لوكليزيو.. النزعة الإنسانية الكونية

اختياره جاء في لحظة انهيار الرأسمالية الغربية وانكشاف فضائحها المصرفية اللاأخلاقية

لوكليزيو
TT

منذ البداية سوف أخاطر بالاطروحة التالية: نحن العرب نلنا ايضا جائزة نوبل من خلال الكاتب الفرنسي لوكليزيو. أليست زوجته تدعى «جمعة» ومن اصل مغربي؟ ألم يؤلف معها كتابا جميلا جدا عن الصحراء الغربية، مسقط رأسها او موطن عائلتها الاول؟ ألم يفتتح كل فصل من فصوله بمقطع من مؤلفات المتصوف الإسلامي الشهير: جلال الدين الرومي؟ فماذا نريد اكثر من ذلك؟

لكي أفاقم من تعريب لوكليزيو او تقريبه الينا اكثر فاكثر فسوف أتساءل: ألم تلهمه الصحراء المغربية اجمل رواياته باعتراف جميع النقاد قاطبة؟ انها رواية «صحراء»، رائعته الادبية الكبرى الصادرة عام 1980. ماذا تريدون اكثر من ذلك؟ لوكليزيو عربي ايضا في نصفه الآخر او أمازيغي بربري من بلاد مجهولة منسية، بلاد قاسية جميلة، بلاد الرجال الاحرار والنساء الجميلات القاتلات اللواتي يصعب ان تخرج من حبهن سليما معافى. ألم يقل جرير فيهن بيته الشهير:

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله انسانا

وليس ابو الطيب المتنبي، سيد البيان العربي، هو من سيعارضني في هذا الاتجاه:

أفدي ظباء فلاة ما عرفنا بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ومن هوى كل من ليست مموهة تركت لون مشيبي غير مخضوب لكن ليسمح لي المتنبي ان أعارضه بعض الشيء وأقول له: لا بأس في ان نضيف الى نقاء البداوة بعض ملامس الحضارة والماكياجات الحديثة والحمرة والبودرة والعطور وعندئذ تتحول البدوية الى قنبلة موقوتة.

اياك ان تعشق صحراوية او بدوية، انها تذبحك ذبحا! أقصد تنعشك وتحييك وتجعلك اكبر كاتب في العالم. بل وتقودك مباشرة الى جائزة نوبل..شكرا «لجمعة» اذن وللجمال العربي البربري البدوي الصحراوي الذي يتفوق على الجمال الفرنسي ويعلو عليه..

لكن لنكن جديين اكثر ولنطرح هذا السؤال من اجل توسيع الاشكالية: لماذا أعطت أكاديمية ستوكهولم الموقرة التي تجعل فرائص الكتاب ترتعد كل عام قبل اعلان النتائج، أقول لماذا أعطت جائزة نوبل لهذا الكاتب المتوحد الغريب الاطوار البعيد عن الاضواء والاستعراضات الفهلوية لمشاهير الكتاب؟ لانه كاتب القطيعة والمغامرة الشعرية والنشوة الحسية، مستكشف البشرية فيما وراء الحضارة السائدة وتحتها.

هذا هو كلامها بالنص الحرفي.

هل اصبح هؤلاء السادة الموقرون شعراء كبارا؟ من اين أتوا بهذا الكلام الرائع؟ هل هم من جماعة آرثر رامبو او لوتريامون؟ لكن ما معنى القطيعة هنا؟ البعض يقولون بان الجائزة ما كان بامكانها ان تختار افضل من لوكليزيو في هذا الوقت. انه الرجل المناسب في المكان المناسب. فاختيارها له جاء في لحظة انهيار الرأسمالية الغربية وانكشاف فضائحها المصرفية اللاأخلاقية. ومعلوم ان لوكليزيو قطع معها وأدار ظهره لها منذ زمن طويل. وفضل عليها الحضارات البسيطة والبدائية للهنود الحمر او لسكان الصحارى الغربية..ومعلوم ايضا انه عاش بين عامي 1970 ـ 1974 مع الهنود الحمر في غابة متوحشة، بدائية، بكر، لم تمسسها يد الحضارة قط.. وكان ذلك في جزيرة باناما. يقول عن هذه القصة: انها تجربة غيرت مجرى حياتي. لقد غيرت افكاري عن العالم والفن وطريقتي في العيش مع الآخرين، وكذلك طريقتي في المشي والاكل والنوم والحب وحتى احلامي.

ليس غريبا اذن ان يعجب ايضا بالعالم البدائي للصحراء الغربية، عالم البدو الرحل والحياة البسيطة العفوية. والواقع ان الحنين الى العوالم البدائية يسكن كل جوارحه. والهرب من العالم العقلاني، الحسابي، البارد، للحضارة الغربية، عالم الاوراق المالية والبنوك، كان دائما هاجسه.

يقول لوكليزيو في بعض تصريحاته مستشهدا بكلمة للعالم ادمون روستان: الحقيقة لها طعم الانتقام! والواقع ان كتاباته ما هي الا تصفية حسابات مع الذات او مع الآخرين او مع العنصرية والنزعة الاستعلائية الكولونيالية بشكل خاص. وقد وصلت به الصراحة الى حد الاعتراف قائلا: لا أزال أتذكر الاقوال العنصرية او المعادية للسامية والتي سمعتها في طفولتي من عائلتي القريبة والبعيدة. فعلى الرغم من كل ما حصل من فظائع اثناء الحرب العالمية الثانية والمأساة الجزائرية الا انهم لم يتعلموا شيئا ولم يستخلصوا الدروس والعبر. وهذا ما يقلقني. ولذلك فان رواياتي ما هي بشكل من الاشكال الا تصفية حسابات مع كل ذلك. عندما يسمع المثقفون العرب هذا الكلام يصرخون قائلين: برافو! انه يعترف بعنصرية الغرب واستعماره. ونحن نؤيده في ذلك ونعجب به. ومعهم الحق. ولكن لا أحد يتوقف لحظة لكي يتساءل: لو كان لوكليزيو عربيا ماذا كان سيفعل؟ هل تعتقدون انه كان سيقف مكتوف الايدي امام الاقوال العنصرية والطائفية والمذهبية التي تكتسح العالم العربي حاليا؟ هل كان سيوافق على الايديولوجيا القومجية الاصولية التي تكتسح الشارع العربي من المحيط الى الخليج؟ ماذا يقال في الفضائيات العربية عن اليهود والمسيحيين بل وحتى عن المذاهب الاسلامية الأخرى؟ من احتج على الزرقاوي عندما هاجم شيعة العراق واتهمهم بالروافض ودعا الى ذبحهم؟ من يدافع عن سنة ايران؟ من يدافع عن أقباط مصر؟ الخ.. وبالتالي فلنكنس امام بيتنا ايها الاصدقاء قبل ان نتهم الآخرين. ولنأخذ درسا من لوكليزيو الذي انفصل عن القطيع وأدان جماعته وتحمل مسؤوليته كاملة. هل تعتقدون انه كان من السهل عليه ان يمشي ضد التيار؟ لقد كان الشارع الفرنسي مهيجا ضد العرب بشكل خاص ابان حرب الجزائر الشرسة. وما كان من السهل على المثقف الفرنسي ان يخرج على رأي الجماعة ويدين هذا التوجه. ولكن لوكليزيو انفصل بكل جرأة وأدان النزعات العنصرية البغيضة بالاضافة الى سارتر بالطبع وآخرين عديدين. وهؤلاء هم الذين يمثلون شرف الشعب الفرنسي ويجسدون في شخوصهم وكتاباتهم المبادئ الاخلاقية والنزعة الانسانية العميقة. صحيح ان الآخرين اتهموهم بالخيانة القومية لفرنسا كما يتهم اليوم المثقفون الاصوليون والقومجيون أي شخص يخرج عن الايديولوجيا المسيطرة في العالم العربي بخيانة ثوابت الأمة! لكن هذا هو قدر المثقفين النقديين الاحرار في كل الأمم والشعوب.

لهذا السبب بالذات أشعر بالسعادة لان كاتبا كبيرا مثل لو كليزيو حظي أخيرا بجائزة نوبل للآداب. انه يستحقها وأكاد أقول يشرفها اكثر مما تشرفه. إن الاديب الذي لا يتجرأ على نقد جماعته وأمته لا يمكن ان يكون كاتبا كبيرا. من السهل ان تنقد الآخرين وتمضي كل وقتك في شتم الاستعمار والصهيونية والامبريالية والعنصرية.

لكن من أصعب الصعب ان تنتقد العنصرية والطائفية داخل جماعتك وأمتك العربية الاسلامية. لهذا السبب فانه يزعجني كثيرا واشعر بالملل الى درجة الغثيان عندما أسمعهم يشيدون بمواقفه ضد الاستعمار الفرنسي والعنصرية الغربية دون ان يستنتجوا من ذلك أي شيء نقدي بالنسبة للعالم العربي الذي يعاني من امراض مشابهة لا تقل خطورة. بل انها تزيد. وهي امراض اصبحت تهدد الوحدة الوطنية لاكثر من بلد عربي. ومع ذلك فلا أحد يتجرأ على تفكيكها او حتى الاشارة اليها بالبنان مجرد اشارة. قال لي احدهم من الغوغائيين: عن أي طائفية او عنصرية تتحدث ايها الرجل؟ شعبنا ليس عنصريا ولا طائفيا. شعبنا بريء من كل ذلك. نحن لا نعاني من شيء ولا نشكو من شيء. فقط الحق على الحكام والأنظمة.. هذه اشياء غريبة عنا كل الغرابة.. قلت له: وهل شعوبنا من الملائكة وبقية شعوب الارض من الشياطين؟ ثم أضفت: بمثل هذه الاقوال وهؤلاء المثقفين او بالاحرى أشباه المثقفين لا يمكن ان يتقدم العرب خطوة واحدة الى الامام. عندما سألوا لو كليزيو: ما رأيك بالعلاقات بين الغرب والعالم الثالث؟ والمقصود طبعا العالم العربي الإسلامي، أجاب: لا أعتقد انه سيحصل صدام. أكره صموئيل هانتنغتون ونظريته عن صدام الحضارات. وقد ألفت كتابا بعنوان: ضد صموئيل هانتنغتون. لكني تراجعت عن نشره في آخر لحظة لانه كان هجوميا اكثر من اللزوم. ينبغي ان يعلم هانتنغتون وكل مثقفي اليمين الغربي المتطرف ان الثقافات مختلطة، هجينة بالضرورة، ومتأثرة ببعضها بعضا. ولا أحد يستطيع ان يمنع اختلاط الثقافات او تفاعلها مع بعضها بعضا. فنحن أثرنا في العرب والمسلمين وهم أثروا فينا. والحداثة اصبحت ايضا يابانية وكورية وصينية وهندية مثلما هي اوروبية واميركية. انتهى كلام لو كليزيو. كنا نتمنى لو انه أضاف: وعربية، لكنه لم يفعل لان الحركات السلفية الظلامية تسد عليه الافق وتمنعه من ذلك..

كتابه القادم سيكون عن المجتمع في جزيرة موريشيوس العزيزة على قلبه. انه يمثل تصفية حسابات ايضا مع ذلك المجتمع الذي كان كولونياليا، عنصريا، استغلاليا، طبقيا، يعزل الناس عن بعضهم بعضا بحسب درجة غناهم او فقرهم، او بحسب سحنة وجوههم ولون شعورهم..من هنا اعجاب الكثيرين بمثاليته ونزعته الانسانية العميقة التي لا تنبذ أحدا لانه مختلف عنا في الاصل والفصل او العرق والدين والمذهب. ومن هنا ايضا نقده المتواصل للحضارة المادية السائدة في الغرب والتي تقيمك بحسب درجة حساباتك في البنك: فاذا كنت تملك مليون دولار فانك شخص عظيم حتى ولو كنت من أحقر البشر. واذا كنت لا تملك اكثر من ايجار الشهر فانك لا تساوي شيئا حتى ولو كنت من أنبل البشر.. ربما كنت أبالغ قليلا او أعطي صورة كاريكاتورية عن هذه الحضارة المادية. لكن لا أعتقد اني أجني عليها كثيرا. أقول ذلك على الرغم من اعجابي بها في ما يخص نواحي عديدة. لكن طفح الكيل وقد آن الاوان لكي تدفع الاصولية الرأسمالية الثمن!

في البداية كان جان ماري لو كليزيو متأثرا بالرواية الجديدة على طريقة آلان روب غرييه. لكنه تغير وتطور بعدئذ في اتجاه اكثر روحانية وانسانية مع الميل الى طرق موضوعات من نوع الفردوس المفقود او الحضارات الضائعة التي قضى عليها الغرب كحضارة الهنود الحمر في اميركا.

لو كليزيو: الكاتب المنفي خارج الذات

أعجبتني هذه العبارة الواردة لدى أحد النقاد الفرنسيين المهتمين به. من المعلوم ان لو كليزيو كاتب مولع بقراءة البير كامو. فهل لهذا السبب يشعر بانه «غريب» ليس فقط عن العالم والآخرين وانما عن نفسه ايضا؟ وهل لهذا السبب كانت اطروحته الجامعية مخصصة لموضوع الوحشة او الوحدة في شعر هنري ميشو؟ هل من قبيل المصادفة كل ذلك؟ لكن السؤال الاهم من كل هذا هو التالي: هل كان سيصبح كاتبا كبيرا لو لم يكن منشقا على ذاته، او منفيا عن الذات؟ من السهل ان تكون منفيا عن وطنك او شعبك او حتى اهلك الاقربين. لكن ان تكون منفيا عن ذاتك، ان تشعر انك في كل مكان ولا مكان، ان تبدو عاجزا عن التأقلم مع ذاتك والعالم المحيط، فهنا تبدأ المشكلة. وهنا يبدأ الادب ايضا. الادب هو الجواب الوحيد في مثل هذه الحالة القصوى، وهو العزاء الاكيد. يكفي ان تنظر الى صورة بودلير في المرآة او صورة لو كليزيو هذا دون ان نتحدث عن دوستيوفسكي او بعض الممسوسين الآخرين لكي تعرف الثمن المدفوع مقابل كل حرف يكتب شعرا او نثرا.

في أحد تجلياته يكتب لو كليزيو هذه العبارة: عندما أرخي العنان لنفسي، عندما أستسلم لدهاليزي الداخلية، لعتماتي النفسية، من يستطيع ان ينقذني؟

الجواب عند بودلير او فيرلين او رامبو او لوتريامون او نيتشه او بعض المجانين الآخرين..لا يوجد كاتب له معنى الا ومر بمرحلة التدمير الذاتي للذات، مرحلة الخواء الداخلي والعدمية الفراغية. وبناء على أنقاضها ينهض الادب ويزدهر كأعظم ما يكون. بهذا المعنى فان الكتابة بالنسبة لشخص من عيار لو كليزيو ليست الا ترويضا او تدجينا للهيجانات الداخلية. انها انتصار على الذات لا اكثر ولا اقل. وهي وحدها القادرة على انقاذ الكاتب او تأجيل لحظة الانهيار الى اجل غير مسمى. تحيا الكتابة اذن، يحيا الشعر في الزمن الضنين، كما يقول هولدرلين.