لعنة «موسم الهجرة إلى الشمال»

لندن: فاضل السلطاني

TT

في منتصف الستينات، نشرت مجلة «حوار» اللبنانية في أعدادها الأولى نصاً روائياً لشاب سوداني لم يسمع به أحد من قبل. وسرعان ما اشتهر النص في أرجاء الوطن العربي بسرعة قياسية من النادر أن تحصل مع نص منشور في مجلة متخصصة محدودة الانتشار. كان ذلك النص هو «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. نص أول مكتمل روائياً، سيترك تأثيره اللاحق ليس فقط على الرواية العربية، بل على الروائي نفسه منذ بدايته حتى رحيله أمس. سيُعرف الطيب صالح بهذا النص للأبد.

سيلتصق به الاسم بلا فكاك، مهما قدم من أعمال لاحقة ربما لا تقل أهمية عن «موسم الهجرة للشمال»، مثل «عُرس الزين» و«بندر شاه» بشكل خاص. ومن هنا، يصبح العمل الأول الناجح بشكل استثنائي بركة ولعنة في الوقت نفسه. بركة في البداية، ولعنة لاحقة. فكل مبدع يريد أن يتجاوز عمله السابق إلى ما هو أنجح منه، وأن يشكل نتاجه اللاحق علامة أخرى في مسيرته الإبداعية، وأن لا يقرن اسمه بعمل واحد، يكبر ويكبر حتى يطغى على اسم صانعه.

كتاب كبار في التاريخ الأدبي كانوا ضحايا أعمالهم الأولى، أو اقترنت أسماؤهم بعمل واحد معين. ما إن يذكر أحد تورغنيف، حتى تستحضرنا روايته «آباء وأبناء» بالذات، وليس أية رواية أخرى. وحشر دي. أتش. لورنس في «عشيق الليدي تشاترلي» إلى الأبد. وربما قاد النجاح المذهل لرواية «الحارس في حقل الشوفان» – حسب ترجمة الروائي الأردني الراحل غالب هلسا- مؤلفها الروائي الأميركي سالنجر إلى الصمت الأبدي، فقد انسحب إلى معتزله منذ نشر الرواية في الخمسينات، ولا يزال لحد الآن محتجباً عن العالم الخارجي، ولم ينشر أية رواية لاحقة، وربما كان خائفاً أن يفعل ذلك، ما عدا قصتين أقرب للنوفللا، ولم تثيرا اهتماماً يذكر.

وفعلت مواطنته هاربر لي صاحبة «قتل الطائر المحاكي»، روايتها الوحيدة، التي فازت بجائزة البوليتزر الأدبية الأميركية، الشيء نفسه، إذ اختفت تماماً عن المشهد الثقافي، ولم يعرف أحد أين مكانها، بعد أن اشتهرت روايتها بشكل فاجأها، وأصبحت من أشهر الأعمال الأدبية التي تحولت إلى أفلام سينمائية. وقام ببطولة الفيلم الذي حمل الاسم نفسه النجم الأميركي الشهير غريغوري بيك. ولا تزال محتجبة لحد الآن في مكان ما من بلدها، لكن روايتها بعد أكثر من خمسين سنة لا تزال تشهد إقبالا عالمياً في كل مكان.

عربياً، من الصعب أن نعثر على عمل أدبي راقٍ مستوفٍ شروطه الجمالية، قد أطلق صاحبه بهذا الشكل الكبير كما فعل «موسم الهجرة إلى الشمال» مع الطيب صالح. لقد راكم روائي كبير آخر مثل نجيب محفوظ شهرته عملاً بعد آخر في مسيرته الروائية الطويلة. ومن الصعب أن تعرفه بعمل واحد، أو يطغى على أعماله الأخرى عمل واحد حتى لو كان الثلاثية أو «أولاد حارتنا»، وكذلك الحال مع عبد الرحمن منيف، وإن يكن قد اشتهر بعمله الأول «شرقي المتوسط»، لكن لا أحد يقرنه به فقط، فهناك «مدن الملح» و«سباق المسافات الطويلة» و«الأشجار واغتيال مرزوق»، بشكل خاص.

هل جنت «موسم الهجرة إلى الشمال» على «بندر شاه» و«عُرس الزين» و«دومة ود حاد»؟ وهل كانت لعنة على الروائي نفسه؟

نعتقد أنها فعلت ذلك. وربما كرهها مبدعها مع الزمن في أعماق نفسه في الأقل!.