بين أبي وأمي

كريمة الشاعر العربي الكبير تستذكر علاقته بزوجته بمناسبة الذكرى الرابعة لرحيله

TT

د. خيال الجواهري تصادف غداً الذكرى السنوية الرابعة لرحيل الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري الذي رحل في دمشق عام 1997، ودفن في مقبرة الغرباء بالسيدة زينب إلى جانب زوجته التي سبقته.

وبهذه المناسبة، كتبت كريمته د. خيال عن علاقة الجواهري بزوجته «أم نجاح» من خلال بعض قصائده.

في عام 1973 وبعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على زواجهما اهدى الجواهري قصيدته المعنونة «حبيبتي» الى والدتي، وجاء التقديم «إلى التي أفنت شبابها وكهولتها معي صامدة واثقة، مؤمنة في حياة تشبه الاساطير، إلى زوجتي «أمونة»:

حبيبتي منذ كان الحبُّ في سَحَرِ حلو النسائم حتى عقّهُ الشفقُ ومنذ تلاقى جناحان على فننٍ منهُ إلى العالم المسحور ننطلقُ نصونُ عهدَ ضميرينا وبينهما نجوى بها همسات الروح تسترقُ

*** حبيبتي لم تخالف بيننا غيرُ إلاّ وعُدنا لماضينا فنتفقُ ولا أشتكي جانب فرط الجفاف به الا ارتمى جانب. مخضوضر أنِقُ نهش لُطفاً بلقياهم كما انتفضت غُنُ الرياض سقاها الرائح الغدق حبيبتي والهوى، كالناس خلقتهُ تمل ما لم تغاير عنده الخلق ما لذة الوصل لم يلو الصدود به والحب لم يختلس من أمنه الفرق يئست رتابةُ لحن عوده وتر وبئس طعم حياة لونها نسق

*** حبيبتي لم تصرّف زحفنا «صدف» كما يُصرف زحف الركب مفترق ولا أصطفي القدر المضنون رحلتنا كنا لها قدراً يمضي ويستبق سرنا على الشوك يُدمينا ونألفه وفي مفاوز ترمينا ونلتصق كنا نرى الجمر مثبورا ونحترق ومغرس الرجل ملغوماً ونخترقُ مجافين دروباً ذل سالكها من فرط ما عيّدوا منها وما طرقوا كأن ما استمرأوا من رعيها حَسَك فظٌ، وما استعذبوا من وردها طرق

*** ذات ليلة وكنا نقيم في براغ معاً سألته:

بودي أن أسمع منك قصة زواجك من والدتي فقال: كلما أمرُ في لحظات وساعات عصيبة، تخفف عني الكثير وتلطف الأجواء بكلماتها المفعمة بالحب والأمل والثقة العالية بالنفس، لم تكن متعلمة، لكنها كانت ذات شخصية قوية.

في أيام العهد الملكي ـ الأربعينات والخمسينات ـ عرفتها امرأة مدّبرة، أعانتني كثيراً على مواجهة أيام العوز والفاقة والجوع والافلاس حتى إنها في احدى المرات باعت خاتماً ذهبياً كانت تحتفظ به لسنوات طويلة. وكانت على درجة كبيرة من الحيطة والحذر بحيث تفوت الفرصة على الشرطة إذا ما داهموا البيت الذي نسكنهُ وذلك بإخفاء الكتب التي يشم منها رائحة الثورية، أو تضليل العناصر التي جاءت تتحرى في البيت بحثاً عما هو ممنوع أو ما هو مخالف.

أذكر جيداً كيف كانت تهيئ (السفرطاس) يومياً وترسل ليّ ما لذَّ وطاب من الطعام مع اخوانك أو مع رجاء الجصاني، ابن عمتك، إلى مقر الجريدة، يوم كنت أصدر الصحف في بغداد.

في قصيدتي من «وحي الموقد» التي كتبتها في دمشق عام 1957 تحاورني واحاورها يوم أردتُ أن اشعل الاحطاب وكانت تخشى عليّ أن أكون فريسة النيران واللهب:

إنَّ عرسي وهي جامحةُ فجةٌ.. لونٌ من الأدبِ مُفجع ينتظره؟ وأي حزن سيعصف به؟

يا لحدسه الرهيب.. ودقة تنبؤاته.

*** ولعل مرثيته ـ في وداع أم نجاح «أمونة»، تلك التي ألقاها أثناء اهالة التراب على جثمانها في مقبرة السيدة زينب، التي نقشت على قبرها في ما بعد، تكشف عن عمق العلاقة التي ربطتهما وعن الحب الذي يكنه لها وعن الحزن الذي خلفته بعد رحيلها:

ها نحن أمونة ننأى ونفترق والليل يمكث والسهيد والحرف والصبحُ يمكثُ لا وجه من يصبحني بهِ، ولا بسمات منك تنطلق ما أروح الموتَ، بل ما كان ابغضه لدي إذا انت في الروح والرمقُ أمونة والضمير الحي ضاربة عروقه والضمير الميت يعترقُ خمس وخمسون عشناها مراوحة نبز من سعدوا فيها، ومن شنقوا

*** يا حلوة المجتلى والنفس ضائعة والأمر مختلط والجو مختنق ويا ضحوكة ثغر والدنى عبس ويا صفية طبع والمنى رنق ويا صبوراً على البلوى تلطّفها حتى تعود كبت ألحان تصطفق مني عليك سلام لا يقوم به سهر اليراع ولا يقوى به الورق كأن نفسي إذ تخشن وحشتها إنسان عين بمرأى أختها غرقُ يا رحمة الله غاد المؤمنين به وخلّ أمونة صنواً لمن سبقوا

*** ويخيل لي انه ما كان ليسافر إلى إيران في عام 1992 اثر دعوة وجهت إليه من أعلى المقامات الإيرانية، لولا إحساس إن هذه الزيارة في جانب منها، إنما هي تعويض لما رغبت به والدتي قبل وفاتها في أن تزور إيران والعتبات المقدسة فيها، لكن الموافقات الرسمية قد تأخرت إلى أن شاءت الأقدار إن تفارق الحياة، مما حدا بالعاملين في السفارة الإيرانية بدمشق لزيارته وتقديم التعازي له، وتوجيه الدعوة له لزيارة إيران ـ فما كان منهُ إلاّ أن غضب وانفعل قائلا: الآن.. الآن بعد فقدانها ـ أي بعد وفاة والدتي ـ مما حدا بأفراد الوفد أن يبدوا اعتذارهم عما حصل من تأجيل. وقد سافر الوالد إلى إيران ـ وقد التحق به أخي نجاح ـ وكذلك أنا.

وكم من مرة وفي طهران تذكر والدتي قائلا بأسى وأسف: ودعتنا ولم يكتب لها أن تزور إيران.

*** سمعته مرة وهو يرد على الهاتف وكأن هناك من يعزيه بوفاتها.. يقول وقد بدا حزنه طاغيا وأساه كبيراً: لقد سقطت الخيمة التي كانت تجمعنا وتظللنا. ثمة لقطة أخرى لن أنساها طالما حييت، والدتي بين أركان المطبخ وهي تنظف الرز مما علق به من «الشلب» أو أثناء الطبخ، وهي تغني وتدندن مع نفسها وبصوت ساحر وجميل:

يا بو العيون السود يلي جمالك زين ووالدي الجواهري في أرجاء الصالة يسترق السمع اليها، فيرقص فرحاً وطرباً ويزداد اعجاباً بها.

كما لا أنسى أيضاً انه ذات يوم وفي دمشق في الثمانينات كيف قال لها ممازحاً ومداعباً:

انظري كيف سأعيش حتى المائة من العمر! وفي آخر مقطوعة ـ رباعية ـ كتبها الوالد وكانت مهداة لي ولزوجي الصحافي صباح المندلاوي بمناسبة الذكرى السنوية لزواجنا، وردت اشارة ايضاً إلى الوالدة ـ أمونة ـ وذلك بقوله:

إنَّ خيالاً حرة من خير أمٍ وأبِ سبحان من صوّرها امرأة من ذهبِ وبعلها صباحها يا شمسهُ لا تغبِ نعم قران كوكب محصن بكوكبِ