ماذا بقي من البنيوية؟

ليفي ستراوس يبلغ المائة عام وسط احتفال فرنسي

TT

يحتفل الفرنسيون حاليا بمفكرهم الكبير كلود ليفي ستراوس الذي سيصبح عمره قرنا كاملا هذا الشهر وبالتحديد في 28 نوفمبر (تشرين الثاني). وقد صرح بانه اول المندهشين بهذا الوضع، ولم يكن يتوقع اطلاقا ان يعيش كل هذا العمر المديد. فهو ولد مع غريمه سارتر في بدايات القرن العشرين. وجلسا على مقاعد الدراسة معا. ولكن سارتر مات منذ زمن طويل. أما هو فلا يزال على قيد الحياة يقرأ روايات بلزاك للمرة الاربعين ويتعلم اللغة اليابانية! وهو يعيش في قرية صغيرة على الحدود الفرنسية- السويسرية بعيدا عن ضجيج العواصم وتلوثات المدن الكبرى وقريبا من الطبيعة الخلابة التي طالما أحبها استاذه الكبير: جان جاك روسو. وقد كرست له مختلف المجلات الكبرى والجرائد ملاحق ثقافية وتحقيقات واسعة تتحدث عن انجازاته الفكرية وكتبه ونظرياته ومسار حياته ككل. وهنا نقدم نبذة عن أعمال هذا العالم الفذ الذي اشتهر بانه مؤسس البنيوية في الفكر الحديث. ومعلوم ان البنيوية اصبحت موضة شائعة ليس فقط في مجال النقد الادبي وانما في كل المجالات. وانتقلت الى شتى انحاء العالم ومنها عالمنا العربي بالطبع.

ولكن إذا كانت البنيوية قد انحسرت كموضة أو كإيديولوجيا، إلا أنها بقيت كمنهجية في البحث العلمي. فعندما تزول حركة فكرية ما فإنها لا تزول كلياً وإنما يبقى منها أفضل ما فيها، ثم ينصهر ويذوب في الحركة العامة لتاريخ الفكر. وهكذا يمكن القول بأنه لا شيء يموت كلياً، ولا شيء يولد من عدم. ولكن تعاقب الحركات الفكرية وراء بعضها البعض كالليبرالية والماركسية والظاهراتية والسريالية والوجودية والبنيوية والحداثة وما بعد الحداثة، دليل على أن الواقع أكبر من أي نظرية مهما علا شأنها وعظمت عبقرية صاحبها. فكل نظرية لا ترى من الواقع إلا جانباً واحداً ثم تتوهم أنها رأته كله وفسرته حتى استنفدته تفسيراً. ولكن الواقع خصب، غني، معقد، كثيف. وحركة الحياة لا تتوقف. وهكذا تبدو النظرية عاجزة –بعد فترة- عن مسايرة الوضع. هكذا تنشف النظرية وتجمد، وتظل الحياة مليئة... بالحياة. وكما قال غوته في كلمته الشهيرة: «رمادية» هي النظرية، يا صديقي، ووحدها شجرة الحياة تظل خضراء....

ما هو الشيء الجديد الذي أتت به البنيوية؟ للجواب عن هذا السؤال سوف نستعرض هنا آراء أهم المفكرين المعاصرين في هذا المجال: أي كلود ليفي ستراوس الذي يجمع الكل على أنه أب البنيوية ليس فقط على المستوى الفرنسي وإنما على الصعيد العالمي ككل. فمن هو كلود ليفي ستراوس؟

ولد ليفي ستراوس في عائلة بورجوازية في بدايات هذا القرن ودرس الفلسفة مثل سارتر وسيمون دوبوفوار. ولكنه تحول عنها فيما بعد لكي يتخصص في علم الاثنولوجيا (أو دراسة عادات الشعوب البدائية وتقاليدها وعقليتها). وهكذا قام برحلتين إلى البرازيل عامي 1935 و1938 وأتيح له الاطلاع على أحوال الهنود الحمر في ضواحي ساو باولو أو أريافها البعيدة. وبعد أن درس الشعوب البدائية عن كثب وبشكل ميداني كما يفعل أي عالم انثروبولوجيا عاد إلى فرنسا وهو محمَّل بالمعلومات والحكايات والأساطير العديدة. ثم اضطر للهجرة إلى نيويورك أثناء الحرب العالمية الثانية، وهناك أُتيح له اللقاء برومان جاكسون، زعيم الألسنيات البنيوية الحديثة. وكان لقاء حاسماً غيَّر مجرى حياته كما اعترف بذلك فيما بعد. فقد كشف له جاكسون على أنه تمكن دراسة المجتمع كما تُدرس اللغة. فعادات المجتمع وتقاليده هي أيضاً لغة وترمز إلى شيء آخر يقبع تحتها او خلفها هو: البنية. من هنا نتج علم السيميائيات او الدلالات بالمعنى الواسع للكلمة: أي من لغوية وغير لغوية. فالازياء لغة، والمطبخ لغة، والعادات والتقاليد المختلفة من مجتمع الى آخر لغة، واسلوب التحية والتهذيب الياباني او الفرنسي او العربي لغة، ومغازلة السيدات الباريسيات لغة تختلف عن مغازلة الفتيات العربيات ولها قواعد وأصول الخ.. لنضرب على ذلك مثلاً نظام القرابة (أو المصاهرة) السائد في مجتمع ما. فالناس يتزوجون طبقاً لقواعد أو لعادات يمكن دراستها كنظام رمزي متماسك كما تدرس اللغة. وقد طبق ليفي ستراوس هذه المنهجية البنيوية على أنظمة القرابة السائدة لدى قبائل الهنود الحمر التي زارها وعاش بينها لفترة وخرج باكتشافات مدهشة. بل وأدى إلى إحداث ثورة معرفية داخل علم الانثروبولوجيا. وهكذا صدر كتابه الكبير الأول عام 1949 بعنوان: «البنى الأولية للقرابة». واكتشف أن الزواج في هذه القبائل –وفي كل المجتمعات البشرية- يخضع لقواعد وقوانين صارمة دون أن يكون الناس واعين بها تماماً. وهذه القواعد تشكل لغة المجتمع في إقامة العلاقات بين أعضائه عن طريق المصاهرة. وبالتالي فيمكن دراسة هذه العلاقات الاجتماعية كما يدرس جاكبسون العلاقات البنيوية داخل اللغة. فـ«الفونيم» أو الوحدة الصوتية الأولى تشبه البنية الأولية للقرابة. والعلاقات بين عدة فونيمات (أو وحدات صوتية) هي التي تشكل المعنى داخل اللغة، مثلما أن العلاقة بين عدة أطراف هي التي تشكل نسيج النظام الاجتماعي عن طريق المصاهرة. هكذا راح ليفي ستراوس يدرس المجتمع كما يدرس عالم الألسنيات اللغة سواء بسواء. وقد اكتشف ليفي ستراوس أن هناك ثوابت (أو متغيرات) تقبع خلف التنوع الظاهري لأنظمة القرابة السائدة في مختلف المجتمعات البشرية. من هذه الثوابت حظر التزوج بالنساء القريبات جداً. فليس هناك من مجتمع في العالم سواء أكان بدائياً بسيطاً، أم حضارياً معقداً، إلا ويمنع الزواج بالخالة أو العمة ناهيك عن الأم والأخت أقرب المقربات. ومنع الزواج بالنساء المقربات هو الذي يتيح المصاهرة بين العائلات المختلفة وهو الذي يخلق شبكة العلاقات الانسانية والديناميكية الاجتماعية. وإذن فإن الزواج أو المصاهرة هي لغة يمكن دراستها بنيوياً كما تدرس الجملة أو النص اللغوي والعلاقات الداخلية التي تتحكم فيه. وهكذا دعا ليفي ستراوس إلى الاستفادة من علم الألسنيات أثناء صعود البنيوية في الستينات والسبعينات. فقد أصبح العلم الرائد والطليعي بالنسبة لمختلف الباحثين. ولكنهم تطرفوا في تطبيقه بشكل شكلاني إلى درجة أنه قد حصل رد فعل ضده الآن. في الواقع إن ليفي ستراوس أراد استخدام نتائج علم الألسنيات من أجل تقديم نظرية عامة عن المجتمع بصفته نظاماً متكاملاً. أو قل إنه أراد تقديم نظرية عامة عن التواصل والتبادل. وقال بأن التواصل في المجتمع موزع على ثلاثة طوابق.

1 ـ فهناك أولاً تبادل النساء داخل المجتمع عن طريق الزواج. وهذا التبادل هو الذي يشكل شبكة العلاقات الاجتماعية الحية. وهو يتم طبقاً لقوانين القرابة والمصاهرة التي يمكن اكتشافها عن طريق الدراسة الميدانية للمجتمع. لماذا تفضل هذه العائلة المصاهرة مع تلك، وتمنع المصاهرة مع عائلة أخرى؟ الخ.. ما هي المعايير أو القوانين التي تتحكّم بكل ذلك؟ وكيف يمكن لنا أن ندرس بنية المجتمع من خلالها؟

2 ـ وهناك ثانياً تبادل الأرزاق والسلع عن طريق المتاجرة. وهذا التبادل يخضع لقوانين علم الاقتصاد التي يمكن دراستها بنيوياً أيضاً. فبنية الاقتصاد الإقطاعي أو الريفي البدائي، غير بنية الاقتصاد البورجوازي التجاري أو الصناعي..

3 ـ وهناك ثالثا تبادل الرسائل اللغوية –أو الخطابات الكلامية- ويمكن دراستها عن طريق تطبيق قواعد علم الألسنيات. فتبادل الكلام بين البشر ليس عفوياً إلى الدرجة التي نتوقعها، وإنما يخضع لقوانين غير واعية. فمثلاً قبل أن نفتح فمنا لكي نتكلم نراعي نوعية الشخص الذي نخاطبه، هل هو كبير أم صغير، مهم أم غير مهم، عدو أم صديق، غني ام فقير، الخ..

كل هذه الأنظمة الثلاثة (نظام القرابة، ونظام التبادل الاقتصادي، ونظام الخطاب) هي التي تتحكم ببنية المجتمع ككل، أو قل هي التي تشكل البنية العامة للمجتمع. ودراستها الواحدة بعد الأخرى تساعدنا على فهم بنية المجتمع. هكذا نجد أن فعاليات المجتمع تشكل أنظمة رمزية (أو شيفرات) تدرس بنيوياً كما تدرس أي لغة بشرية.

ولكن لكلمة «بنيوية» معنى آخر لدى ليفي ستراوس. فهو يقصد بها ثوابت الطبيعة البشرية. وهو هنا يلتقي بالمثالية الكانطية. ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن الطبيعة البشرية واحدة على الرغم من اختلاف الأجناس والأنواع والأقوام البشرية. فعلى سطح الأرض يوجد عدد كبير من المجتمعات البشرية، الصغيرة او الكبيرة، البسيطة أو المعقدة، الزراعية او الصناعية، البدائية أو الحضارية. ولكن الإنسان هو الإنسان في كل مكان. فهو يحب ويكره، أو يغبط ويحسد، أو يصادق ويعادي في كل مكان... صحيح أنه يفعل ذلك بأشكال وصيغ مختلفة طبقاً لنوعية المجتمع ودرجة تطوره أو عدم تطوره، ولكن الحسد يبقى هو الحسد، والحب هو الحب، والحقد هو الحقد الخ... بمعنى أن هناك ثوابت للطبيعة البشرية. وتركيز ليفي ستراوس على الثوابت (أو اللامتغيرات) هو الذي جعل الآخرين يتهمونه بكره التطور، والحركة التاريخية، وحب الجمود أو التزامن الأبدي، أي بقاء المجتمع على نفس الحالة إلى أبد الآبدين. وقد حاول ليفي ستراوس أكثر من مرة الدفاع عن نفسه والقول بأنه لا يكره التاريخ ولا التطور، وأنه ليس مع الثبوت، ولكنه لم ينجح في ذلك تماماً. فهو يعتقد بوجود دوافع عميقة جداً أو لاواعية تتحكم بالروح البشرية وعقلية الانسان ويستحيل تغييرها. ويعتقد أن مهمته كباحث تكمن في الكشف عن هذه الدوافع الثابتة التي تتحكم بالطبيعة البشرية في كل زمان ومكان. صحيح أن هناك عدداً لا نهائياً أو قل هائلاً من الثقافات والمجتمعات البشرية المختلفة في عاداتها وتقاليدها وأنماط حياتها. ولكن وراء هذه الاختلافات «السطحية» للبشر تربض دوافع ثابتة لا تتغير ولا تتبدل هي ما يدعوه ليفي ستراوس بمكوّنات الطبيعة البشرية او ثوابتها. فالبشر أحبوا وكرهوا وتحاربوا قبل آلاف السنين مثلما يحبون ويتحاربون الآن. وحدها الأسلحة اختلفت ولكن الدوافع بقيت واحدة. ففي السابق كانوا يتحاربون بالسيوف واليوم يتحاربون بأحدث أنواع الأسلحة من طائرات وصواريخ ودبابات. وكما كان كانط يرى بأن هناك مقولات أسبقيّة تتحكم بالعقل البشري قبل أن يتنطّح لمهمة التفكير ودراسة الواقع (كمقولة السببية، والزمان والمكان...) فإن ليفي ستراوس يعتقد بأن هناك قوانين أو إكراهات أبدية تتحكَّم بطريقة اشتغال الروح البشرية.

ولكن الإنسان يعتقد أنه حر، وأنه يتصرف بشكل عفوي لأنه غير واع بهذه الإكراهات والقيود التي تحركه من وراء الستار او من خلف الوعي الظاهري. وليفي ستراوس يعتقد بأن الإنسان مسيَّر أكثر مما هو مخيَّر، من هنا نزعته التشاؤمية وعدم ثقته بالطبيعة البشرية. ولهذا السبب اختلف مع جان بول سارتر الذي كان ثورياً رومانطيقياً يؤمن بالإنسان وبإمكانية تغيير المجتمع نحو الأفضل باستمرار. سارتر كان يؤمن بامكانية تغيير الطبيعة البشرية، ولكن ليس ليفي ستراوس. من هنا نزعته المحافظة واليمينية التي جعلت منه خصما لسارتر اليساري التقدمي على الساحة الفرنسية.