معنى انبعاث الكوفية الفلسطينية

محمولة على الرؤوس والأكتاف من طوكيو إلى ريو دي جانيرو

TT

عادت الكوفية الفلسطينية التي كان اتفاق أوسلو - بما حمله من آمال بالسلام - قد خفف من وهجها. فجأة، أثناء الحرب على غزة، بدا وكأن العالم كله تذكر هذه الكوفية، ونبشها من ذاكرة سحيقة، وخلال شهر صارت الرمز الأول والأشهر. لكن هذا الانبعاث المفاجئ للكوفية أثار قلق البعض من أن تكون الظاهرة مجرد تفريغ للعواطف وتكفير عن الإحساس بالذنب تجاه الضحايا بأبخس الأثمان وأسهلها، فيما يرى غالبية المثقفين الذين سألناهم، أن الكوفية رمز متفجر يفعل فعلته. فماذا وراء الكوفية؟ وما دلالات عودتها؟

فجأة أصبحت الكوفية الفلسطينية حاضرة، تباع وتشترى في المتاجر الكبرى ومن الباعة الجائلين في آن واحد. هؤلاء الباعة الذين تتبدل بضائعهم حسب المناسبة بطريقة تثير الدهشة. إنهم منظمون بدرجة غريبة، والتحول من بيع دمى بابا نويل في رأس السنة إلى ترويج أعلام الفرق الرياضية الكبرى في الساعات السابقة على أي مباراة ثم استنساخ البضاعة نفسها، كلها أمور توحي بأن هناك قوى اقتصادية خفية تجمع هؤلاء البائعين ليصبحوا أشبه بتنظيم ضخم، أجواء تصبح مثيرة إذا ما تم التعامل معها من هذا المنظور. وانطلاقاً من ذلك يتم تفسير ما يحدث من جانب البعض بطريقة تتجاوز كل ما يمكن أن يقال عن (فهلوة) التجار الذين يستفيدون من كل شيء حتى من مشاعر التعاطف. ويتحول الأمر إلى البحث عن مبررات أخرى مثل تسطيح القضية الفلسطينية في أذهان الناس، وتفريغ الرمز من مضمونه بتحويله إلى تقليعة. لكن في المقابل، يستبعد آخرون كل ذلك ويؤكدون أن دلالات ما يحدث إيجابية.

إحدى مجموعات «الفيس بوك» تكونت تحت عنوان دال هو: «لا لتحويل الكوفية الفلسطينية لموضة.. الكوفية قضية». عدد أعضاء المجموعة تجاوز الستة آلاف اجتمعوا ليشجبوا الاستخدام التجاري لرمز من رموز المقاومة. هنا يصبح استحضار التاريخ حتمياً. في البيان التأسيسي للمجموعة ورد التالي: «اعتاد الفلاح أن يضع الكوفية لتجفيف عرقه أثناء حراثة الأرض ولوقايته من حر الصيف وبرد الشتاء. ارتبط اسم الكوفية بالكفاح الوطني منذ ثورة 1936 في فلسطين، حيث تلثّم الفلاحون الثوار بالكوفية لإخفاء ملامحهم أثناء مقاومة الإمبريالية البريطانية في فلسطين، وذلك لتفادي اعتقالهم أو الوشاية بهم، ثم وضعها أبناء المدن وذلك بأمر من قيادات الثورة آنذاك. وكان السبب أن الإنجليز بدأوا باعتقال كل من يضع الكوفية على رأسه ظناً منهم أنه من الثوار. فأصبحت مهمة الإنجليز صعبة باعتقال الثوار بعد أن وضعها كل شباب وشيوخ القرية والمدينة. كانت الكوفية رمزاً من رموز النضال. وكانت كوفية أجدادنا تمتص عرق جباههم، وفي المعارك توقف نزيف الشهداء وتلحم جراحهم، كانت عز الرجال. مرت عقود من الزمن والقضية مستمرة والكوفية على أكتاف الثوار، ومازالت على أكتافهم وعلى كتف كل من يؤمن بثورة لاسترجاع الحق، وها هي موجودة أيضاً على أكتاف التافهين الذين لا يملكون الوعي ولا حتى الإدراك. هي اليوم أصبحت موضة، ولكن الموضوع أكبر بكثير من أنها أصبحت في سياق حملة تجارية، إن كل من يملك الإدراك والوعي الكافي يدرك أنها حملة وجدت ووجهت في مجتمعنا العربي إلى المحلات العالمية المشهورة لإزالة رمز الكوفية الذي خلقت من أجله. سُوّقت بعدة ألوان، نزعت براءة الألوان عندما وضعت لهذا الهدف، والأغرب أنه نجح من أراد أن يزيل فكرة الكوفية المناضلة الثائرة من أذهان هؤلاء الشبان والشابات في مجتمعنا».

وعلى «الفيس بوك» أيضاً تكونت مجموعة أخرى تحمل وجهة نظر شبه عكسية، تبنت شعار: «لنرتدِ الكوفية الفلسطينية جميعاً.. تضامناً مع أبناء غزة الصامدة». هنا يتم استحضار الرمز في مواجهة ممارسات لا تستطيع الغالبية التعامل معها بفاعلية أكبر. وعدد الذين اختاروا طريق الدعوة للنضال عبر الرمز تجاوز الألف في هذه المجموعة. اختزلوا دعوتهم في العبارات التالية: «هي دعوة عامة إلى كل الشباب العربي، إلى كل الشرفاء العرب، لنرتدِ جميعا الكوفية الفلسطينية تضامناً مع أبناء غزة الصامدين، لنعلن للعالم بأسره أنهم ليسوا وحدهم... لنرتدِ الكوفية الفلسطينية وهو أضعف الإيمان».

غير أن الخلاف الحادث على «الفيس بوك»، يبدو مستبعداً لدى المثقفين، فالأمر محسوم لديهم على غير العادة.

للروائي علاء الأسواني ابنتان، عمر الكبرى ثلاثة عشر عاماً والثانية تصغرها بعام. عاد ذات يوم فوجد أن كلاً منهما قد اشترت كوفية فلسطينية. لسنوات سابقة كان يبذل الأسواني مجهوداً لربط الفتاتين بالشأن العام دون نجاح يذكر. وهو الأمر الذي جعله يسعى للتأكد من دوافع شرائهما الكوفية. يوضح الأسواني: «كنت مهتماً بالتأكد من أنهما لم تقتنيا الكوفيتين لأسباب جمالية متعلقة بالموضة. وسعدت عندما عرفت أن صديقاتهما كلهن اشترين كوفيات مشابهة وحرصن على ارتدائها. ورغم سريان شائعة أن الأمن سيعتقل من يرتديها، أصررن على عدم التخلي عنها». يرى الأسواني في الأمر: «دلالة إيجابية جداً تدل على تعاطف عام حقيقي وصادق. وهو تعاطف موجود عند المصريين منذ النكبة. ومصر قدمت ما لم تقدمه دولة عربية، غير أن المجازر الأخيرة جعلت التعاطف أكثر حدة». البائعون الجوالون الذين يحتلون ميادين القاهرة الرئيسية استبدلوا بضاعتهم السابقة بالكوفية، وتخلوا عن دُمَى وقبعات رأس السنة، وأعلام الفرق الكروية الشهيرة، واستحدث من يمدونهم بالبضائع سلعة جديدة. هناك من يرى أنها (الفهلوة) المصرية، وهناك من يرى أنها شطارة تجار عابرة للحدود بدليل انتشار الكوفية في بلدان عربية عديدة. وهو ما لا يرى علاء الأسواني مشكلة فيه: «حتى لو أدى الأمر إلى بعض المكاسب التجارية، لأن المحصلة النهائية هي خلق وتكريس التعاطف مع القضية». لكن هل يمكن أن يكون الاكتفاء بالتعاطف هدفاً بعيداً لجهات ترغب في تفريغ القضية من مضمونها لصالح تفاصيل صغيرة؟ سؤال يحمل قدراً لا بأس به من الارتياب غير أن مضمونه لم يجد تأييداً من الأسواني: «التفريغ لا يأتي من إعلان التضامن. قبل سنوات طويلة كنا طلاباً في الجامعة، نضع شارات فلسطين على صدورنا رغم ما قد يجلبه لنا هذا من متاعب. ولم نكن نشعر أن ما نفعله هو تفريغ لمشاعرنا، بالعكس كان هذا يجعلنا على ارتباط بالقضية دائماً. التفريغ لا ينتج عن الكوفية أو العلم بل عما يفجره الإعلام الرسمي من قنابل وهمية للتغطية على القضية الأساسية».

هل هي المبالغة التي تشيع حالة من القلق من أن يتحول الأمر كله إلى مسرحية هزلية؟ الكثيرون يرتدونها، وهناك من اشتراها ووضعها بشكل ظاهر في سيارته. حتى المطرب الذي عوقب يوماً بتهمة التهرب من الجندية ارتداها ليجسد المفارقة.

لكن كل ذلك لم يثر ارتياب المثقفين الذي عادة ما يطفو على السطح لأسباب أوهى من ذلك. من وجهة نظر الكثيرين يظل الرمز يحمل دلالاته المتفجرة، وإن لم نكن قادرين على الفعل فليكن البوح. ومثلما حمل حذاء الزيدي قبل أسابيع بوحاً صارخاً، يصبح للكوفية حضوراً جمعياً. إنها الأيقونة التي تجعل الأمر كله يكتسب نكهة الأسطورة، لتتعدى الدلالة حدود الرمز حسبما يرى الشاعر عبد العزيز موافي: «الحطة الفلسطينية مثل العلم الفلسطيني أو المصري، إنها رمز أوضح وأبسط مما يفسره، إنها حالة من إظهار التعاطف مع المظلوم ممن لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك». ويسأل موافي: «ما هو البديل الذي يمكن أن يفعله الجميع بخلاف ارتداء الكوفية؟ إنها تعبير عن التضامن ولو بالقلب». وفقاً لوجهة النظر هذه، يتم تلقائياً استبعاد فرضية تسطيح القضية واختزالها في الكوفية، والمبرر موجود: «التسطيح يمكن أن يكون مطروحاً عندما أكون قادراً على فعل إيجابي ثم ألجأ إلى ما دون ذلك. لكن ما الذي كان يمكن أن يفعله كل من ارتدى الكوفية؟».

قبل سنوات كان موافي ضابطاً في الجيش، ويروي: «عندما حدث اجتياح لبنان عام 1982 طلبت السفر إلى بيروت بشكل شخصي، لكنني لم أحصل على موافقة، فاضطررت إلى التواري خلف الرمز. لهذا أنا أرى أن ما يحدث إيجابي لأنه يشير إلى أن كثيرين اختاروا الانحياز إلى جانب الفلسطينيين ورفض ما يحدث. والاختيار في حد ذاته فعل إيجابي، حتى لو روج البعض للكوفية لأسباب تجارية، إذ لا يجب أن نفكر فيمن باع، بل من اشترى».

منذ سنوات يضع الأديب سعيد الكفراوي علم فلسطين في واجهة منزله. كان يسكن في حي مدينة نصر عندما فعل ذلك، ثم انتقل إلى المقطم وتمسك بالفعل نفسه. لهذا يرى أن الرمز مهم في ذاته: «ما يحدث يدل على أن المصريين يعودون إلى السياسة بعد أعوام من تثبيط الهمم والادعاء بأنهم خرجوا من التاريخ ولم يعد لهم دور. ليس الأمر مجرد فولكلور، بل هو تأكيد لحقيقة أن المصريين كانوا دائماً الأكثر ارتباطاً بالقضية». انطلاقاً من هذا يرى الكفراوي أن الاكتفاء بالرمز ليس شراً على الإطلاق: «أنت مكتفٍ بالرمز ما دام هذا هو اختيار الأنظمة الحاكمة، ولم يبق لنا سواه لنضغط على الأنظمة السياسية ونثبت للعالم أن القضية ما زالت مطروحة رغم أن الصراع لم يعد مطروحاً رسمياً». ويؤكد الكفراوي أنه مثلما علق العلم الفلسطيني على باب منزله منذ سنوات (ناقلا الفكرة عن صنع الله إبراهيم) كان يود أن يرتدي الكوفية الفلسطينية لكنه خشي من تأويل الأمر على أنه مزايدة.

لسنا وحدنا من نهتم بالرمز، فعلى الجانب الآخر يقف من يراقب كل ذلك ليبدأ ممارسة الإرهاب بالكلمة في الوقت المناسب له. في مايو الماضي ظهرت الإعلامية ريتشيل راي ضمن برنامج دعائي لأحد المطاعم الأميركية العملاقة التي تملك فروعاً في المنطقة العربية، كانت ترتدي وشاحاً يشبه الكوفية الفلسطينية. وفجأة بدأت الحرب، وتبنت ميتشيل مالكين، المعلقة بشبكة «فوكس نيوز» حملة في موقعها على الإنترنت زعمت فيها أن: «الكوفية هي الوشاح التقليدي للرجال العرب، والذي أصبح يرمز للجهاد الفلسطيني الدموي». وأنه الرداء: «الذي روج له ياسر عرفات ويعتبر الزينة المعتادة للإرهابيين المسلمين الذين يظهرون في مشاهد الفيديو الخاصة بقطع الرؤوس واختطاف الرهائن».

لم تكن مالكين وحدها، بل تصاعدت الحملة حتى أجبرت المطعم العملاق على وقف بث الإعلان. وحاولت المنظمات العربية وتلك المناهضة للعنصرية التصدي لذلك دون جدوى، مما جعلها تطلق بعد ذلك دعوة لمقاطعة هذه المطاعم. لم يتحقق أحد بعد من مدى نجاحها، لكن يبدو أن المجازر الأخيرة أسهمت ولو جزئياً في تحسين صورة الكوفية لدى الآخر. فقد ظهرت على أكتاف أجانب في مظاهراتهم ضد المجازر في أوروبا وأميركا، وهو ما أعطى انطباعاً بأن الكوفية التي كانت رمزاً إرهابياً فيما مضى، بدأت تسترد دلالتها الأولى كرمز لرفض العدوان والتعاطف مع الضحية.