بضع قصص قصيرة وقصيدة توجته أباً للحداثة

سيرة جديدة عن إدغار ألن بو.. صانع الخرافات الأكبر

TT

إدغار ألن بو، أو، كما يسميه بعض النقاد، الأميركي صانع الخرافات، كان أيضاً، إنساناً ساخطاً، بل، وشديد السخط، إلى حد أنه دمّر حياته في الشرب وجرعات الأفيون القاتلة. كان منغمساً في الشراب، متأرجحاً ما بين مشاجرات الحانات الرخيصة ومستشفى الأمراض العقلية، لكن الذي نال منه أخيراً هي المخدرات. عاش بو قبل أوانه بقرن من الزمن. مات عام 1849، عن أربعين عاماً، في مستشفى بلتيمور بسبب الجنون أو الكحول أو، ربما، بسبب الإنهاك الشديد. بعد ذلك بثمانين عاماً، أشار إليه الكاتب الإنجليزي د. هـ. لورنس في معرض مقالاته عن كتّاب عصر النهضة الأميركيين قائلاً «إن أقصى جنون الحداثة الفرنسية أو المستقبلية، لم تصل بعد إلى مستوى تطرف الوعي الذي وصله بو، ملفل، هوثورن أو ويتمان».

يشير بيتر أكرويد، كاتب هذه الببليوغرافيا، في الفصل الأخير من كتابه، إلى أن تأثير بو امتدّ من أواخر القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، ومن بودلير والرمزيين وحتى كانون دويل والقصة البوليسية، ومن الروايات العلمية لجونز فيرن وحتى نيتشه. ترتكز شهرة بو على بضع قصص قصيرة مهمة، بسبب روحها الخيالية الجامحة، وتصوراتها ما فوق الطبيعة، التي تتسم بالتشاؤم ومعانقة الموت. ومقارنة مع روائيي هذا العصر كثيري الإنتاج، يكاد نتاج بو يكون ضئيلاً. رغم ذلك فإن أعماله ساحرة وفتانة، وقصصه مثل «سقوط منزل أوشر»، أو «القبر والبندول»، تتميز بمسحة سوداوية قاتمة، وتشي بنغمة حداثية متفردة.

يعتبر بو موضوعاً مثالياً بالنسبة لكتاب الببليوغرافيا، لما اتسمت به حياته من الغرابة والغموض، خاصة لبيتر أكرويد، الذي أجاد في تصوير الحالة المرضية لـ بو وتصوراته الخارقة في ما وراء الطبيعة، وهو أيضاً موضوع عسير بالنسبة لكثير من الكتاب.

ولد بو عام 1809 في بوسطن، ماساشوسيتس، لأبوين ممثلين، يعملان في المسرح المتجول. في عامه الأول، أصبح يتيماً، فنقل للعيش تحت رعاية أسرة جون ألن الصديقة، التي تقيم في فرجينيا وتعمل في تصدير التبغ. إن نظرة بو المشمئزة للعالم وما يتعلق به، ونوبات شرب الكحول المدمّرة، يعزيها الكاتب إلى حالة يتمه وتجارب طفولته ووحدته. بالنسبة لأغلب سنوات حياته القصيرة، كان بو مشاكساً ورافضاً والده بالتبني، مما جعله يهرع هارباً من الآخرين الذين يمدوّن إليه يد المساعدة؛ وحتى الأصدقاء القريبون أحسّوا بجحوده، ونكران جميله. عام 1817، أي، في عامه السابع، أُرسل أدغار ألن بو إلى مدرسة داخلية في إنجلترا. بوجه شاحب، وحالٍ مزرية، كان بو تلميذاً في مانور هاوس الواقعة في ستوك نوينغتون، ثم في قرية بشمال لندن (بعد سنوات على ذلك، استحضر بو أيام ستوك نوينغتون في قصته الشبحية «وليم ولسون»، التي نشرت عام 1839). بعد ذلك، وفي جامعة فرجينيا، هذب بو، شخصية «الجنتلمن» الجنوبي فأصبح لطيف المعشر، يشرب بأناقة، لكن ديونه تكاثرت.

حينما وصل بو إلى نيويورك عام 1831، بعد خدمة عسكرية قصيرة في الجيش الأميركي، كانت المدينة تزدحم بالبيوت والحانات التي تعجّ بالسكارى، وتعرف باسم « البصلة الكبيرة»، وذلك للروائح غير الطيبة المنبعثة من فضلات الخيول. وكان المورفين، الذي استخدم مؤخراً، كمخدر، في الحرب الأهلية، ممكن الحصول عليه، ولعل بو قد استخدمه. وجد بو في الشراب، ثمة شيء كالقداسة، فغرق فيه، وعاش في غرفة قذرة من غرف ساحة ماديسون، يقتات بشكل زهيد على أجور متواضعة من الصحافة. كان بو منجذباً بشكل لا يقاوم نحو النساء البدينات، وربما، مصدر ذلك، موت والدته المبكر بمرض الهزال أو السل. التقى وأحبّ ابنة خالته فرجينيا كليم، التي ستموت هي أيضاً، بالسل. قدر، لم يكن من السهولة التغلب عليه بتنقل الأسرة المتواصل، ولكن، سعياً وراء عمل بو ومستقبله كصحافي وناقد ومدير تحرير مجلة، انتقلوا من بالتيمور إلى ريغموند ونيويورك وبالعكس، وكان من النادر أن تستقر الأسرة لأكثر من شهر في مكان واحد.

كانت زوجته، الشابة، فرجينيا، قد جلبت ثمة سعادة داخل حياة بو المتفجرة. يعتقد أكرويد، بأن بو، ربما، وجد في فرجينيا تعويضاً له عن الأم. لقد أصبحت شريكة معاناته الطويلة والمعجبة الدائمة به، وربما كانت تستطيع أن ترى إلى داخل خداع نفسه المصابة بالكحول. ماتت فرجينيا قبله بسنتين، فقد حصدتها الكوليرا أو السل عام 1847. لم يكن بو كحولياً، كما يؤكد أكرويد، وإنما شربه كان على علاقة بمرض جنونه الغريب، «إنها محاولة لتشخيص الازدواجية والتناقض في تجاذبات مزاجه» كانت حياة بو مثل دراما ملكية، دائماً ما يعلن فيها عن قدره المشؤوم، محيياً كل شيء، من موت زوجته إلى ملء جيوبه الفارغة بالرثاء والنحيب العالي: «لأجل الله، ارحميني وأنقذيني من الدمار...آه، أيها الرب، أغثني. ما الذي عندي لأعيش من أجله؟». حينما تقدم الأرمل بو للشاعرة هلين ويتمان طالباً يدها، لم يكن يملك من تودد لها غير وعدٍ «للذهاب معك إلى ظلام القبر». لاغرابة إذن في أن بو كان يعيش خارج أعماله. كان من الصعوبة أن يعرف نفسه في قصص مثل «القبر والبندول»، «بيرينس وليجيا»، كما يرى أكرويد «إنها، كما، لو كتبت بواسطة آلة أوتوماتيكية».

إثر موت زوجته فرجينيا، بدا بو وهو في طريقه إلى تدمير نفسه. في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1849، وبعد محاولته صعود القطار المتجه إلى نيويورك، وجد في شبه غيبوية، مرمياً على أرض حانة بلتيمور. بعد ذلك بوقت قصير فارق الحياة في مستشفى محلي. كان تأثيره بعد موته، كبيراً. ففي فرنسا اعتبره الفرنسيون على أنه قد أزاح الأوربيين الذين تطمح كتاباتهم إلى «الانحطاط في الغموض» و«الفن من أجل الفن». ترجمه بودلير إلى الفرنسية، واعتبره أكبر «مناهض للأميركيين»، لكن النقاد يرون أن بودلير كان مخطئاً، فبطل بو، المخبر، الكابتن أوكست دوبين في قصة «جرائم في شارع مورغ» ربما يكون فرنسياً، لكن ذلك لا ينفي كون بو كاتب «يانكي» أصيل، وأنه «وريث حقيقي لبنجامين فرنكلين».

غير أن قصيدته «الغراب»، هي التي وطّدت إدغار ألن بو وغرسته في وعي الجمهور، بحيث كانت من الشهرة إلى حد أنه لا يكاد يظهر أمام الناس حتى يطلبوا منه قراءتها. إنها حلم يقظة، مرثاة، لحن حزين، وبخاصة، لازمتها الغنائية الحزينة «ليس بعد الآن»، التي لم تزل تتردد في الخيال الشعري الأميركي.