حينما يحبل الرجال في بلاد الأفشطافوش

كاتب مصري نوبي في رواية ساخرة مهداة إلى كل «الخيبات العربية والمصرية والنوبية»

TT

«أنا اعترف يا حفيدي العاطل، ان كل أعياننا وعمد قرانا الحاليين أفشطافوش. لا تعلم معنى أفشطافوش؟ الأفشطافوش هو كل من لا قيمة له يا حفيدي الأفشطافوش من ناحية أبيه». هكذا يشرح الجد العجوز، الراوية المخضرم الذي عاش وشاف كل عجائب بلاد التعبانين والمسطلين، لحفيده المستمع. وستتكرر هذه الـ «من ناحية أبيك» في كل توبيخ يصدر عن العجوز، الذي لا يقيم لزوج ابنته شأنا، لابن أبيه المتذاكي.

يحبك لنا الكاتب المصري النوبي حجاج أدول، في روايته الساخرة كل عناصر الرواية الحكواتية الجميلة. فهي حكاية واحدة من قرى النوبة عن المخنث «انجيلة»، الذي يجيئه المخاض في بلاد الأفشطافوش، تتخللها العديد من الحكايات الشعبية والأحداث القديمة والأساطير النوبية التي يسردها الجد على حفيده. هي حكايات تكمل بعضها، تتداخل وتتفرد، تتقاطع وتتواصل، لتشكل بنية الرواية. ويطور الكاتب شخصياته ويحبك الحكايات الصغيرة وينسجها، في سلسلة تذكر بسلسلة «ستانسلافسكي» في نظريته حول إعداد الممثل للدور.

وبأسلوب سردي محبب يعكس لنا الكاتب مجتمعا فهلويا كاملا، بكافة شرائحه، من مجتمعات زمان في إحدى قرى النوبة الواقعة على النيل. ولا يحتاج القارئ إلى جهد ليكتشف ان مجتمع الأفشطافوش، الذي هو موضوع الحكاية، هو مجتمع مصر القائم اليوم على نفس النهر العظيم. ولا يترك الكاتب مجالا للشك من البداية، فيقول في مطلع الرواية:«أنا سوف أحكي لك وأشرح كيف أن الحكاية الخرافية القديمة بعثت حقيقة على أيامنا النبيلة هذه، وبحذافيرها. وكأن أسلافنا الخبثاء تنبأوا بأن سلالتهم النوبية ستنتكس نكسة ونكسات وستكون سلالة مخجلة يتفرج عليها ناس الجربتية (غير النوبيين) الذي يسوى منهم والذي لا يسوى، وانه سوف يحصل لها ما يحصل الآن».

وتدور الحكاية، التي يستهلها الكاتب من المنتصف، حول الخال المخنث انجيلة الذي تخبره خريبة المجبراتية بأنه حامل. وتلقى القصة تصديقا واهتماما، من الحشاشين والتنابلة وهواة الفضائح ومشجعي «المعارك الشارعية»، قبل غيرهم من العاملين بالطبع، بسبب ميوعة الخال، ارتدائه الملابس الداخلية النسائية وصيته «كخول» بين سكان القرية. وتستمر الحكاية وتتشعب، يتدخل بها العمدة ومن ثم مجلس العشائر، وتقود إلى معارك ثانوية أخرى ثم تنتهي بالقارئ حيث بدأت: لا نعرف أن كان انجيلة حاملا فعلا أم ان انتفاخ بطنه صدر عن «غازات ساخنة» أم عن إمساك. لا نعرف من هو والد «الجنين» رغم الاتهامات الموجهة إلى هذا الشاذ أو ذلك الحشاش. هل هي مزحة كلبية من خريبة المجبراتية؟ اسطورة نوبية قديمة؟ لا يجيب الكاتب عن هذه الأسئلة لأنه يصور مجتمعا «عقيما» بحد ذاته ولا يمكن لمخاضه، سوى أن ينجب أوهاما. وهكذا يتمخض انجيلة، البدين كالجبل، في النهاية، وتسخن النسوة الخبيثات الماء استعدادا للولادة، ولا ينجب «نصف الرجل ونصف المرأة» حتى فأرا.

ولو حللنا الشخصيات الذكرية الأساسية في رواية «خالي جاءه المخاض» لوجدنا مجموعة من الكسالى والتنابلة والحشاشين والأفشطافوش. فالرجل الحامل مشكوك بذكوريته ولا أطفال له، صهره زراج كسول لا يقوى على زوجته، العمدة المكرش لا قيمة له، الشيخ الرملي مشغول بهمومه الجسدية والمالية وبتأليب المراهقين على التطرف الإسلامي، تومبيلة العجوز، العنين، ينافس حفيده على حب سادة بنت ظريفة ويخوض معركة شارعية دامية مع أنجيلة الذي لم ينفه له عن بعض دوافع شذوذه، أبو سن دهب وأبو سن فضة خبيثان، حشاشان وشاذان يشك البعض بأبوة أحدهما للجنين المفترض، الخواجة كلودا، الناشط الوحيد بين شخصيات الرواية الأساسية بالعمل، يسعى مع شغيلته لحفر بئر، لم ينته حفرها طوال الرواية، ولم تخرج للناس قطرة ماء. بل ان الشكوك تشمل الراوية العاطل نفسه بعد أن يلاحظ نظرات حفيده الخبيث ترمقه وهو يتحدث عن والد الجنين.

ونساء النوبة في الرواية، وسبق لحجاج أدول ان كتب دراسة عنهن، نساء قويات، لا يحترمن أفشطافوش ولا عمدة، وخبيثات. فنخلة، زوجة أنجيلة، تحاول ابتزاز زوجها المتاجر بالبانجو، كي تتستر على فضيحته الأنثوية، ولا تتورع عن كيل الشتائم للعمدة ودس أشواك سعفها في أعين الجيران. سفورة لا تحترم زوجها ولا أخاها ولا هم لها سوى اعمال البيت. دهيبة الطرية لا تخجل من أحد وتتلذذ بالفضائح الجنسية، وبخيتة المجبراتية الخبيثة التي توحي لأنجيلة بسماع قلب الجنين.

هذا هو مجتمع القرية النوبية العتيقة التي أراد لها الكاتب أن تمثل المجتمع المصري اليوم. رجال عاجزون، نساء مسترجلات، فضائح جنسية، وأطفال يتناقلون أخبار الفضائح:«صياح اشتعل. الأطفال كلهم والرجال الذين على شيء من الوعي يتكلمون أي كلام. والنسوان كلماتهن تختلط بضحكهن فتتشابه بمأمأة الماعز. والرجال المخدرون تماما لا يكادون يفقهون الحديث على انه حديث يستمعون. الجميع صار جمعا من الخرس يخاطب جمعا من الطرشان. وجمع ثالث من القرود يتقافزون».

اطلع حجاج أدول بعمق على تاريخ مصر المملوكي ونسج منه روايته الناجحة «خوند حمرا»، وغاص في أعماق الأساطير النوبية ليكتب «الكشر»، غير ان شخصياته في الروايتين كانت مبتدعة من مخيلته على طول الخط. لكني اشك بعدم وجود أصول، أو نماذج مماثلة، لشخصيات «خالي جاءه المخاض» في ذاكرة الكاتب النوبية الغارقة في مياه النيل. بل أكاد أجزم بأن لهذه الشخصيات أصولا عراقية في حي بصري عريق ولدت أنا فيه. فمعظم الشخصيات والأحداث لها مثيلاتها في حينا في البصرة القديمة على أحد فروع شط العرب. هل هو النهر؟ هل تطبع الأنهار ناسها ببصمات متشابهة، وأحاديث مماثلة، وأساطير متقاربة؟ أم أن تاريخ البصرة الزنجي، والتقاليد والثقافات الزنجية التي نقلها العبيد في العصر العباسي إلى جنوب العراق، هي السبب؟

على أية حال فالمعارك الشارعية بين النساء، بين الرجال والنساء، خصوصا معركة انجيلة مع تومبيلة ومعركة انجيلة الاستعراضية مع زوجته نخلة، ما زالت لها أصول بصرية في ذاكرتي كطفل. في حينها، كانت معارك «أم خزنة» مشهورة مع نساء ورجال الجيران بسبب الأطفال الملاعين. وهي معارك لها جمهورها ويترك العاملون أشغالهم للتمتع بها، خصوصا إذا ما ترافقت بشد الشعر وتمزيق الثياب وظهور اللحم.

تمتعت كثيرا بقراءة الرواية، وكنت أستعيد مشاهد المعارك الشعبية والفضائح العائلية الصغيرة في البصرة كلما بلغت إحدى الحكايات ذروتها. وكنت استذكر وجه الكاتب حجاج أدول وعينيه الذكيتين الضاحكتين وتعليقاته الساخرة كلما وبخ الجد الراوية حفيده بسبب التماعات عينيه المشحونة بالأسئلة الفضولية. فالحفيد في الرواية لم ينبس بشفة، وكان الجد يقرأ انفعالات حفيده من عينيه الذكيتين وعلامات الاستفهام التي يرسمها وجهه، وحركة جسمه ويديه. يرصد الراوية كل خلجة من خلجات الولد ويصب جام غضبه على جيل الشمال السكندراني الذي أنجب هذا الحفيد الخبيث، «من ناحية أبيه» بالطبع.

صدرت الرواية عن دار الحضارة للنشر في القاهرة، وهي رواية قصيرة في 72 صفحة من القطع المتوسط. والرواية مهداة من الكاتب إلى «الخيبات العربية والمصرية والنوبية».

* خالي جاءه المخاض

ـ المؤلف: حجاج أدول

ـ الناشر: دار الحضارة للنشر في القاهرة