أن تكون يهودياً في إسطنبول

رئيس الجالية يرفض التمييز وحزب العدالة والتنمية يتفهّم

TT

ليس سهلا أن تكون يهودياً في تركيا، لكنه أسهل بكثير من أن تكون عربياً في إسرائيل. ومع ذلك فإن يهود تركيا، وبصوت رئيس الجالية هناك، رفعوا الصوت أخيراً مطالبين بالتوقف عن توجيه الاهانات إليهم باعتبارهم مواطنين يثيرون الشك في مدى وطنيتهم. واعتراض بنسيون بينتو هذا ليس فقط انه أثار جدالا واسعا، بل لاقى صدراً رحباً من حزب العدالة والتنمية الذي لم يتردد في محاولة إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. اليهود يتذمرون في تركيا والمسلمون يتفهمون.

بنسيون بينتو هو الرئيس الفخري للجالية اليهودية في تركيا، قرر بعد طول معاناة أن يروي، وتولت تولاي غورلار مدرّسة اللغة التركية في ثانوية أولوس التابعة للجالية اليهودية في اسطنبول أن تسجل كلامه وحواراتها معه على مدار أشهر طويلة. هذا اللقاء أنتج صدمة وأثار جدالاً في تركيا بعد أن أبصر النور ضمن كتاب فيه عدد من المشاركات. الجالية اليهودية لا تتكلم كثيراً في تركيا، والاضطهاد الذي تعرضت له يبقى مسكوتاً عنه، هذه المرة لم يعد الأمر سراً. فكيف تعيش حين تكون يهودياً في مجتمع غالبيته الساحقة من المسلمين، لكنه علماني الميول والنزعة متعدد الاتجاهات ودائم الانفتاح على التغيير والتبديل. يبلغ عدد اليهود في تركيا اليوم نحو 35 ألف شخص ويقدرهم البعض بـ 24 الفاً غالبيتهم يعيشون في اسطنبول وتتوزع أقليات صغيرة منهم على مناطق أخرى مثل أزمير وأنقره التي يقدر عدد اليهود فيها بـ2500 شخص. وفي اسطنبول حوالي 18 كنيساً، أقدمها يعود إلى منتصف القرن الخامس عشر، ولهم مدرسة ومستشفى.

والشائع عن الجالية اليهودية في تركيا انها تمتعت بنفوذ واسع، وحظيت برعاية السلطة، واسهمت في قيام الدولة العلمانية ودافعت عنها منذ البداية لا بل واسهمت في تكريسها، ووصل عدد من السياسيين اليهود إلى البرلمان في الأعوام 1935 و1960 و1995. ولعب اليهود الأتراك دوراً في الانفتاح على اميركا والعلاقات مع إسرائيل.

لكن بينتو الرئيس الفخري للجالية اليهودية في تركيا قرر ان يحكي قصته كيهودي في اسطنبول، وهو يبلغ من العمر 72 عاماً، وغايته أن يقدم الوجه الآخر لحياة اليهود في تركيا. فهو شخصياً هاجر لعدة سنين إلى إسرائيل محتجاً على المعاملة القاسية التي تعرض لها من قبل البعض في تركيا لكنه عاد الى اسطنبول بعدما عجز-كما يقول-عن البقاء بعيداً عن أسرته وأهله ومكان نشأته.

بينتو خدم الجالية اليهودية في تركيا على مدى أكثر من 40 عاما وقرر في النهاية اختراق حائط الخوف وتحطيم الجدار النفسي المحيط به والخروج منه للمشاركة في اصدار هذا المؤلف معبرا عن الكثير مما عاشه وشاهده وشعر به تحت شعار رفع الفوارق والحواجز المقامة بيني وبينك كما يقول.

الصحافية التركية من أصل يهودي غيلا بن مايور كتبت في زاويتها في جريدة حريت تقول ان بينتو كان مصيبا في قرار المشاركة في مثل هذا الكتاب الذي يعرف بحياة الجالية اليهودية في تركيا ومعاناتها ومشاكلها، خصوصا مع الجوار العرقي والديني منذ سنوات طويلة، فهو ترأس الجالية لاكثر من 13 عاما ويعرف همومها واحتياجاتها أكثر من غيره. وقالت الصحافية غيلا: ليت بينتو كان برفقتي قبل أسابيع عندما كنت أمضي عطلتي السنوية على شاطئ ايفليك في بحر ايجه ليلقن ذلك الوالد المتعجرف درساً وهو يصف ابنه باليهودي الصغير والجبان، لمجرد أنه رفض النزول إلى الماء وتعلم السباحة.

وتضيف هذه الصحافية: تعرفت باكرا الى مصطلح الآخر، لكنني قررت تجاهله وعدم التوقف عنده. البعض عاملنا لسنوات طويلة وكأننا جواسيس اسرائيل في البلاد، وفئة أخرى طاردتنا بعبارة (اليهودي القبيح). كنا دائما وسط المشاكل والصعوبات رغم اننا لم نحقر احداً أو نتطاول عليه أو نهين عرقه وقوميته وانتماءه الديني. وحدها دموع الوالدة التي كنا نراقبها من البعيد هي التي كانت تهز مشاعرنا وتدفعنا الى مراجعة موقعنا ومستقبلنا في هذا المجتمع المعروف بتعدديته وانفتاحه وتسامحه.

ببساطة لقد قرر عدد من اليهود وعلى رأسهم رئيس الجالية اليهودية ان يكسروا الصمت. وعلق عشرات إلإعلاميين الأتراك على مضمون ما قيل ونشر من احداث وتفاصيل لم تعالج هموم الاقلية اليهودية وحسب، بل تطرقت الى مواضيع سياسية واجتماعية وانسانية تملأ فراغاً مهماً في حياة يهود تركيا، خصوصاً في الفترة الواقعة بين 1930 و1990 وفي مقدمتها حادثة نقل اليهود من مناطق اديرنا الى اسطنبول وتعرضهم لضريبة الملكية الباهظة عام 1941 التي كانت سبباً في إرسال الكثيرين منهم الى المناطق النائية في تركيا للعمل في مشاريع إقامة خطوط النقل الحديدية، لأنهم عجزوا عن الدفع. ويشرح بينتو، رغم أن والده دعي الى تأدية الخدمة العسكرية الالزامية وأمضى معظمها في منطقة الشرق، حيث ارسل إلى هناك مئات اليهود بالقوة هذه المرة. هم جاءوا للمطالبة بهذه الضريبة وكنت في السابعة من عمري وقتها. ولما لم ندفع قرروا سحب قطعة السجاد من تحت قدمي في غرفة الجلوس بسرعة ودون مبالاة، سقطت على الارض، توجعت لكني لم أبد أية ردة فعل، رغم اني تعرفت للمرة الاولى في حياتي على لفظة يهودي تقال لنا بأسلوب وطريقة مختلفة.

ومما يقوله بينتو في تجربته هذه: جارنا الذي داهمني وأنا أقطف وردة أقدمها إلى والدتي -أعز ما عندي في الحياة- ثار غضباً ونعتني بـ ذلك اليهودي صاحب الرأس الكبير. مرة أخرى يخترق هذا التعبير اذني لكني أتجاهله بصبر. عندما كنت في السابعة عشرة من عمري أمارس رياضة كرة القدم في فريق (غلته سراي) أوقفني مدرب الفريق معنفا لأني دخلت بحذائي الرياضي إلى القسم الاداري من المبنى وقال: أنت يا يهودي، لماذا تسير بهذا الحذاء هنا؟ اخرج من هذا المكان على الفور.... مرة أخرى أسمع كلمة يهودي تصدح في أذني بعدما كنت قبل قليل أمارس رياضتي المفضلة في صفوف الاتراك وبينهم. كان هذا كافيا ليدفعني للعودة الى المنزل أجمع حقيبتي وأعلن أمام الأسرة أنني قررت المغادرة الى حيث أقول انني يهودي دون تردد.. إلى إسرائيل.

عاد بينتو بعد سنوات إلى تل أبيب وكان قرار جلبه الى الخدمة العسكرية بانتظاره. وقع عليه الاختيار لتولي مهمة رئاسة الجالية في اسطنبول منذ مطلع السبعينات. كنت أقول كفى وأغادر لكنهم كانوا يعيدون انتخابي الى منصب الرئاسة. بينتو في الحقيقة أثار موضوع الآخر في المجتمع التركي ومعاناته ومشاكله وهمومه اليومية في المدرسة والعمل وأماكن احتكاكه بالمسلمين الاتراك. مهما كانت الصفات التي تطلق عليّ لن ينجح أحد في الانتقاص من تركيتي وانتمائي الى هذا الوطن والارض... بعض المسؤولين الاتراك يقولون لي مداعبين، هل يصدق رئيس وزرائكم في ما يقول. وهم يقصدون هنا رئيس وزراء إسرائيل، فأجيب: لا أعرف؟! رئيس وزرائي هو نفسه رئيس وزرائكم وأنتم أقرب مني اليه لتعرفوا. أما اذا كنتم تقصدون رئيس وزراء اسرائيل فعليكم أن تطرحوا السؤال على الاسرائيليين هناك وليس علي هنا.

أنت قد لا تحب الدولة الاسرائيلية، لا تعجبك سياسة حكوماتها لكنك لا يمكن أن تكون عدوا للدين. هل تظن انني لا أتألم لكل طفل فلسطيني يسقط ضحية العنف في اسرائيل؟

احصاء يقول ان نسبة 84 بالمائة من الاتراك يرفضون السكن إلى جانب جار يهودي، لماذا؟ ماذا فعلنا لهم؟ يتساءل يهود تركيا. عندما ينجز أحد رجال الاعمال الإسرائيليين من أصل تركي مشروعاً ناجحاً، يقولون ان منفذه تركي. وعندما يعلن الرجل نفسه إفلاسه لأسباب مالية، يقولون: أفلس رجل أعمال من أصل يهودي. هذا ما يحير يهود تركيا. ويحيرهم أيضاً انه، عندما يتورط أحدهم في عملية اختلاس يقولون لك في الاعلام هو من أصل يهودي. لماذا يبرزون يهوديته؟ هل يقولون نفس الشيء، عندما يكون المختلس مسلماً تركياً؟

الصحافي جمال اوشاك الذي حضر حفل توقيع كتاب بينتو الذي دعت اليه جريدة شالوم الصادرة في اسطنبول باسم الجالية اليهودية، قال: انه علم في لحظة انتهائه من كتابة مقالة حول الكتاب ومؤلفه أن رئيس مجلس التعليم العالي في تركيا بعث بتعميم إلى كل الجامعات التركية، يدعوها الى تسهيل مشاركة الطلبة الجامعيين من أصل يهودي في احتفالاتهم الدينية واعتبارهم في إجازة ادارية في حال طلبوا ذلك. كل هذا يجري في عهد حكومة العدالة والتنمية وسياستها التغييرية الانفتاحية.

بينتو يتحدث عن الآخر بلغة الآخر، ويقول انه يعرف نقطة الوجع ويحاول أن يقترح أسلوب المعالجة. بينتو يقول: لا بد لي من أن أتكلم. ونحن نقول: لا بد لأحد ما، من أن يرد بنفس اللغة والأسلوب من قلب فلسطين، ليعرفنا في المقابل، ما هو وضع العرب تحت رحمة السلطة الإسرائيلية؟

ما يبوح به بينتو وغيره من اليهود هذه الأيام يستحق القراءة بتمعن ليس فقط من أجل التعرف عن قرب الى مشاكل الجالية اليهودية في تركيا، بل من أجل الوقوف مطولا أمام كل حادثة يشار اليها وضرورة أن يقارنها البعض بمعاناة الداخل الفلسطيني ومشاكله تحت الاحتلال ومحاولات الامحاء وتهويد المدن وطمس الهوية والانتماء. وهي معاناة لا بد لبينتو ان يطلع عليها ليكتشف أن ما كتبه وسرده من احداث يظل نقطة في بحر ما يعيشه العرب في وطنهم وأرضهم.

أن تكون يهوديا في تركيا صفحات مطولة تحدث خلالها بينتو المتهم من قبل الكثيرين بالعمالة والماسونية عن كل شيء، عرّف بحياة الاسرائيليين اليومية، احتفالاتهم زواجهم تجارتهم علاقاتهم بالسياسة والسياسيين ومسألة ارتباطهم باسرائيل ونظرتهم اليها. والأهم انه أثار أسئلة وجدالاً حول الوجود اليهودي في تركيا ودوره. وهو ما يجب ان يعرفه الاسرائيليون في الاراضي المحتلة ليعرفوا كيف تعامل تركيا الحديثة اليوم أقليتها الاسرائيلية_ خصوصا أن اردوغان كان بين الشخصيات التركية التي قدمت للكتاب- علهم يراجعون سياساتهم ومواقفهم حيال العرب القابعين تحت الاحتلال.

شخصيات سياسية تركية وإسرائيلية كثيرة، أشادت بخدمات بينتو المختلفة وإنجازاته لصالح مسار العلاقات التركية - الإسرائيلية في مقدمة هؤلاء رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان ورئيس بلدية اسطنبول والرئيس الإسرائيلي الاسبق كاتساف. وبينتو الذي بتنا نعرف عنه الكثير أبقى أجزاء مهمة من حياته وتجاربه بعيدة عن الأضواء. فهو يتكتم على فترة وجوده في إسرائيل التي قصدها غاضبا في مطلع شبابه، وعاد منها بعد سنوات بملء ارادته كما يقول. ماذا فعل هناك ولماذا عاد؟ وهو لا يقول الكثير عن طبيعة علاقته بايتان ليفني الاسرائيلي المتشدد المعروف في منظمة ارغون السرية والد تسيبي ليفني المرشحة لمنصب رئاسة الوزراء اليوم؟ لا بل انه يتجاهل تماما الحديث عن نوع الخدمات التي قدمها في السر والعلن كوسيط لعب أكثر من دور بين أنقرة وتل أبيب عبر السنين في مسائل سياسية حساسة تعني البلدين؟ وأخيراً هو لم يرد على الكثير من الكتابات التي تضعه على رأس الماسونية التركية والمتحدث الأول باسمها؟