الطيب صالح.. نهاية رحلة الشمال

TT

كنت كغيري قد قرأت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» في نهاية السبعينات قبل أن أعرف المؤلف شخصيا، الذي سمعت عنه الكثير من أصدقائنا المشتركين، ومن بينهم احد الأقارب الذي ارتبط به بعلاقة وثيقة خلال زيارته اليتيمة لموريتانيا أيام توليه إدارة الإعلام في دولة قطر.

هالتني الرواية الفريدة التي حققت انتشارا هائلا أذهل صاحبها الذي لم يكن، لشدة تواضعه الجم، يرى فيها ما يستحق التنويه والإشادة. ففضلا عن السبك الإبداعي القوي في الرواية المذكورة شدتني بمشاهدها وشخصياتها التي لا تختلف في شيء عن سمات المجتمع الريفي الموريتاني، الذي كان الطيب يراه توأم المجتمع السوداني.

مضت سنون على قراءتي لرائعة الطيب صالح، قرأت بعدها كامل أعماله من رواية «عرس الزين» و«بندر شاه» والمجموعات القصصية الأخرى، ثم تعرفت على الرجل في لقاء عابر بتونس، في منتصف الثمانينات، وكان يومها موظفا ساميا في منظمة اليونسكو. شدني الطيب لأول وهلة بأدبه النادر ولطفه المميز وثقافته الواسعة. أذكر انه سألني عن العديد من الشخصيات الموريتانية التي التقى بها في مساره الوظيفي، من بينهم عمي الدكتور محمد المختار الذي زامله في اليونسكو، وكذا المرحوم عبد الله ولد اربيه، الذي عمل معه في مكتب اليونسكو بالدوحة، وكان يتحسر عليه مليا ويقول «إن له دينا كبيرا في عنقي.. فهو الذي علمني شعر ذي الرمة ففتح لي فتحا لا شكر يسده»، كما سألني عن العلامة محمد سالم ولد عبد الودود مفتي موريتانيا، الذي ذكر انه لم يجد أحدا في الدنيا يضاهيه في ذاكرته الأدبية واللغوية.

غاب الطيب عن عيني فترة، وإن بقيت أتابعه بانتظام في مقاله الأسبوعي الجميل في الصفحة الأخيرة من مجلة «المجلة» اللندنية، وأذكر انه خصص مقالاته الأولى فيها لزيارته لموريتانيا. ولم تكن موريتانيا بأدبها وصحرائها ورجالها غائبة في مقالات الطيب التي تذكرنا بمقابسات أبي حيان التوحيدي ورسائل الجاحظ، ولذا يمكن القول إن فقيدنا جدد أدب الإمتاع والمؤانسة الذي اختفى من الثقافة العربية منذ قرون طويلة.

تجددت لقاءاتي بالطيب في مهرجان الجنادرية، الذي كان يحرص على ارتياده سنويا، مهما كان الظرف والمشغل. وكم كنت أستمتع بالجلسات الصباحية الظريفة في بهو فندق «قصر الرياض» وفي الأماسي العذبة في بيت الراحل الشيخ عبد العزيز التويجري. وعلاقة الشيخ التويجري بالطيب صالح قصة طويلة تستحق الرواية، كتب بعض فصولها وألجمه الحياء عن بعض الفصول الأخرى، فالرجلان من الطينة نفسها كرما وأدبا وتواضعا.

حكى لي الطيب كيف تعرف في السبعينات على الشيخ التويجري، وسرد لي حكايات نادرة تجسد صداقتهما التي لا تزلف فيها ولا منفعة شخصية. ذكر لي بقهقهته الخافتة المألوفة دور صديقه الغريب الأطوار «منسي» في هذه العلاقة المميزة.

حبب إليّ الطيب شعر المتنبي الذي كان يحفظه بالكامل عن ظهر قلب، وعرفني على درر الأدب الإنجليزي الكلاسيكي، التي كنت أجهلها، وكان يقول لي «إنكم أيها الشناقطة سادة الأدب والشعر.. فلا يجمل بك جهل تشارلزديكنز».

عرف عن الطيب عزوفه عن السياسة وابتعاده عن الشأن العام، وان كان لم يخف نفوره من «ثورة الإنقاذ» التي قامت على تحالف البشير - الترابي، بيد أن مقالاته، التي عرّض فيها بحكام السودان الجدد، لم تخرج عن مألوف خطابه اللبق اللين. وقد سألته مرة لماذا يحجم عن الكتابة السياسية المباشرة وهو الذي بدأ تجربته المهنية صحافيا لامعا في القسم العربي بالإذاعة البريطانية؟ أجابني ضاحكا «يا أخي إن للسياسة فرسانها وأنا رجل عبيط لا أفهم في أمور الحكم والدولة شيئا.. وقد تعلمت من تجربة سيدنا المتنبي أن الأديب غير صالح للسياسة».

كنت على موعد هذا الصيف مع الطيب في مدينة أصيلة المغربية، التي ألف مهرجانها السنوي منذ التئامه، ولم يكن يغيب عنه أبدا. إلا أن الطيب لم يأت، وقد فهمت من تعبير ولسان حال صديقنا المشترك، الوزير الأديب محمد بن عيسى، أن صحة الرجل ليست على ما يرام. خلف غياب الطيب مسحة حزن في المهرجان المتألق الذي كان دوما أحد رموزه، بما يطلقه عليه من مسحة لطف وظرف في مسامراته الليلية المتصلة على شاطئ المدينة الهادئة التي أحبها كثيرا وكتب عنها بعض نصوصه الجميلة.

وفي الوقت الذي كنت أمني نفسي بلقاء الطيب صالح في مهرجان الجنادرية لهذه السنة، جاء نعي الرجل، وكأنه يذكرنا بتاريخ اللقاء السنوي الذي سيتخلف عنه، ربما لأول مرة منذ تنظيم المهرجان.

وإذا كان مصطفى سعيد بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» اختفى في نهايته الغامضة في إحدى قرى السودان النائية، هاربا من ظله الزائف، فإن الطيب يموت اليوم في المدينة نفسها (لندن) التي عاش فيها جل حياته متخفيا، على طريقة خوارق دراويش الريف السوداني الذي لم يغادره قط.