جائزة نوبل كرّمت لو كليزيو أقل الكُتّاب الفرنسيين فرنسية

الأديب المتواضع الذي نحر الثرثرة بهدوئه

TT

على الرغم من أن الروائي الفرنسي الكبير لو كليزيو كان مُرشَّحا بقوة للفوز بنوبل، قبيل إعلان النتيجة، فقد كان الكثيرون من الكتاب والنقاد الفرنسيين لا يصدقون الأمر أو يستكثرونه. ويمكن أن نعزو الأمر لأسباب عديدة منها أن الكثيرين، خصوصا من أقرانه، لم يكونوا يؤمنون بأهمية الرجل في المشهد الروائي الفرنسي، كما ان «غيابات» الروائي الطويلة، عن الصخب الثقافي الباريسي وعن دسائس وكواليس المجلات والملاحق الثقافية، ساهمت في رسم صورة غير مألوفة عن الروائي وأضفت عليه طابعاً من الغرائبية، وكأنه قادم من عالم آخر. لكن لو كليزيو نالها، وأصابت لجنة جائزة نوبل الاختيار، إذ كرّمت الأديب المثابر والصامت وتركت أصحاب الضوضاء لضجيجهم وغيظهم.

كان جان ماري غوستاف لو كليزيو (الذي ولد في مدينة نيس سنة 1940)، الذي يعيش متنقلا بين قارات عديدة، بعيداً عن أن يُشكّل الإجماع من حوله. خصوصا أن الكثيرين لا تروقهم كتاباته ولا بُعدُها السياسي أو الثقافي أو الأنثروبولوجي. وهو ما دفع الكثيرين إلى اعتباره «لا يشبه الصورة التي تحيل إليها صورة الروائي الفرنسي». ولأنه لم يندرج، يوماً، في قبيلة أدبية ما، أو تيار بعينه، وفضّل السفر والترحل، بمعناه الكتابي من حيث تغيّر أساليبه في مختلف مؤلفاته، أو بمعناه الجغرافي من حيث تنقلاته ما بين المكسيك، التي يعترف بأنها «غيّرت حياته جذرياً وكذا أفكاره عن عالم الفن»، إلى المغرب العربي، حيث كتب عنه روايته المذهلة «صحراء»، وتزوج من امرأة تتحدر من الساقية الحمراء (الصحراء الغربية) وإلى بنما وإنجلترا وتايلاند، فإنه لم يكن معنياً بما سمّاه مرة فيليب سوليرز بـ «عفونة الأدب الفرنسي»، أو الضحالة التي يعرفها الأدب الفرنسي الراهن حسب الصحافة البريطانية (وبشكل متكرر «تايمز»). ولعل حالة الثقافة الفرنسية، اليوم، لا تبعث على الارتياح، إذْ ان الكتابة الفرنسية أو الفرانكوفونية، عموماً، لم تعد تجد رواجاً عالمياً، عدا الكتابات التي تمزج الإثارة والاستفزاز مع الغواية، كما هو حال ميشيل ويلبيك.

كان الفرنسيون ينظرون مذهولين إلى جوائز نوبل وهي تروح إلى لغات وثقافات أخرى، وتستثنيهم عدا الجائزة التي حصل عليها المنشق الصيني (سنة 2000)، والحاصل على الجنسية الفرنسية (سنة 1998)، جاو كسينغجيان، والتي لم تحرّك كثيراً من الانفعالات، كما كان عليه الشأن سنة 1985 مع كلود سيمون، من مؤسسي الرواية الجديدة في فرنسا. ولم تكن ثمة من أسماء قادرة على فرض نفسها أمام الأكاديمية السويسرية على الرغم من العدد الهائل من الكتاب الفرنسيين، وذلك الكم الهائل من الروايات التي يعرفها الدخول الأدبي الفرنسي كل سنة. ولعلّ باتريك موديانو، يظل الروائي الفرنسي الوحيد الذي يحظى بإجماع منقطع النظير في المشهد الثقافي، لكنه لم يدقّ باب الجائزة. تعرض لو كليزيو للعديد من الانتقادات والحجب، لكنه كان ينبعث من جديد، معتمدا على طاقة كبيرة في الصبر وفي الابتعاد عن الغرور. «كان متبرّما من قلة الوقت المتبقي له ( في حياته)»، وهو ما صرّح به سنة 2006 لمجلة «لوبوان الفرنسية»، وكأنه كان يستعجل الجائزة.

يتميز لو كليزيو بتنوع كتاباته واشتغالاته الأدبية، من رواية وقصة ومقالة ودراسة وتاريخ وترجمة. اشتغل على «هنري ميشو»، الشاعر البلجيكي وأعدّ أطروحة مهمة عن تاريخ منطقة في المكسيك، كما انه لم يكن يتورع عن كتابة مقالات وقراءات لنصوص أصدقائه، ومن بينها النص الرائع المكرّس عن صديقه الروائي المغربي الطاهر بن جلون، الذي سبق لنا أن قمنا بترجمته، وهو نصّ يتحدث عن إعجابه به، على منوال مقالة «ما أَدِينُ به للخطيبي» التي كتبها رولان بارث. الوفاء للأصدقاء ميزة من مزايا هذا الكاتب الذي تجعله لا يدخل في مهاترات وخصومات وسجالات تشهدها الصحافة الثقافية الفرنسية دونما انقطاع.

إن وفاءه لأصدقائه، وهم من آفاق وثقافات وجنسيات مختلفة، وأيضا إحساسه المستمر بأنه لا ينتمي إلى بلد معين، اللهم إلا إلى بلد «اللغة الفرنسية»، جعله لا يتورع عن توجيه انتقادات لاذعة للغرب، إنْ من خلال ماضيه الكولونيالي المدمر أو من خلال حاضره التدميري أيضا للبيئة وعدم تعويضه الاقتصادي للبلدان التي تعرضت للاستعمار.

يقول في حوار مع مجلة «تيليراما»، بخصوص موقفه من الاستعمار: «أنا أنتمي إلى الغرب الكولونيالي، ليس في الأمر من شك. عائلتي استعمرت جزيرة موريشيوس في نهاية القرن الثامن عشر. يتعلق الأمر باستعمار بريطاني، ولكنه نفس الشيء- ويوجد، بالتأكيد، بعض تجار العبيد من بين أجدادي. إن جيلي، بالتأكيد، لم يشارك في الاستعمار، ولكن كان شاهداً على لحظاته الأخيرة في المغرب والجزائر وأفريقيا الغربية، في كل مكان من العالم». ويضيف: «في جزر الأنتيل، لا يزال بالإمكان سماع رجال بيض يتحدثون عن السود باعتبارهم أطفالاً كباراً خاملين ومترددين. الأمر رهيب. يتوجب القيام بمجهود حول الذاكرة، وهنا لا يتعلق الأمر باللجوء إلى قوانين ومراسيم من أجل كتابة التاريخ. كما أنه لا يتعلق باستخدام مصطلحات كبرى، من قبيل الإبادة. بكل بساطة ثمة مسؤولية للمُستَعْمِرين إزاء هذه الدول الصغيرة، المستعمرات القديمة التي تعيش اليوم على الصدقات الدولية. يتوجب على فرنسا أن تقود إلى عصر النضج هذه الدول التي عملتْ، خلال فترة طويلة، على تركها في الطفولة».

وعلى الرغم من أن الكثيرين يرون اهتماما كبيرا للو كليزيو بالمسألة البيئية والدفاع عن الطبيعة، فهو يصرّ على هذه الحقيقة: «لستُ رائدا في الدفاع عن الطبيعة، فقد سبق للروائي كونراد أن تطرق إلى النهب والتدمير اللذين التجأ إليهما المستَعْمِرون في الأماكن التي احتلوها، والغياب المطلق للاحترام».إن النظرة التي يسلطها جون ماري لو كليزيو على الإنسان، في رواياته، تلخص غموض الاعتبارات حول الهويات وتشهد أيضاً على وحدة النوع من دون نفي تنوع الثقافات: الوحدة والتنوع اللذان يوجدان في قلب كل تمفصل سوسيو ـ ثقافي في جزيرة موريشيوس التي طبعها آل لو كليزيو وأجدادهم ببصماتهم التي ستظل إلى الأبد الفردوس المفقود لهذا الكاتب.

وحين يُسأل لو كليزيو عن إمكانية توصيف أعماله بالسرية والفلسفية والإيكولوجية، يجيب: «حين أكتب أبحث بشكل جوهري عن ترجمة علاقتي باليومي وبالحدث. إننا نعيش في عصر مضطرب حيث تجتاحنا فوضى الأفكار والصُّوَر. إن دور الأدب، اليوم، هو ربما إرجاع الصدى لهذه الفوضى» ولأن ثمة من يعتبره كاتبا عصيا على التصنيف. يكتفي بالقول: «لا يضايقني هذا الوصف. أرى أن ميزة الرواية الأساسية هي أن تكون عصيّة على التصنيف، أي أن تكون نوعا متعدد الأشكال يساهم في نوع من التهجين، وامتزاج الأفكار الذي هو انعكاس، في نهاية المطاف، لعالم متعدد الأقطاب.»...هل يكتب لو كليزيو رواية أوتوبيوغرافية، أو نوعا من التخييل الذاتي الذي بدأ ينتشر في نصوص الروائيين اليوم؟ يبدو جوابه بعيدا عن الأمر: «روائياي المفضلان هما ستيفنسون وجيمس جويس. إنهما يمنحان إلهامهما من سنوات وجودهما الأولى. عبر الكتابة يعودان إلى ماضيهما ويحاولان أن يفهما «لماذا» و«كيف». حين نقرأ عوليس لجويس يتملكنا شعور حقيقي بأن قصد جويس ليس هو حكاية اللحظة الراهنة، ولكن في قول كل ما يوجد في داخله وكل ما ساهم في تكوينه. إنه يقوم باستعادة أدقّ أصوات الشارع ومَقَاطع من الأحاديث والعقوبات الجسدية التي تعرض لها في المدرسة والتي لا تزال تسكنه كفكرة متسلّطة. الروائي نايبول، هو الآخر، يعود إلى متخيَّل سنوات تكوينه الأولى. إن الأدب لا يكون قويا إلاّ حين ينجح في التعبير عن الإحساسات الأولى والتجارب الأولى والخيبات الأولى».

ولأن البعض كان يتوقع لكاتبنا حصوله على جائزة نوبل، قبل فترة طويلة من تحقق الأمر، فقد سئل عن ما سيتلفظ به في خطاب استلام الجائزة، فكان ردّ لو كليزيو الصادق والملتزم: «إنه سؤال افتراضي، لا أعرف شيئا عن مصير جائزة نوبل، ولكني أعرف ما أُحبّ أن أتحدث عنه أمام جمهور. أريد أن أتحدث عن الحرب والأطفال. إنها بالنسبة لي الشيء الرهيب في عصرنا. الأدب هو أيضا وسيلةٌ للتذكير بهذه المأساة ووضعها أمام المشهد. تمّ أخيرا وضع أقنعة على تماثيل نساء من أجل إدانة غياب حرية المرأة في أفغانستان. الأمر جيد. بنفس الطريقة يتوجب طبع كل تماثيل الأطفال بلطخة حمراء كبيرة مكان القلب من أجل التذكير أنه في كل لحظة، في مكان ما من فلسطين وأميركا اللاتينية وأفريقيا، يُقْتَل طفلٌ بالرصاص. لا نتحدث عن هذا الأمر أبدا». الكتابة فعل فرديّ، بامتياز، وهو ربما من بين أسباب انعزال الكاتب. يتحدث بيان الأكاديمية السويدية، في تبرير فوز لو كليزيو بالجائزة عن كاتب «القطيعة». والحقيقة أن «القطيعة» التي أحدثها مع مُجايليه وأنداده شبه مطلقة، إذ أنه لا يشبه أحدا من كُتَّاب فرنسا الحاليين (حتى إن البعض لا يعتبره فرنسياً)، لا في أسلوبه ولا في طريقة حياته ولا في التزامه ومواقفه. ولأنه يترفع ويسمو على «الهويات القاتلة»، فهو يستحق بجدارة هذا التتويج.

يقول لو كليزيو: «أود أن أؤمن بالحبّ باعتباره قيمة فردية، فهو وحده القادر على إفشال أنظمة النهب والاستبداد الجماعية». وليس ثمة شك في أنّ أعماله بالفعل ساهمت في فضح عمليات النهب والاستبداد الجماعية.