معضلة التنوير العربي

وسط الظلام القومجي الأصولي الذي تجسد في التطبيل لثقافة الأحذية

TT

يقول جان زيغلير في كتابه الجديد: إن جريمة الغرب تكمن في أنه يقول في معظم الأحيان عكس ما يفعله، أو يفعل عكس ما يقوله. فهو يرفع أجمل الشعارات عن حقوق الإنسان والديمقراطية ولكنه لا يفكر أولاً إلا بصفقاته التجارية ومصالحه المادية وبيع الأسلحة والافتخار بها والهيمنة على الجنوب الفقير المعدم.

سمعت بأنهم احتفلوا بذكرى التنوير وفولتير واستقبلوا محمد أركون في الكويت مؤخراً. وهذا دليل على أن الكويت تظل إحدى المنارات المشعة للفكر العربي على الرغم من كل شيء. وقبل ذلك كنت قد سمعت أنه تم تأسيس أول تجمع فلسفي في السعودية على يد بعض المثقفين الشجعان الذين يقف في طليعتهم عبد الله المطيري ومعجب العدواني وعبد الرحمن الحبيب، من بين آخرين بالطبع. وفي قطر هناك انفتاح ثقافي مدهش، وكذلك في البحرين والإمارات وسلطنة عمان، وعموم الخليج العربي. وهذا يبشر بالخير، على الرغم من كل الظلام القومجي الأصولي الذي يلف العالم العربي والذي تجسد أخيراً في التطبيل والتزمير لثقافة الأحذية!، فهل للانحطاط العربي من نهاية يا تُرى؟ أم أننا لم نصل بعد إلى أسفل القعر؟

ولكن دعونا نتفاءل قليلا: هناك بقع ضوء في نهاية هذا العام المنصرم على الرغم من كل شيء. هناك مخاضات ثقافية وتنويرية كثيرة تحصل عندنا. والنزعة الشعبوية الغوغائية ليست وحدها في الميدان على عكس ما يظن الكثيرون. فالمثقفون العرب انقسموا إلى قسمين تجاه صحافة الأحذية: قسم معها وقسم ضدها. والقسم الثاني الرصين الذي ينظر إلى البعيد ويحرص على سمعة العرب ولا يستسلم لغرائزه التحتية لم يكن ضعيفاً جداً. صحيح أنه لا يزال يشكل أقلية في العالم العربي ولكنها أقلية فاعلة ومؤثرة. ثم إن كل الحركات التنويرية تبدأ أقلية وتتحول إلى أكثرية بمرور الزمن.

كان فيلسوف التنوير الأكبر «كانط» يقول إن الحماسة التي تحيط بالشيء أو بالفعل ليست أقل أهمية من الفعل ذاته. فمثلا لولا الحماسة التي أحاطت بمارتن لوثر في ألمانيا لما نجح في تحدي البابوية الظلامية وتحقيق الإصلاح الديني. وكذلك لولا الحماسة الشعبية العارمة التي أحاطت بالثورة الفرنسية لحظة اندلاعها لما نجحت في قلب النظام القديم وترسيخ الحريات الحديثة والتسامح الديني في نهاية المطاف. وهذه الحماسة كانت دليلا على رغبة الجنس البشري في التقدم وتوقه إلى الحرية؛ لأنها لم تقتصر على الشعب الفرنسي وإنما تعدته لتشمل معظم شعوب العالم. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن قصة الحذاء التي تحولت إلى حدث تاريخي، أو قُل دخلت التاريخ من أوسع أبوابه. فالحماسة العارمة المؤيدة لها في الفضائيات الغوغائية وعلى أعمدة الصحف ومقالات الكثيرين، هي بدون شك دليل على مدى الانحطاط الأخلاقي والظلامية الفكرية التي يغرق فيهما عالمنا العربي. إذا قلت ذلك فإنني أعذر الشعب الطيب البسيط الذي يستسلم بسهولة للعواطف والمشاعر الشعبوية ولا يستطيع التمييز بين الأمور بسبب الأمية الألفبائية والأمية الثقافية. ولكني لا أعذر المثقفين، أو بالأحرى أشباه المثقفين، الذين يطبّلون ويزمرون للشيء نفسه. هل يعني ذلك أن الحماسة للانحطاط وللثقافة الحذائية، إذا جاز التعبير، لا تزال أقوى من الحماسة للنهوض في عالمنا العربي؟ بدون شك. ولكن هناك أيضاً حماسة للنهوض والعقلانية التنويرية، وينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار، فهي المؤشر على حركة التاريخ وطريق المستقبل. لا أستطيع أن أعدد هنا أسماء جميع المثقفين الذين أدانوا الحادثة واستسخفوها ولم يستسلموا للتيار الشعبوي الغوغائي، ولكنها طويلة نسبياً ومشجعة.

بالأمس القريب دعاني القسم العربي في التلفزيون الفرنسي للتحدث عن موضوعات مشابهة من خلال برنامج «نقاش» الذي يديره الصحافي التونسي توفيق مجيد. وعلى الرغم من أن التلفزيون لا يتيح لك أن تقول كل شيء بسبب ضيق الوقت، إلا أنني استطعت أن أستشهد بكتاب صدر مؤخراً للمفكر السويسري جان زيغلير تحت عنوان: الحقد على الغرب. ومجرد ذكره أتاح لي تعديل الصورة وإعطاء كل ذي حق حقه. وذلك لأن إدانتي لحادثة الحذاء، واعتقادي بأنها أساءت كثيراً إلى صورة العرب، على عكس ما يظنون، لا تعني أني متغافل عن أخطاء الغرب وجرائمه التي يدينها المؤلف بحق. ومن آخرها ما يرتكبه الإسرائيليون في غزة حالياً. أقول ذلك على الرغم من أن حماس بآيديولوجيتها الاستلابية البائسة مسؤولة أيضاً عن توريط شعبها وتعريضه للتهلكة. أيًّا ما كان الأمر، فهناك أسباب وجيهة لكُره الغرب والحقد عليه. ولكنها غير تلك التي تضج بها الفضائيات العربية عادة، إنها ليست إسقاط صدام والطالبان. فهذا شيء إيجابي ومفيد جداً ويمشي في اتجاه حركة التاريخ والإطاحة بالآيديولوجيا القومجية الأصولية، أي العنصرية الطائفية، التي لم تعد مقبولة في هذا العصر. نقول ذلك ونحن ننتظر بفارغ الصبر أن يخرج العراق الجديد من محنته التي فُرضت عليه فرضاً، وأن يتعافى ويصبح نموذجاً ديمقراطياً حضارياً لكل المنطقة.

يقول جان زيغلير، النائب في البرلمان السويسري والمقرر السابق في الأمم المتحدة لشؤون التغذية، أو بالأحرى شؤون المجاعات في العالم، ما معناه:

إن جريمة الغرب تكمن في أنه يقول في معظم الأحيان عكس ما يفعله، أو يفعل عكس ما يقوله. فهو يرفع أجمل الشعارات عن حقوق الإنسان والديمقراطية، ولكنه لا يفكر إلا بصفقاته التجارية ومصالحه المادية وبيع الأسلحة والافتخار بها والهيمنة على الجنوب الفقير المعدم. وبالتالي فإذا كنا نُدين حادثة الحذاء ونعتبر أنها لا تليق بالقيم العربية الإسلامية الأصيلة، إلا أننا لسنا غافلين عن مدى الضرر الذي تلحقه السياسة الغربية بالقيم الحضارية والتنويرية التي ترفع رايتها هي بالذات. كنا نتمنى لو أن الغرب كان أقل جشعاً وأكثر إنسانية في تعامله مع شعوب الجنوب ولا يفكر فقط في مصالح شركاته الكبرى متعددة الجنسيات. كنا نتمنى لو أنه انخرط في إعادة بناء العراق وتحسين المستوى المعيشي لشعبه وتطوير الخدمات الأساسية وتضميد الجراح. ولكن هل ستتركه تفجيرات «القاعدة» المجرمة يفعل ذلك؟ على أية حال، لو أن ذلك قد حصل لراح كل شعب العراق يلعن صاحب الحذاء بدلا من أن يشيد به بعضهم كبطل! فالغرب هو الذي يسيطر على نظام العالم اقتصادياً وتكنولوجياً وسياسياً وكل شيء منذ خمسمائة سنة تقريباً. وفي ظل هذا النظام الذي خان قضية التنوير والمبادئ الإنسانية التي رفع رايتها جان جاك روسو وكانط وكل الفلاسفة التنويريين الأحرار.. ماذا يحصل بالضبط؟

عن هذا السؤال يجيب أستاذ علم الاجتماع في جامعة جنيف قائلا:

يحدث في كل خمس ثوانٍ أن يموت طفل من الجوع! قلت كل خمس ثوانٍ، وليس كل خمس دقائق أو خمس ساعات أو خمسة أيام. وفي كل يوم يموت مائة ألف شخص من الجوع. إنها مجزرة حقيقية تحصل تحت أنظار العالم المتحضر في وقت لم يكن فيه العالم أكثر غنًى مما هو عليه الآن. هذا هو الهولوكوست الحقيقي: أكبر محرقة في التاريخ. الإحصائيات تقول إن العالم يضج بالثروات وأنه يستطيع أن يطعم اثني عشر مليار شخص وليس فقط ستة مليارات الذي هو عدد سكان الكرة الأرضية حالياً. ومع ذلك فإن كل هذا العدد الهائل من الناس يموتون من الجوع يومياً!.

قد يقول قائل: ولكن أنظمة الجنوب مسؤولة أيضاً عن المحرقة وليس فقط دول الغرب. وهذا صحيح. فآخر الأخبار تقول إن نظام الجنرالات الديكتاتوريين الحاكمين في نيجيريا قد سرقوا ما لا يقل عن ثلاثمائة واثنين وخمسين ملياراً من الدولارات طيلة الأربعين سنة الماضية ووضعوها في البنوك الأجنبية. وحتما يفعل الشيء نفسه العديد من حكام العالم الثالث وعائلاتهم وبطانتهم. وفي الوقت ذاته فإن سبعين في المائة من شعب نيجيريا وربما الشعوب الأخرى تعيش تحت مستوى خط الفقر المدقع. وبالتالي فهناك تواطؤ على الشعوب من الداخل والخارج، والنهب والسلب جارٍ على قدم وساق..

لا أستطيع أن أتوسع أكثر في قراءة هذا الكتاب المهم الذي يأخذ عليه البعضُ الإغراقَ في جَلد الذات والنزعة «العالمثالثية» المتطرفة لدى بعض مثقفي الغرب. ولكن على الرغم من ذلك فإنه لشرف لـ«جان زيغلير» أنه يهتم كل هذا الاهتمام بعالم الجنوب الفقير. إنه لشرف له أن يدين اختلال التوازن ما بين عالم الأغنياء الشبعانين إلى حد التخمة وعالم الفقراء الذين يتضورون جوعاً. إنه يثبت من خلال هذا الكتاب والكتب التي سبقته أنه فعلا من أحفاد جان جاك روسو العظيم، السويسري مثله. لقد أردت فقط التنويه بالكتاب من أجل لفت الانتباه إليه وربما ترجمته إلى لغة الضاد بسرعة. ولكن أرجو ألا نستنتج منه نتائج خاطئة تصب في مصلحة إدانة الغرب فقط ونسيان أخطائنا وجرائمنا نحن. أرجو ألا يستخدمه البعض لتأييد طروحات الآيديولوجيا القومجية الأصولية التي تلقي بالمسؤولية دائماً على الآخر والتي سقطت مؤخراً بسقوط صدام حسين والطالبان. ولكنها لا تزال مستمرة وبشكل غث، متخلف، استلابي، على شاشات الفضائيات الديماغوجية العربية.

هذه هي الحقيقة المُرّة وعلى ضوئها ينبغي أن نفكر في نهايات هذا العام في كيفية حلحلة الأمور ولو قليلا. فمسيرة البشرية نحو التقدم والخير والنور والعدالة لا تزال ممكنة على الرغم من كل شيء وإن كانت لا تزال مرهقة وطويلة. وكل عام أنتم بخير.

* على هامش كتاب المفكر والنائب السويسري وأستاذ علم الاجتماع في جامعة جنيف والمقرر السابق لشؤون التغذية في العالم والعضو الحالي للجنة الاستشارية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة البروفسور جان زيغلير: الحقد على الغرب. منشورات البان ميشيل.