ثورة نسائية على ذكورية الحكايات الشعبية!

بدأت بتشويه صورة الرجل لكنها أصبحت أكثر هدوءاً

TT

حكواتيات، باحثات، أديبات.. قل عنهن ما شئت، لكنهن وهبن أنفسهن لإخراج المرأة من القمقم الذي حبسها فيه الرجل طوال قرون خلت، من خلال إعادة قراءة التراث، كتابة الحكايات القديمة بأسلوب جديد، القص على وقع الموسيقى، إصدار الكتب، وعقد حلقات نقاش وتنظيم المؤتمرات. كل الوسائل متاحة ومباحة للعاملات في «مؤسسة المرأة والذاكرة» لتعديل النزعة الذكورية في التراث العربي، وتقديمه منصفاً لا بل ميالا للمرأة ومدافعاً عنها. ماذا يحدث داخل هذه المؤسسة النسوية التي وصلت إلى حد مهاجمة الرجل والثأر الشرس من ظلمه التاريخي؟ هذا ما يحاول ان يكشف عنه التحقيق التالي.

غالباً ما يلتقين في أماكن جميلة وموحية، ويمارسن طقوساً خاصة من الحكي المغاير. إنهن حكواتيات يقمن بإعادة صياغة الحكايات الشعبية من وجهة نظر نسوية، ويخلصنها من النزعة الذكورية التي تسيطر عليها. بين «بيت الهراوي»، «وكالة الغوري»،و«الجامعة الأميركية»، و«جاليري التاون هاوس»، تسعى ناشطات «مؤسسة المرأة والذاكرة» إلى ترسيخ حكايات جديدة تستلهم القديم، لكنها أيضاً.. تقاومه!.

لكن نساء المؤسسة لسن حكواتيات فقط، فهن كاتبات أيضاً ومتطرفات في بعض الأحيان في الدفاع عن الدور الأنثوي، وهو ما يبررنه على أنها كانت ردة فعل على مكبوتات قديمة، لكنهن بتن الآن أكثر اعتدالاً وإنصافاً.

تجربة المؤسسة منذ البداية، أعطت انطباعاً للبعض بأنها محاولة ثأرية لتكريس كل ما هو أنثوي. لكن إحدى الحكواتيات وهي الدكتورة سهام عبد السلام، تعتبر هذا الكلام اتهاماً مجحفاً، وتقول: «هذا ليس حقيقياً، إننا نحاول تكريس المساواة وكشف النقاب عن أصوات كانت دائماً مكتومة، وصور لم يكن يسمح لها بالخروج». التراث نفسه كان موضع استلهام من قِبل كتّاب في الشرق والغرب، لكن تلقي المحيطين كان مختلفاً. وتوضح سهام عبد السلام: «طالما ظلت هذه الاستلهامات متوافقة مع السائد لا تثير أي مشاكل، لكن عندما خرجنا عن السياق جاءت ردود الأفعال متباينة». التناول المختلف جاء من وجهة نظرها: «بكشف النقاب عن الأصوات التي لم يتح لها ان ترى النور. فالحكايات الشعبية كالتاريخ، كتبت من وجهة نظر ذكورية. نحن لم نحاول أن نفعل العكس بتكريس الأنثوي، فلماذا تواجه تجربتنا بالاتهامات؟، إن ما نفعله يعتبر خدمة للثقافة الإنسانية عموماً، تلك الإنسانية التي اعتادت أن تتجاهل مشاعر النساء».

في منتصف يوليو (تموز) الماضي، كانت هناك أمسية بـ«وكالة الغوري». وقفت حكواتيات من المؤسسة وقدمن نصوصهن المغايرة، قالت بعدها الروائية سحر الموجي إن استهجان بعض المثقفين كان له ما يبرره، وأكدت حسب أسبوعية أخبار الأدب: «في البداية كنا نتحدث بغضب، مارسنا التنميط على الرجال، جعلناهم قساة وأغبياء، أوجدنا أنماطاً من الرجال ليست من لحم ودم، عندما ندرب الفتيات الآن نقول إننا قمنا بهذا في البداية، استبدلنا نمطاً بنمط، ونطلب منهن ألا يكررن هذا». أنقل كلمات الموجي لسهام فتعقب: «بعض الناس فسروا الأمر هكذا، وآخرون لم يفعلوا. وجهات النظر تتعدد، وأنا لست ضد أي وجهة نظر، فالاختلاف هو الذي يؤدي إلى التفاعل». أما الدكتورة منيرة سليمان، وهي واحدة من الحكواتيات، فتؤكد ان: «ما حدث في البداية كان مجرد ردة فعل. كنا نخوض التجربة لأول مرة، كما أن كثيرات منا لم يكن قد مارسن الكتابة من قبل. وعندما عرضنا تجربتنا على نطاق ضيق تلقينا انتقادات بأن ما نقدمه يتضمن هجوماً عنيفاً على الرجل، وهو أمر جاء لا إرادياً. فلم نكن قد خططنا لذلك. أكدنا وقتها أن هذا ليس ما نرغب به، واتفقنا على أنه يمكن أن يصل بنا إلى طريق مسدود. كنا مشغولين في البداية بالعلاقة الندية مع الرجل، لكننا تخلصنا بعد ذلك من هذه الندية في تجارب كثيرة، بل ان الرجل نفسه لم يكن موجوداً في بعض حكاياتنا التالية». أنبه الدكتورة منيرة إلى مفارقة، ففي كلماتها تشير إلى أنهن تخلصن من الندية بوسيلة أكثر حدة وهي نفي الرجل. تعلق قائلة: «ليس نفياً، لكن هناك حكايات لم يكن للرجل وجود بها».

عملت المجموعة إذن انطلاقاً من فكرة مقاومة النزعة الذكورية التي تسيطر على الحكايات الشعبية. لكن هذه الحكايات ليست استثناء، توضح منيرة سليمان: «النزعة الذكورية غالبة على جوانب كثيرة كالتاريخ والأمثال الشعبية، وقد عملنا لفترة على الأمثال التي تتجنى على المرأة، لكننا ركزنا على الحكايات لأنها الأكثر إلحاحاً، فهي أول ما يسمعه الطفل من والدته أو جدته، ومن خلالها تتكون مداركه ويتشكل وعيه بالعالم المحيط، مما يحتاج إلى وقفة حقيقية».

عبر موقعها على الإنترنت قدمت «جمعية المرأة والذاكرة» تعريفاً بمشروع لها يحمل اسم «قالت الراوية»، تضمن المبررات نفسها التي قدمتها الحكواتيتان، وجاء فيه: «تعتبر الحكايات الخيالية عنصراً مهماً في ثقافات الشعوب، وذلك لتأثيرها في الوعي الإنساني، فتلك الحكايات تعكس المفاهيم والتصرفات الاجتماعية وتؤكدها من خلال عملية إعادة إنتاج وانتشار تلك الحكايات. ولأن مؤسسة المرأة والذاكرة تعي مدى تأثير الحكايات الخيالية والقصص الشعبية في المفاهيم الخاطئة المتعلقة بالأدوار الاجتماعية التي يلعبها الرجل والمرأة، والتمثيل الخاطئ والمتجني على المرأة في الثقافة الشعبية والدارجة، فهي تحاول الرد على هذه المعتقدات الخاطئة عن طريق إنتاج وعرض مادة ثقافية مغايرة، وهي الحكاية الشعبية من وجهة نظر المرأة. والحكايات التي تعرض لوجهة نظر المرأة، تحاول إيجاد صورة مغايرة لتلك الصور السائدة، كما أنها تعمل على تمكين النساء عن طريق عرض أدوار ونماذج إيجابية للمرأة كي تظهر في تلك الحكايات والقصص الخيالية».

غير أن ما يبدو مسلماً به لدى البعض، قد يجد من يشكك في يقينيّته، فالشاعر مسعود شومان، واحد من الباحثين المتخصصين في التراث الشعبي، له دراسة عن صورة البنت في المأثور الشعبي، وصل فيها إلى نتائج مغايرة، يشرح شومان: «لا أتفق مع كل ما يقال عن ذكورية الحدوتة الشعبية. الأمر لا يتعلق بمجرد وجهة نظر انفعالية، فقد أثبتت هذا في دراستي التي توصلت من خلالها إلى أن كل ما يقال عن التوجه الذكوري في الحكاية الشعبية يقع في نطاق المقولات الشائعة التي لا يوجد دليل عليها»، يضيف شومان: «الناس يأخذون دائماً بظواهر النصوص، ويطوعونها لتتطابق مع وجهة نظرهم. فلو أن جمعية للمرأة هي التي تقدم قراءة للحكاية الشعبية، فإنها تتبنى ما يثبت تعرض المرأة لقمع حتى لو تم ذلك بلي عنق الحقيقة، لكن أي قراءة منصفة تنفي ذلك تماما». يستحضر شومان مثلين شعبيين يترددان عند ولادة الولد والبنت ليبرهن على كلامه: «عندما يولد الولد كانت هناك مقولة شعبية تتكرر هي: «لمَّا قالوا دا غلام انشد ضهرى واستقام». القراءة السطحية لهذه المقولة يمكن أن توحي بأن مولد البنت قد يؤدي إلى نتيجة عكسية، غير أن المقولات الشعبية نفسها تنفي ذلك. فالنصوص تشير إلى أنه حينما تولد البنت يتم تناقل خبر ولادتها عبر أسلاك الهاتف وإرسال التلغرافات، كي تزف الفرحة للأهل والأقارب: «لمَّا قالوا لي دي بت، خبرها روَّح في السلك، قاسوا لي ميت فدان، حضر الخواجة ملك». ولأن الأم قد ولدت بنتاً، فقد منحها الأهل مائة فدان إكراما لها وللبنت التي ولدتها». ويرى شومان أنه لا ينبغي اقتطاع النص من سياقه عند قراءته، لأنه يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير حقيقية. ويشير إلى أنه يمكن أن يعتمد الأسلوب نفسه ليؤكد أن شهرزاد هي التي روجت لفكرة الرجل القامع للنساء في حين أنها هي التي قمعته بالحكي!، ويضيف: «أخطر ما يمكن أن يتعرض له أي نص هو قراءته بوجهة نظر مسبقة. فالحكايات الشعبية لم تقدم بحس ذكوري يقمع المرأة. وفي مقابل أمنا الغولة التي لا تقدم صورة للمرأة على إطلاقها نجد نماذج مثل ست الحسن والجمال، وخضرة الشريفة التي ارتقت بأبو زيد، وعزيزة حبيبة يونس التي تمتعت بحرية بالغة في التعبير عن حبها. هناك حكايات بالفعل ضد المرأة، لكن أيضاً هناك حكايات ضد الرجل نفسه».

الجدل حول ذكورية الحكاية الشعبية يمكن أن يمتد إلى ما لا نهاية. ففي مثل هذه الجدليات يملك كل طرف أسانيده التي تتكاثر كلما امتد الحوار، غير أن تجربة تخليص الحكاية من ذكوريتها (الحقيقية أو المتخيلة)، تملك جاذبيتها الخاصة. هنا يصبح السؤال عن آليات اختيار النص ومراحل تطويعه مطروحاً. تجيب سهام عبد السلام بقولها: «عام 1999، كانت منسقة المجموعة هي الدكتورة هالة كمال، انضممت إليهن فوجدتهن قد بدأن بالعمل على حكايات ألف ليلة، كانت هالة تختار النصوص وتقرأها كل منا على حدة، ثم نعقد ورشة جماعية لمناقشتها، ونبدأ الكتابة بعد ذلك. أحيانا تقوم كل منا بالكتابة وحدها، وفي أحيان أخرى كانت اثنتان منا تقومان بذلك مع بعضهما، لنجد أنفسنا في النهاية أمام نصوص مختلفة تماماً عن النص الأصلي. فهناك من تستلهم العنوان وأخرى قد تستلهم تيمة ما، كما أن النتيجة لم تكن واحدة. نجد أمامنا في النهاية نتاجات مختلفة: قصة شعبية، قصة أطفال أو قصة عادية. لم يقتصر نشاطنا على الحكايات الشعبية بل اشتغلنا على الأمثال والتاريخ وقصص الأطفال». لكن الأمر لم يتوقف عند مرحلة الكتابة، تضيف منيرة سليمان: «بعد نحو ستة أشهر أو أكثر بقليل جاءتنا فكرة الحكي. كنا وقتها نفكر في النشر فورد الحكي إلى أذهاننا، لكنه مر بمراحل طويلة حتى وصل إلى شكله الحالي الذي يعتبر أكثر تنظيماً. في البداية لم تكن معنا مخرجة أو من يقومون بالعزف، الآن أصبح هناك جمهور يسعى لمشاهدة تجربتنا وهذا ما يسعدنا». لكن ألا يمكن أن يكون دافع هذا الجمهور هو الفضول فقط لا الاقتناع بالتجربة؟، ترد منيرة سليمان بقولها: «حتى لو كان هذا هو دافع البعض فهو أمر جيد، وتذكّر أننا نتحدث عن عشر سنوات فقط، بينما تحتاج التجربة إلى سنوات أطول لكي تزداد رسوخا».

خلال هذه السنوات أثمرت التجربة عدداً من الكتب، لعل أشهرها هو «قالت الراويات.. ما لم تقله شهرزاد»، الذي تضمن حكايات لكل من: أميمة ابو بكر، سحر الموجي، سهام بنت سنية، وعبد السلام! (هكذا اختارت الدكتورة سهام عبد السلام ان تكتب اسمها)، سهى رأفت (صدر لها كتاب آخر منفصل هو: حكايات حورية)، منى إبراهيم، منيرة سليمان، مها السعيد، وهالة كمال. كما أثمرت التجربة عدة قصص للأطفال منها: «حكايات فريدة» لهدى الصدة، «ست الشطار» لمنيرة سليمان، «حكاية الأيام السبعة للشاطر والشاطرة» لسهام عبد السلام، و«مصباح علاء الدين» لأميمة أبو بكر. وفي القصة الأخيرة يفاجأ علاء الدين بجنّية تظهر له من المصباح، فيتعجب ويقول لها: «المفروض والمفترض والطبيعي أن تكوني جنياً لا جنية، وأن تحضري لي أحسن الثياب وأروع الجواهر ومالاً كثيراً وهيبة وسلطاناً»، فترد عليه بإجابة دالة: «ذلك هو المصباح الآخر المشهور والموجود في بلاد كثيرة، يعرفه الناس ويسألون عنه في كل مكان ويكتبون حكاياته لأن الجني فيه لا يستطيع أن يأتي إلا بالأشياء التي نراها ونلمسها». لكن الجنية (الأنثى)، تتفوق على الجني (الذكر)، عندما تؤكد لعلاء الدين أن سحرها لا يأتي بمال او جاه، لكنه يغير من حال إلى حال. هنا تتحول أمنيات الثروة والجاه بفعل التوجيه الخفي من الجنية إلى: «اجعلي الكبار يحبون اللون الأخضر والصغار يحبون اللون الأزرق، وهكذا أستطيع أن أعلن حبي للبحر والسماء وأن ألعب على الشاطئ من دون خوف أو حذر». كتابة مغايرة للحكاية المتداولة تتماس في ذلك مع تلك الحكايات التي استلهمت ألف ليلة في «قالت الراويات..». وهي الكتابة التي جعلت منيرة سليمان تؤكد: «خلال عشر سنوات أصبح لدينا مجموعة من القصص المغايرة التي تؤسس لذاكرة بديلة، يمكن أن يحكيها الأب والأم لأولادهما كما يمكن استخدامها في المناهج المدرسية». ربما يكون ما تقوم به «مؤسسة المرأة والذاكرة» حلماً يحتاج إلى سنوات لتحقيقه لأن ترسيخ نص ما يحتاج إلى عقود أحياناً، إضافة إلى إلحاح إعلامي مكثف. هذا ما نقوله لمنيرة سليمان، لكنها تصرّ على أن الأمر يستحق المحاولة.