المسيحيون العرب وحركة التنوير

كتاب فرنسي وآخر عربي يستذكران دورهم في الثقافة العربية المعاصرة

TT

حاول المعلم بطرس البستاني، الذي يمكن اعتباره رائد التنوير العربي، ان يحل المشكلة الطائفية التي كانت تعصف بالمنطقة آنذاك مثلما تعصف بها حاليا عن طريق طرح الشعار التالي: الدين لله والوطن للجميع. واتخذ من هذه العبارة شعارا يضعه على رأس الجريدة التي أسسها عام 1860 تحت عنوان: «نفير سوريا». ثم انتشرت هذه العبارة لاحقا وأخذها عنه الزعيم الوطني سعد زغلول لتوحيد كلا شقي مصر الإسلامي والمسيحي، كما أخذتها مختلف الاحزاب التقدمية العربية.

لا تستطيع مقالة واحدة ولا حتى عشرات المقالات ان توفي هذا الموضوع حقه من البحث والتنقيب. فإسهام المسيحيين العرب في النهضة والتنوير كبير، خصب، متشعب. ولذا فسنكتفي ببعض الإشارات الى بعض الرموز وأعمالهم وانجازاتهم. فقط أريد ان أقول منذ البداية ما يلي: لو حذفنا من سماء الادب والفكر العربي أسماء من نوعية جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ويعقوب صروف وفرح انطون وجرجي زيدان والرابطة القلمية والعصبة الاندلسية وانتهاء بأمين معلوف والمبدعين الحاليين كم كان سيخسر أدبنا العربي وفكرنا وتراثنا؟ أقول ذلك وأنا أعتذر عن الاسماء الأخرى الكبيرة والعديدة التي لم أذكرها والتي لا تكفي عدة قوائم لتعدادها.. وهي لا تقل أهمية عما ذكرت.

عندما أعود في ذاكرتي الى الوراء قليلا او كثيرا لا أملك الا ان أشعر بنوع من اللوعة والحنين الى تلك المرحلة من الشباب الاول عندما كنا ننهمك في قراءة كتب جبران وميخائيل نعيمة. لقد كانت هي غذاءنا الفكري والروحي بالإضافة الى الكتب المصرية لطه حسين وعباس محمود العقاد وابراهيم عبد القادر المازني ومصطفى لطفي المنفلوطي وسواهم.. كان ذلك في الستينات او السبعينات من القرن الماضي عندما تفتحت عيوننا لاول مرة على الفكر والادب والشعر والنثر والحياة. وحتى الآن عندما أتذكر عناوين الكتب فقط أكاد أرتعش وأشعر بنسيم البراءات الاولى يهب على وجهي ويحرك مشاعري وأحاسيسي: همس الجفون، الغربال، كان يا ما كان، المراحل، دروب، البيادر، كرم على درب، في مهب الريح، نجوى الغروب..هذا فيما يخص ميخائيل نعيمة. واما جبران فمن لا يتذكر عناوين كتبه التي حفرت في ذاكرتنا الجماعية حفرا: دمعة وابتسامة، الارواح المتمردة، الاجنحة المتكسرة، العواصف، رمل وزبد، المجنون، وبالطبع النبي؟

قد يقول قائل: ولكنك تعود الى مرحلة رومانطيقية عفا عليها الزمن وأصبحت في ذمة التاريخ بالنسبة لأدبنا العربي الحديث.. ولكن هذا ليس مؤكدا الى الحد الذي يتصوره البعض. فصرخات جبران ضد التقاليد وهيمنة الاقطاع السياسي ورجال الدين لا تزال معاصرة لنا. ويكفي ان ننظر الى أوضاع لبنان وغير لبنان لكي نتأكد من ذلك. ودعوات ميخائيل نعيمة الى تجديد الآداب العربية في الغربال وتسهيل قواعد اللغة العربية لا تزال قائمة وملحة. وتقريعه لنا لكي نخرج من انغلاقنا الفكري والروحي ونتواصل مع الآداب العالمية عن طريق الترجمة لا يزال مبررا ومشروعا. وحتى صرخة الشاعر القروي التي قد تصدمنا لأول وهلة لا تزال راهنة بل واكثر من راهنة في هذه الظروف العصيبة التي يعيشها لبنان والمنطقة العربية بأسرها:

بنت العروبة هيئي كفني

أنا عائد لأموت في وطني!

من يستطيع ان يقول هذا البيت الآن؟ الجميع يريدون الهروب من وطنهم لا العودة اليه بعد ان تحولت الأوطان الى جحيم، هذا اذا بقيت هناك أوطان..ألا تشعر بالذل والعار وانت تستمع الى أخبار الاقتتال الطائفي في شمال لبنان حتى بعد تنديد مفكري عصر النهضة بالطائفية بمائة سنة على الاقل؟ لكأن الزمن لم يتقدم خطوة واحدة الى الأمام! او لكأن كل جهود النهضويين والتنويريين العرب ذهبت سدى.. وأتذكر بهذه المناسبة تلك الرسالة القوية التي وجهها الأمير طلال بن عبد العزيز على صفحات جريدة «النهار» الى الأمة العربية والاسلامية من اجل انقاذ المسيحيين العرب ومنعهم من الهجرة. وهو فيها يدعو المسيحيين لكي يبقوا في أوطانهم بل ويعودوا اليها لاننا جميعا بحاجة اليهم. انها رسالة مؤثرة فعلا. فهي تدل على رحابة صدر واتساع فكر لم يعودنا عليه القادة العرب كثيرا. فهو لا يتردد عن القول بان أول الخاسرين من هجرة المسيحيين العرب الى الخارج هم المسلمون العرب أنفسهم. وذلك لان غيابهم يساعد على انتشار تيارات التعصب والتطرف في المنطقة كما يؤدي الى افقار كبير للثقافة العربية بل ويهدد حتى مستقبل العرب بأكمله. ثم يردف الأمير طلال بن عبد العزيز قائلا: لقد لعب المسيحيون العرب دورا كبيرا ابان القرنين التاسع عشر والعشرين في نهضة العروبة عن طريق اسباغ طابع حضاري عليها وعن طريق فتحها على الحضارات الاخرى التي كانت قد تطورت اثناء فترة انحطاط العرب. وهكذا نفخوا روح الحداثة في العرب والعروبة..

وقد سمعت مرة محمد اركون يتأسف أمامي لان المسيحية انقرضت من شمال افريقيا أي من المغرب العربي. فلو انها بقيت حتى ولو على هيئة أقلية صغيرة لأدت الى حصول جدلية فكرية خصبة مع الأغلبية الاسلامية، ولأصبحت بعض القطاعات المغاربية أقل دوغمائية وتحجرا وانغلاقا على الذات. ومعلوم انه كان للمسيحية حضور كبير في تلك المنطقة قبل الفتح العربي الإسلامي لها. بل ان أحد آباء الكنيسة الكبار، القديس أغسطينوس، هو من أصل جزائري أمازيغي..فهناك ولد في القرن الرابع الميلادي وترعرع واصبح أسقفا لمدينة هيبون التي تدعى عنابة اليوم.. ويعتبر من كبار المفكرين في التاريخ البشري ومن أشهر كتبه: «الاعترافات»، و«مدينة الله». انه عالم لاهوت وفيلسوف افلاطوني كبير في ذات الوقت..

أما المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه فقد كتب صفحات مضيئة عن الموضوع في كتابه الأخير الصادر قبل فترة في العاصمة الفرنسية، الذي دخل قائمة أفضل المبيعات في مكتبات باريس. يقول دوبريه بعد جولة طويلة في المنطقة وتحريات واسعة على ارض الواقع ومقابلات عديدة مع مختلف الشخصيات والتيارات الدينية والسياسية: «إن المسيحيين العرب هم جسر بين الشرق والغرب، بين العالم العربي وأوروبا. انهم وسطاء الحداثة وفتاحو النوافذ على الخارج وتياراته الفكرية. فهم الذين أسسوا الاحزاب الشيوعية والقومية والحركات التقدمية العلمانية في المنطقة. وهم الذين أسسوا الصحف والمطابع والفرق الموسيقية. وكانوا في طليعة التمرد ضد الاستبداد العثماني سابقا والاستعمار الغربي لاحقا. وبالتالي فدرجة حضارة المسلمين العرب تقاس بمدى انفتاحهم على المسيحيين العرب وتقبلهم لهم أو عدم تقبلهم. وأخشى ما نخشاه هو ان تؤدي التيارات الاصولية المتعصبة السائدة حاليا الى هجرتهم بشكل جماعي كما يحصل للمسيحيين العراقيين وسواهم».

لقد حاول المعلم بطرس البستاني ،الذي يمكن اعتباره رائد التنوير العربي، ان يحل المشكلة الطائفية التي كانت تعصف بالمنطقة آنذاك مثلما تعصف بها حاليا عن طريق طرح الشعار التالي: الدين لله والوطن للجميع. واتخذ من هذه العبارة شعارا يضعه على رأس الجريدة التي أسسها عام 1860 تحت عنوان: «نفير سوريا». ثم انتشرت هذه العبارة لاحقا وأخذها عنه الزعيم الوطني سعد زغلول لتوحيد كلا شقي مصر الإسلامي والمسيحي، كما وأخذتها مختلف الاحزاب التقدمية العربية. ولكن للأسف فان الشعار ظل شعارا فارغا غير قادر على الترسخ في الارض. وظلت العصبيات الطائفية والمذهبية هي سيدة الموقف وتهدد الوحدة الوطنية بالحرب الأهلية في كل لحظة.

هذا لا يعني ابدا ان الشعار خاطئ ولكنه لا يزال سابقا لأوانه حتى بعد مائة وخمسين سنة على اطلاقه من قبل البستاني! وقد كان لبطرس البستاني الفضل في تأليف الموسوعات والقواميس العربية وادخال العرب في الحداثة التربوية وأول من دعا الى تعليم البنات.

ثم جاء بعده يعقوب صروف الذي أسس مجلة المقتطف التي لعبت دورا كبيرا في ادخال النظريات العلمية والفلسفية الى العالم العربي. وهو بعملية النقل الواسعة هذه أدى الى تغذية لغتنا العربية بالمصطلحات والكلمات والتراكيب الجديدة التي كانت بأمس الحاجة اليها. لقد أسسها عام 1899 مع فارس نمر وأصبح من خلالها الاستاذ الاكبر للعرب. فعلى صفحاتها خاض يعقوب صروف مع آخرين معركة الحداثة الفكرية ضد المنغلقين على أنفسهم داخل عقلية العصور الغابرة. لقد أفهم العرب انهم لن يدخلوا العصر ولن تكون لهم مكانة بين الأمم اذا لم يأخذوا بأسباب المنهج العلمي التجريبي الذي صنع مجد اوروبا وتفوقها. لقد علمنا يعقوب صروف كيف نبحث عن الحقيقة من خلال العلوم التجريبية لا من خلال التأملات التجريدية او العقائد الدوغمائية المنفصلة عن حركة الواقع والحياة.

أما فرح أنطون فقد كان من أبرز التنويريين العرب في ظل الدولة العثمانية التي كانت بلغت ذروة الاستبداد والتخلف في نهاية عهدها. وقد تأثر بأفكار ونظريات أقطاب التنوير الاوروبي من أمثال: جان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو وارنست رينان وكل أولئك العباقرة الذين دشنوا الحداثة الفلسفية والسياسية وأخرجوا أوروبا من عصر الجهالات والاصولية المسيحية المتعصبة. ولم يكن ملحدا على عكس ما أشاعوا عنه لانهم ، كاليوم، ما كانوا يعرفون الفرق بين الالحاد والعلمانية. هذا وقد كان فرح انطون منفتحا على الاسلام وتراثه العقلاني والأدبي من خلال تأثره بالعظماء الكبار من أمثال ابن رشد والغزالي وابن الطفيل وعمر الخيام وآخرين عديدين.

يعتمد هذا المقال على كتابي ريجيس دوبريــه «طيبـــو الأرض المقدسة و المسيحيون في العالم العربي».