التوسّع الجغرافي وتصدع بريطانيا العظمى

كتاب بريطاني عن دموية الامبراطوريات وسقوطها الحتمي

TT

يتساءل الكثيرون عن عمر الامبراطورية البريطانية ومتى انتهى. هل كان ذلك عشية الخامس عشر من أغسطس ( آب ) 1947، حينما حصلت الهند وباكستان على استقلالهما وشعر البريطانيون بأن عالمهم قد «شطر إلى شطرين»؟ أم إنه انتهى في خريف عام 1956، حينما هاجمت بريطانيا مصر في قناة السويس لتسحب قواتها بعد ذلك في غضون اسبوع؟ أم في أبريل (نيسان) 1980، حينما كانت مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية الأسبق، تقف أمام طاقم التلفزيون في «الوست منستر»، وهي تراقب عملية انتقال السلطة في روديسيا، التي تسمى الآن جنوب أفريقيا؟ أم في يوليو (تموز) 1997، حينما أنزل العلم البريطاني في هونغ كونغ؟

يبدو أن لا أحد يستطيع الجزم أو يحدد بالضبط متى انتهى أمد الامبراطورية البريطانية، بيد أن الكل يمكن أن يتفق على إنها زالت ولم يعد لها من وجود بعد، بل وحتى حينما كانت الامبراطورية تتوسّع، تنبأ البعض بأفولها. في العدد 1774 من صحيفة «لويد إيفننغ بوست» نشرت رواية فانتازيّة، مستقبليّة تدور حول عام 1974، واصفةً جولة يقوم بها رجلان من «إمبراطورية أميركا» خلال أطلال لندن. ومن دون سابق معرفة أو تنبؤ بالأحداث، كان كتاب أدوارد جبسون «أفول وسقوط الامبراطورية الرومانية» يطبع في جزئه الأول بداية عام 1776. ولعل ما ساعد على مبيعاته، هو إعلان استقلال أميركا من بريطانيا، الذي جاء بعد بضعة أشهر على ذلك.

أما عنوان كتاب بيرس برندون الجديد «أفول وسقوط الامبراطورية البريطانية، 1781-1997»، فهو لا يبدو تكراراً جاء مصادفة لكتاب إدوارد جبسون في القرن الثامن عشر، بل يمكن القول بأنه مصادفة مدروسة أو اختيار متعمّد، لأن الكاتب يصرّ على أنه في عصر الامبراطورية الكلاسيكي القديم، كان حكام المستعمرات على الأغلب، مدركين للتشابه الكبير بين إمبراطوريّتهم والامبراطورية الرومانية. إذن، فإن كتاب جبسون، يعتبر المحك بالنسبة لبيرس برندون خلال رحلته في تسجيل تاريخ أفول وسقوط الامبراطورية البريطانية. إن شبح تداعي وسقوط الامبراطورية، حسب رأي الكاتب، أخذ يتردد منذ زمن جبسون. وحيث أغلب الروايات عن سقوط الامبراطورية البريطانية تتركّز على القرن العشرين، إلاّ أن برندون، يبدأ روايته من معركة «يورك تاون» 1781. كانت تلك المعركة قد شكّلت لبريطانيا «أول الاندحارات الكبرى للكولونيالية البريطانية، حينما استسلم اللورد كرونويلز لجورج واشنطن، مانحاً الاستقلال الفعلي لأميركا».

وبدلاً من وصف معركة «يورك تاون» والهزائم اللاّحقة كشيء غير مألوف في مسيرة الامبراطورية الصاعدة، يستخدم براندون مركز ثقل هذه الرواية في تفسير الامبراطورية كمشروع تمّ تحدي شرعيّته باستمرار، من الداخل والخارج. بعد ذلك، يورد المؤلف جملةً من التفاصيل المثيرة عن «الصعود» الامبراطوري وكذلك السقوط، من معركة كيب تاون وحتى هونغ كونغ. كتاب برندون يدور حول تداعي إمبراطورية تمّ خلال عقود من الزمن خارج «المكتب الكولونيالي».

يطعّم الكاتب صفحات كتابه بتلميحاتٍ معاصرة من الامبراطورية الرومانية وفيالقها الحربية ويشير إلى أن الحكّام البريطانيين كانوا مشبعين بالروح الكلاسيكية، بدءاً بريشارد ويسلي، الذي ملأ مجلس حكومة كلكوتا «بدزينة من التماثيل النصفية للقياصرة» وحتى جورج ناثانيل كورزون بعد مائة عامٍ على ذلك.

مثل هذه الممارسات تعني إنه حتى حينما لمّعوا ومجّدوا داخل إمبراطوريتهم، فإن الرعايا البريطانيين كانوا دائماً قلقين من حدوث انعطافات جوهرية تفضي إلى تداعي الامبراطورية. روما كانت السلف وليس الاغريق، كما يوضّح برندون، في اعتبارها المثال الفلسفي السيئ، الذي أدى إلى قيام وسقوط الامبراطورية البريطانية. ومثل روما، اعتقدت بريطانيا أن الحضارة الرفيعة يجب أن تعرض على السكان المحليين وينبغي عليهم تقبلها بامتنان. وإذا لم يتقبلوها، كما حدث دائماً، فإن بريطانيا ستلجأ إلى الحرب وإنزال العقاب. الجنود البريطانيون كان عليهم أن يسألوا أنفسهم نفس سؤال الفيالق الرومانية: لماذا نرحل إلى جبهات تبعد آلاف الأميال عن وطننا ونقتل بغضب رجال القبائل؟ بالطبع، ليس هناك من جواب دقيق لهذا السؤال، غير أن برندون يرى بأن أكثر ما ميّز الامبراطورية البريطانية، هو ذلك المزيج من الحذر في استباق الاحتلال، الشهية الاقتصادية والغطرسة السياسية.

في ذات الوقت، يلقي برندون نظرة بعيدة ويقول بأنه من الصعب حقاً التعرّف بشكل عقلاني على البدايات، عدا الظاهرة جداً منها فحتى إلى ما قبل الحرب الأميركية من اجل الاستقلال، فإن النخبة البريطانية قرّرت بأن الامبراطورية هي، بشكلٍ من الأشكال، تعني بريطانيا الكبرى، بريطانيا العظمى.

إن الاعتقاد بأن الامبراطورية كانت مصدراً للقوّة البريطانية وهيبتها ونجاحها الاقتصادي، ظلّ متجذراً في العقل الجماعي البريطاني لعدة قرون، كما يرى الكاتب، وحتى في القرن الواحد والعشرين، يعتقد السياسيون البريطانيون بشكل غريزي بتعابير العولمة. من المؤكد أن هذه النظرة تثير عدّة أسئلة، ولكن ما هو ظاهر، أن ما من إمبراطورية تخلّت من ذاتها عما استولت عليه، حتى وإن كان الصواب يدعوها لذلك. لم يتخل الرومانيّون عن أي شيء إلى أن أجبروا على الخروج من البلدان التي هيمنوا عليها. وحاربت بريطانيا آخر حرب استقلال (غير معلنة) ضد الأرجنتين من أجل إحكام سيطرتها على جزر فوكلاند. براون يقول بأن التوسّع الجغرافي هو شهية إنسانية وإن أغلب الحضارات التي تاقت لهذا التوسّع، لم تكن شهيّتها على مثل هذه الدرجة كما روما وبريطانيا.

خلال صفحات كتابه الكبير، لا يستطيع الكاتب ان يحجم عن ذكر بعض المشاهد الدمويّة من تاريخ الامبراطورية. ففي كانبور عام 1857، حينما تمّ ذبح حوالي (200) امرأة وطفل بريطاني على يد المتمرّدين الهنود، أجبر البريطانيون الأشخاص المشتبه بهم على لعق الدم المراق من أرضية موقع المجزرة قبل شنقهم وفي اساندلوانا عام 1879، مزّقت شفرات قبيلة «الزولو» بجنوب أفريقيا أجساد الجنود البريطانيين: ذلك ما يمكن اعتباره ذبحاً جماعياً من طراز القرن العشرين سيطيح في ما بعد برأس الامبراطورية. وخلال حرب البوير (الفلاحين) عام 1880 في جنوب أفريقيا، تمّ حشر (160) ألف مدني أبيض داخل معسكرات اعتقال مخيفة سبقت تلك التي أنشأها النازيون الألمان في ما بعد.

مع نهاية الحرب العالمية الأولى أخذ المزيج الامبراطوري يتفسّخ، وبدا الأمر، كما لو أن الإمبراطورية بدأت تعاني من ـ تضخّم في الخََرَف ـ وبلغت ذروة قسوتها في مجزرة «آمرستار»، وأصبحت على شفا تدهور جديد، بدءاً من كينيا وحتى شنغهاي. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتزيد من هذا التدهور. عند سماع دوي القصف الياباني للطريق الرئيس الذي يربط سنغافورة بالأقاليم الأخرى من البلاد، سأل مدير مدرسة «ريفل» عما يحدث، فأجابه لي كوان، الذي سيصبح رئيس وزراء سنغافورة المقبل «إنها نهاية الامبراطورية البريطانية».

لم يكن لي كوان بعيداً عن الحقيقة، مثلما يؤكد برندون، لأن صخب الحرب جعل من غير الممكن عملياً لبريطانيا الاحتفاظ بالهند وباكستان، بورما وسيلان، التي نالت جميعها الاستقلال عام 1948. كان الوزراء العماليون يرون أن إنقاذ الامبراطورية يكمن في منح الكولونيالات حكماً ذاتياً. وفي الملايا، حاول البريطانيون تجربة ذلك، لكنهم واجهوا هجمات المقاتلين. كان ردّ فعلهم إعلان حالة الطوارئ وشروعهم بشن هجمات قاسية ضد «الشيوعيين الصينيين»، مما أدى إلى تفجير الاضطرابات في كينيا.

وكان عبء حالة الطوارئ التي فرضت عام 1952 قد حفّز المقاتلين على تشديد القتال، فجمع البريطانيون عشرات الألوف من المشتبه بهم وزجهم في معسكرات اعتقال مرعبة. وفي أفريقيا الوسطى أيضاً، لم يولد الاستقلال دون عنف، وبالذات في روديسيا، حيث تفجّرت أزمة عنيفة بين الأغلبية السوداء والقيادة البيضاء، التي أعلنت الاستقلال من جانب واحد عام 1965.

يرى الكاتب بيرس برندون، أن الامبراطوريات مهما طال عمرها، لا بدّ وأن تتصدّع عملياً، لأن الاستيلاء والهيمنة، هما باستمرار موضع ازدراء ومقاومة. ولتأكيد هذه الحقيقة البسيطة والمعقدة في آن، لجأ في كتابه إلى إعادة تشكيل مكثّفة لأفعال وممارسات الامبراطورية البريطانية.

إحدى هذه الممارسات التي يوردها، هو ما حدث عام 1856، حينما استولت قوّات بريطانية على بكين فأحرقت ونهبت القصر الصيني للإمبراطور، مدمّرة كل ما شاهده الأوروبيون واعتبروه أحد عجائب الدنيا السبع. لكن الصين، كما يؤكد برندون، برهنت على أنها جوزة صلبة يصعب كسرها، كما وأن هناك عجائب حضارات أخرى انتهت إلى الرماد أو إلى المتحف البريطاني.