال لم أجرؤ على طرحه عن سبب نعت البعض له بأنه نرجسي أو مغرور وحتى متغطرس. قال ثمة معجبون تفوق قسوة حبهم القدرة على الاحتمال، وجاء على ذكر امرأة محامية ـ سماها المحامية الزرقاء ـ جاءته ترتدي الأزرق من الرأس إلى القدمين، حتى أظافرها طلتها بالأزرق، اتصلت معه في وقت متأخر من الليل لتعبر له عن رغبتها بإهدائه نسخة من كتابها الاقتصادي، ولدى قوله إنه لا يهتم بالاقتصاد، استنكرت قائلة إنها تهتم بالاقتصاد، لكنها تقرأ الأدب، فلماذا لا يقرأ هو كتب الاقتصاد! رد بانزعاج «أنا حر، وأنت تتصلين في وقت متأخر». بررت ذلك بأنهم في استعلامات الفندق، قالوا لها إنه جاء الآن. فقال «أنت مالك» مغلقاً خط الهاتف، ورغم ذلك اتصلت ثانية، صباح اليوم التالي لتبلغه نيتها إهداءه أشعارها!

لم يكد يختم هذه القصة، حتى أقبل عليه مطرب المطعم الذي قطع وصلته الغنائية، ليخبره أنه لحن إحدى قصائده، لكن هناك من حذره من احتمال مطالبة الشاعر بحقوقه. فطمأنه درويش: «لحن ما تريد أنا لا أطالب أحداً بحقوق قصائدي». وكانت وقفة المطرب فرصة للعاملين في المطعم كي يأتوا إليه طالبين صورة معه، فاستأذنهم التأجيل حتى يستريح قليلاً.

حديث المعجبات كان مستملحاً، فطالبناه بالمزيد، فتذكر معجبة تونسية كانت تظن أنها زوجته، وكتبت له رسائل غرام كثيرة، وفي إحدى المرات، حضرت أمسية شعرية له مرتدية ثوب زفاف ابيض وطرحة! ثم علم من أهلها أنها مريضة نفسياً وتخضع للعلاج، فبطل العجب. وفي إحدى الأمسيات، صعدت الى المسرح فتاة جميلة أهدته وردة فقبَّلها، وجاءت بعدها فتاة أقل جمالا وكي لا يميز بينهما قبّلها هي الأخرى، وبعدهما جاءت فتاة على قدر ضئيل جداً من الجمال، فتجاهل وجودها، ونقل إليه أن تلك الفتاة بكت بشدة لأن لم يقبّلها، ليعلم أنها هي ذاتها التي تدعي أنها زوجته، فارتاح لتصرفه بعدم تقبيلها... و«إلا لحملت من القبلة!».

بين المزح والجد، امتدت السهرة. وقلنا له هذا عن المعجبات المزعجات، ماذا عن الفاتنات؟ رفض الكلام لأنه سيغدو ادعاء، لكن لتداعيات التنكيت سلطان في هكذا مناسبة. وكانت البداية هي الخلاف حول مقاييس الجمال، إذ يعجبه جمال هيفا وهبي، ولا يزعجه السيليكون، إذا كان يصحح عيوب الخلق.

ثم دار هذا الحوار بيننا:

> هل تحرضك المرأة الجميلة على كتابة قصيدة؟

ـ أكتب عن المرأة في حالة الحرمان والغياب، لكن في حالة التحقق لا أكتب عنها، وحين أكتب سرعان ما يستقل النص ويبتعد عنها، وتنقطع علاقتها به.

> هل تعمل كثيراً على القصيدة؟

ـ كثيراً جداً.

> هل تعاندك الكلمات؟

ـ من الممكن التغلب عليها.

> إذاً أين تواجهك الصعوبة في الكتابة؟

ـ الصعوبة بالحذف، الحذف يحتاج لجرأة.

استفضنا بالحديث عن طقوس الكتابة والاشتغال على النص، فقال إنه يمزق كثيراً من الورق.

> ألا تكتب على الكومبيوتر؟

ـ أبداً ليس لي علاقة به، مازلت اكتب بقلم الحبر السائل.

> يقال أن الكومبيوتر يجعل النص كعجينة لينة، ما يُسهل تشكيله.

ـ الجميع يقول هذا، لكن لم أحاول التعامل معه.

> ولا حتى في المراسلات، ألا تستخدم الإيميل؟

ـ لا، نهائياً.

وعودة إلى السهرة التي انتقل الحديث فيها إلى السفر وأي البلدان التي أعجبته أكثر من غيرها. قال البرازيل والتشيلي والمكسيك، وثمة بلدان زارها ليوم واحد كالصين وكان برفقة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي كان يزور العواصم العالمية بوقت قياسي في مهماته السياسية.

تحدث بشوق عن ماركيز واستضافته له في بيته ومحاولة إقامة نشاطات لدعم القضية الفلسطينية. كما ذكر حادثة طريفة عن سفره للقاء ماركيز أيضاً، ولدى وصوله إلى المطار قال له مضيفه إن ماركيز في كوبا لحضور جنازة أحد الأدباء، وإنه إذا رغب في رؤيته هناك فسوف يلتقي بكل الأدباء هناك. سأله، لماذا لم أبلغ بهذا قبل مجيئي؟ رد المضيف: خشيت أن تعدل عن القدوم وأنا أريد أن أراك. فما كان من درويش إلا أن شتمه وقال «هل جئت أنا الى هنا كي أراك».

تحدث درويش عن موضوع آخر يتعلق بالفن والتلفزيون والدراما، عبر عن إعجابه بالدراما السورية وأعمال الفنان ياسر العظمة، متمنيا لو أنه يقدم في مراياه ما تعرض له أثناء توقيع ديوانه في دمشق. انزلق الكلام بعدها من الفن إلى السياسة وكيف هاجمه الإسلاميون لأنه ساند الشاب الفلسطيني الذي وصل الى المرتبة الثانية في برنامج السوبر ستار، عندما منع من إقامة الحفلات. فقال درويش «نحن بحاجة لمطربين ومطربات وراقصات لكي نصبح شعباً، نحن لسنا بنادق فقط».

وكانت مناسبة ليعلن درويش موقفه من الذين يشتهون المرأة، وفي الوقت ذاته يكرهونها، هو لا يختلف مع الإسلاميين في المقاومة ضد الاحتلال، لكنه يختلف مع مشروعهم الاجتماعي والثقافي. وفي ما يشبه استشراف المستقبل القريب قال في تلك الجلسة بأن غزة ذاهبة بعد الانسحاب الإسرائيلي إلى «مواجهة حتمية بين السلطة والإسلاميين». كان ذلك عام 2005، وتحقق بعد اقل من عامين.

باءت بالفشل محاولتنا في انتشال درويش من الحديث عن الثقافة والسياسة، ووجدنا أنفسنا نغرق مجددا في الشجن من واقع سياسي مؤسف، حدت منه عودة «المطرب المتعاقد مع المطعم» إلى درويش، الذي شعر حيال المطرب بأنه «كان معنا على الطاولة طيلة السهرة، فهو لم يرفع عينه عني» أي عن درويش، فقد قاطعنا أكثر من أربع مرات بينها إخباره بأنه سيغني الليلة من قصائده، فتوسل إليه درويش ألا يفعل، فهو لا يريد سماع قصائده الوطنية في هذا الوقت وهذا المكان. المفارقة أن المطرب ومع كل مقاطعة، كان يتظارف بالقول اسمحوا لي بفاصل إعلاني. هذا التعبير نال استحسان الريس كأفضل تعبير عن الغلاظة، التي بلغت ذروتها لدى مغادرتنا المكان، وملاحقته لدرويش، الذي طفح معه الكيل وبدأ صبره بالنفاد، فقال له «طيب وبعدين»، أي انتهى، فظن المطرب بكلمة «بعدين» بادئة للاستفاضة بالحديث مع شاعر يعشقه، ما استفز درويش ليصرخ بوجهه: «خلص انتهى الكلام».

مضينا نحو الباب الشرقي للمدينة القديمة، إلا أن جمهرة من الناس كانت عند القوس القديم، وثمة امرأة تلطم وتبكي صارخة «الولد راح». سألنا أحد الواقفين، ماذا يحدث؟ وكان الجواب: حصلت مشاجرة بين مجموعة شبان ثم اقتيد أحدهم بسيارة إلى جهة مجهولة. فسأل درويش يعني «الولد خطف؟». فكانت الإجابة: «لم يخطف، لكن هناك من أخذه ومضى بعيداً». فضحك درويش معلقاً «أُخذ في سيارة الى جهة مجهولة، إذا لم تكن تعني أنه خطف، فماذا يكون الخطف؟».

الخطف أيضاً، وإن لم يكن إلى جهة مجهولة، أن يغادر محمود درويش إلى أميركا لإجراء عملية جراحية بعد تأخر منحه الفيزا ثلاثة أشهر، اضطر خلالها الرئيس محمود عباس للتوسط لدى كوندوليزا رايس، ليعود ملفوفاً بالعلم الفلسطيني، ويسبق اسمه لقب الراحل.. ويُتبع بـ «يرحمه الله».

انخطف درويش من عالم الشعر والسياسة والصراع والحب والأمل واليأس... وفلسطين، ليستريح في اليوم السابع بعد ستة عقود، كان فيها أمير الشعر والشعراء.