هل الأنثى أصل أم فرع...؟

معارك النحويين واللغويين حول نون النسوة وتاء التأنيث

TT

محيي الدين اللاذقاني قبل الحروب العسكرية ومفاوضات فك الاشتباك على الحدود كانت هناك محاولات اصعب لفض النزاعات على جبهتي المذكر والمؤنث، وهي حروب خاضها النحويون واللغويون لصالح جنسهم، فافترضوا لتثبيت سلطتهم ان التذكير اصل، والتأنيث فرع وان المذكر والمؤنث اذا اجتمعا غلب الاول الثاني، فتحذف نون النسوة حكمة حتى لو كان الحديث عن مائة انثى بينهن رجل واحد.

ولو كانت للنساء سلطة على النحو من بداياته وكانت هناك نحويات ولغويات لتغيرت هذه الصورة ولهتفن جميعا قبل نوال السعداوي بعشرات القرون «الانثى هي الاصل».

وغلبة المذكر للمؤنث مسألة نظرية وافتراضية، فالواقع يقول غير ذلك وكم من ذكر يبطح ويشج وتخسف به النساء الارض رغم أنف اللغويين والنحاة الذين ما نظنهم ألغوا في قضية واسرفوا فيها كما اسرفوا وألغوا في مسألة المؤنث والمذكر.

والذين تناولوا التأليف للمذكر والمؤنث خاصة بالعشرات ومنهم الاصمعي والمبرد، وابن جني وابن حاتم السجستاني وابن الانباري، والمفضل بن سلمة، والفراء، وابن فارس والتستري وغيرهم كثير تطرقوا للقضية على غير تخصص ودون افراد كتاب خاص، فالمسألة تستهوي النقاش وتستجيب للمكبوت، والمخفي في الذات العربية.

ولعل آخر واطرف ذلك الرعيل الذي افرد كتبا خاصة للمؤنث والمذكر. شيخ جليل من الهند اسمه ذو الفقار احمد النقوي وضع في نهاية القرن التاسع عشر كتابا اسماه «المعجم المبتكر في بيان ما يتعلق بالمؤنث والمذكر». و«المبتكر» جاءت طبعا لدواعي السجع وليس للتشجيع على الابتكار، فالشيخ النقوي الذي نص في كتابه انه «من اهل البيت ومبرأ من كيت وذيت» سار في معجمه على نهج القدماء من حيث ترتيب المعاجم وتميز عنهم بافراد فصول خاصة اقحمها في الموضوع مما اعطى لمعجمه نكهة مختلفة وطريفة.

* شجرة إبليس

* ومن امثلة ذلك الاقحام انه وبعد ان ذكر في حرف الخاء ان الخمر تذكر وتؤنث على عدة مذاهب ليس بينها الاصمعي الذي يصر على انها انثى، وبعد هذا التحديد والتفريق واعادة كل رأي لصاحبه انطلق المـؤلف على سجيته ليضيف فصلا عن «اصل الخمر واول من اعتصرها وما السبب». وقد افتتح ذلك الفصل باستعارة قصة من كتاب «حياة الحيوان» للدميري نسبها الدميري الى آدم عليه السلام في باب «الكلام على الطاووس». وملخصها ان آدم عليه السلام لما غرس الكرمة جاء ابليس فذبح طاووسا على جذعها فشربت دمه، فلما طلعت اوراقها ذبح عليها قردا، فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح اسدا فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيرا فشربت دمه فلهذا تعتري شاربها هذه الاوصاف الاربعة، فحين تدب في اعضائه يزهو كالطاووس، فإذا اوغل صفق ورقص كما يرقص القرد فإذا زاد عن ذلك راح يعربد كالاسد ثم تنحل عرى قوته، فينعقص كما تنعقص الخنازير وينام.

ويلحق النقوي هذه الحكاية بأخرى تعطي للمسألة بعدا آخر عن سلطان ينقذ حمامة من الثعبان، فتحضر له بذور الكرمة على سبيل الشكر. فلما زرعها واينعت العناقيد واعتصرت جربها على قاطني دار للعجزة بينهم الطريح والمقعد والضعيف، فلما دارت عليهم صفقوا وغنوا ورقصوا وقام المقعد ومشى، وهذه القصة وغيرها يستلفها الشيخ ذو الفقار النقوي من المسعودي صاحب «مروج الذهب» منسوبة لملوك السريان، وللمسعودي هذا كتاب مفقود اسمه «الندامى» وهذا موضوع آخر اكثر فيه العرب الذين يقودهم موضوع المذكر والمؤنث تلقائيا الى شروط النديم وموضوع المنادمة، وكي لا نشت في هذا الجانب، وهو عويص ومعقد وقضاياه اشكالية كان يطرقها ادباء من القرن الثاني الهجري، لكننا لا نستطيع سبر غورها في هذا العصر المتقدم، لذا نظل مع النقوي في تذكيره وتأنيثه لنكتشف انه يجيز تأنيث «الامام» على مذهب ابن السكيت في كتاب «المقصور والممدود» الذي ذهب الى ان العرب كانت تقول عن الانثى حين تؤم «امرأة امامة» اما حين تتولى الولاية او الامارة فكانوا يحتفظون للمنصب بالتذكير ويكتفون بالقول «عاملنا امرأة» و«اميرنا امرأة» وهو لا يكتفي بذلك انما يجيز تأنيث الخليفة والسلطان، وقد اضاف يوسف مروة محقق معجم النقوي الى هامش تأنيث السلطان قول الفيومي في المصباح: «الخليفة بمعنى السلطان الاعظم فيجوز ان يكون فاعلا لأنه خلف من قبله أي جاء بعده ويجوز ان يكون مفعولا لأن الله تعالى جعله خليفة او لأنه جاء بعد غيره لقول تعالى في الآية 165 من سورة الانعام «هو الذي جعلكم خلائف الارض».

* العلة والمعلول

* ومن السلطان فاعلا ومفعولا الى مسألة كثيرا ما نخطئ في استخدامها حين نطلق اسم الثدي على صدر الرجل والمرأة، وهذه مسألة يتسامح فيها الجوهري، والفيومي، لكن الحريري في «درة الغواص» يخطئ مستخدمها ويقرر ومعه الخفاجي ان الثدي لفظ يختص بالمرأة، فإذا كان الحديث عن صدور الرجال وجب ان نقول «ثندوة»، وهنا لا يمكن فض الاشتباك على الاطلاق فقد جاء لغويون لهم باع طويل وبينهم ابن فارس ليزعموا ان الثندوة تستخدم ايضا بديلا عن الثدي في صفات اعضاء النساء.

ومن عجائب العرب في نعتهم على ذمة النقوي انهم وبعد تأنيثهم لما لا يؤنث يذكرون البطن والفرج لقول شاعرهم:

فإنك ان اعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وهم لا يكتفون بادخال تاء التأنيث على الافعال والاسماء انما يدخلونها على الحروف فتلحق بحرف الجر حين يكون المجرور مؤنثا:

فقلت لها اصبت حصاة قلبي وربت رمية من غير رام والجار والمجرور كالفاعل والمفعول تخال ان خلفه منطقا ثم تكتشف ان موازين القوى التي تسير السياسات تلعب دورها ايضا في التقديم، والتأخير والترجيح، فالشوفينية والعنصرية وجدتا في اللغة وفي الواقع اما اين غرستا اولا، فهذا سؤال اصعب من البحث عمن اتى اولا البيضة ام الدجاجة.

ان اللغة نتاج الحياة وحين يكون الواقع مليئا بالتمييز، وتكون للرجال الكلمة العليا يصبح المذكر اصلا والمؤنث فرعا، لكن هذا التوزيع يحسم الحرب ظاهريا. فكما ان خلف كل علة معلولا، فإن خلف كل رجل انثى تسيطر عليه، وتعتقد انها يجب ان تكون امامه، لأنها اجدر منه بالتقدم، لكنها ونظرا لأنها ليست من يصنع قواعد التعامل والتقديم والتأخير تكتفي كجداتها بالسيطرة الخفية وتسيير الامور من خلف الستار، فالنساء منذ الأزل يمسكن بالدفة، ويحددن اتجاه البوصلة، ويطلبن من الرجل ان يجدف بعد ان يخلقن له عالمه الوهمي، فيخيل اليه انه يقود والواقع انه يقاد.

وبما اننا اكثرنا من امثلة اللغة ومحفوظاتها في حديث هذه الحرب السرية التي لا تنتهي فلنعرج على الحياة باتساعها، ففيها الكثير مما يؤكد هذا المنحى ليس في عصر التدهور السياسي انما في حقب الازدهار ايضا. ففي عز سطوة الدولة العباسية بخلفائها الاقوياء لعبت جارية مثل عريب دورا سياسيا بارزا وسيطرت على عدة خلفاء بينهم المأمون الذي قبل بتزوير دفاتر الدولة الرسمية للتغطية على الثمن الباهظ الذي تم دفعه لشراء تلك الجارية الخطيرة التي تمردت على نون النسوة وعلى تاء التأنيث واستخدمت ذكاءها وفتنتها لتفعل ما تشاء رغم انف الذكور.

* تزوير الدفاتر

* وقصة شراء المأمون لعريب جديرة بأن تروى، وهي منسوبة في اكثر كتب الاخباريين الى ابراهيم بن رباح كبير المحاسبين عند المأمون الذي دفع نيابة عن مولاه مائة الف درهم للمراكبي سيدها ومائة الف درهم أخرى لاسحاق بن ابراهيم الموصلي الذي زين شراءها في عين الخليفة الذي اراد مكافأته على النصيحة، ولأن محاسب الخليفة لا يستطيع ان يثبت ذلك التبذير على الجواري والسماسرة في الدفاتر فقد كتب ان المائة الف الاولى خرجت في ثمن جوهرة والثانية لصائغها ودلالها، فلما جاء الفضل بن مروان مدقق الحسابات وشاهد ذلك انكره واوصل الخبر للمأمون الذي انكره بدوره فلما استدعى كبير محاسبيه لسؤاله عن الامر شرح له الموقف وقال: ايهما اصوب، يا امير المؤمنين ان اقول ان الدراهم خرجت في ثمن جارية وصلة مغن ام ان افعل ما فعلت.

وتمضي الحكاية فنذكر ان الخليفة آزر موقف كبير محاسبيه واورث عريبا لمن جاء بعده، فشاركت في التآمر على خليفتين لأن حياة القسوة التي عاشتها علمتها قبل احمد شوقي بعشرات القرون ان الدنيا تؤخذ بالقوة والعزم.

وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ان اللغة بنت الحياة وتفاصيلها ومرآة لموازين القوى فيها وحين كانت للرجال اليد العليا صار المذكر هو الاصل في كتب النحاة واللغويين. اما ان تغيرت تلك الموازين ومعها قواعد الامر والطاعة، فلا شيء يمنع تغيير قواعد النحو لتصبح الانثى هي الاصل في كتب النحاة واللغويين، ولنا على ذلك اكثر من مثال على تأثير السلطة في اللغة، فالنحاة والاخباريون حين يتطرقون لاخبار زوجات المشاهير والمتسلطين بعد موتهم يقولون عما خلفوا من نساء، و«كانت تحته فلانة.. وفلانة..»، لكن حين يجيء خبر سلطانة او اميرة حاكمة يقولون عن زوجها «وكان تحتها...».

فالقوة قادرة على تغيير القواعد ومن يمسك بالسلطة وزمام الامور يفرض منطقه، ونحوه وصرفه ولغته.

لقد نقل النقوي عن الكوفيين قولهم في التفريق بين الهاء والتاء «قال الكوفيون الهاء اصل التاء لما رأوا مشابهة الهاء للألف، وليس هذا بشيء لأن التاء في الاصل والهاء في الوقف، والاصل هو الوصل...».

وما دام الاصل هو الوصل فإن اكتمال الوصل ـ بالاذن من التقوى ـ لا يتم في احسن تجلياته إلا حين تتوقف تلك الحروب السخيفة بين الجنسين وينظر كل منهما للآخر كإنسان له كافة الحقوق وعليه كامل الواجبات. وحين يتم ذلك يمكن ان تحل واو الجماعة مكان نون النسوة في التعبير عن جنسين لا غنى لاحدهما عن الآخر بالرغم من كل تخريجات اللغويين والنحاة وكل تنظيرات رائدات التحرر النسوي اللواتي رددن على التعصب بمثله، واوصلن المعركة الى تخومها القصوى. وكل حرب، كما تقول الامثال الشعبية «اذا ما كبرت ما بتصغر» فمتى ـ وقد طالت الحرب ـ نتعظ ونكف عن العنصرية اللغوية والاجتماعية ونعف في تعاملاتنا مع النساء عن التوافه والمنغصات وصغائر الامور...؟