ناشر الطيب صالح يروي حكاية إصدارات جديدة له ستبصر النور

الأمير ودويهي: رجل الأصالة الذي نهل من الشعر

TT

«خلال أشهر تصدر المجموعة الروائية الكاملة للطيب صالح، وتصبح بين يدي القراء. وبعد أيام قليلة فقط سيصدر الكتاب العاشر من مقالات الطيب صالح التي جُمعت في تسعة كتب لغاية الآن». وستبصر الإصدارات النور بناء على اتفاق بين الطيب صالح وناشره رياض الريس، تم قبل رحيل الكاتب، والريس ماضٍ في الاتفاق. ليس ذلك فحسب، بل إن رسائل رائعة تبادلها الطيب صالح مع أدباء عدة وكذلك مع ناشره رياض الريس موجودة في عهدة الدار، لا بد أن تبصر النور لاحقا. هذا ما أخبرنا به رياض الريس أمس، بعد أن علم بنبأ وفاة الراحل الكبير، مبديا حزنه من رحيل كتّابه واحدهم بعد الآخر. فلم يمض على وفاة محمود درويش أشهر، حتى جاء النبأ الحزين لوفاة الطيب صالح. ونستفسر من رياض الريس عن صاحب فكرة جمع مقالات الطيب صالح، خصوصا وأن الأخير كان رجلا كسولا لا مباليا، لا يُعنى كثيرا بأن تجمع مقالاته أو تضيع، هنا يضحك الريس ويقول: «بالفعل هو كاتب كسول جدا، لكنه كسل جميل، كان يتخفى وراءه ليهرب من الكتابة أو يتقاعس عنها. نحن فقط طلبنا إذنه، وما قاله حينها أنه لا يمانع، لكنه لا يريد أن يتكفل بالبحث والتنقيب وترك لنا هذه المهمة، وهو ما فعلناه. والنتيجة أننا أنقذنا هذه الكتابات التي كانت لتضيع لو أننا لم نجمعها وباتت اليوم بين دفتي عشرة كتب، بعضها أكثر شعبية من رواياته نفسها. وقد كان الطيب صالح سعيدا بها وهو يراها تبصر النور على هذا النحو».

يتحدث الريس عن الطيب صالح بكثير من الحزن، فقد أراد أن يكرمه لمرة ثانية في بيروت، فالتكريم الذي أقيم له منذ ست سنوات أسعده كثيرا، وكان يريد له أن يعود، لكن المرض الذي يقعده منذ سنتين حال دون ذلك. «هذا الرجل هو أحد أعمدة الرواية العربية في الخمسين سنة الماضية»، هكذا يصف الريس الطيب صالح «هو على مستوى محفوظ. هناك جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، وربما لا يزيد عدد هؤلاء الكبار على العشرة». يستذكر الريس أيضا كيف أن أول من شجع الطيب صالح على نشر روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» هو توفيق صايغ، وصدرت في العدد الأول من مجلة حوار. ولا يمكن أن نغمط الطيب صالح دوره الذي لعبه في الصحافة أيضا، وفي العمل الإذاعي عبر الـ«بي بي سي». بكثير من التأثر يتحدث الريس عن الفشل الكلوي الذي أصاب الطيب صالح، وعن معاناته في البحث عن متبرع بكلية، وعن الجلطة الأولى والثانية اللتين أصابتا الأديب، ثم الثالثة التي لم ينجُ منها على ما يبدو، والمتبرع بالكلية الذي اختفى قبل أن يسدي إليه خدمة تساوي عمرا.

أصدقاء الطيب صالح في لبنان ليسوا كثرا، لكن محبيه أكثر من أي يحصوا، الروائية رشا الأمير التي التقته لمرات ثلاث، تتحدث عن قدرة بديعة له في إلقاء الشعر. قرأ على مسمعها المتنبي فطربت: «في القاهرة التقيته، وجمعنا حب المتنبي، فقرأ لي من أبياته، بصوته الجميل الدافئ. صوته كما كتاباته لا مكان فيه للبروتوكولات والتكلف. اليوم أشعر بالأسف لأنني لم أسجل له تلك القراءات. حين يخطب أيضا كان يملأ المكان بصوته الجهوري وقدرته القوية على الإلقاء». وتضيف رشا الأمير: «لو طُلب إليّ أن أختصر هذا الرجل الشديد الراقي بكلمتين لقلت إنه أديب كبير وصوت مدرب ومتمرس، سواء في مخارج الألفاظ أو في الإلقاء». «مشكلة الطيب صالح وسره» كما تقول رشا الأمير «في خجله وخفره. رجل لا يحب الضوء، لا، بل يهرب منه ويتحاشاه. ومن البديع أن الناس كرموه دون أن يطلب أو حتى يبحث عن ذلك، لا، بل كان زاهدا ومتعففا. هذا جيل آخر، غير جيل الأدباء الجديد الذي يستجدي الشهرة ويطاردها، الطيب صالح كانت النجومية هي التي تطارده». وحين نسألها عن سرّ أسلوبه السلس وعربيته المرنة اللدنة، تقول رشا الأمير: «الطيب صالح كان عاشقا للشعر العربي، وهو أحد الروائيين العرب القلة الذين فهموا أن النثر العربي لا يستطيع إلا أن يتغذى بالشعر. صحيح أنه ترك لنا ثلاث تحف صغيرة لا أكثر، لكنها كانت كافية لإسعادنا. فمن ميزاته أيضا أن زهده وتقشفه انعكسا على أسلوبه، ولربما كسله أيضا، فهو يكتب جملته على قد المعنى دون ثرثرة أو إطالة». تتحدث الأمير عن كاتب «راق، ومترفع، عاش حياته بالطول والعرض، بعيدا عن لوثة الضجيج، لذا فمن يستطيع أن لا يحب الطيب صالح؟».

الروائي اللبناني جبور الدويهي يقول: «لعل البعض يلومني لو قلت إنني أحبه أكثر من نجيب محفوظ، لكنني معه أشعر بأنني في مكان رحب وعالم متسع. لقد استطاع الطيب صالح أن يقدم إنجازا لم يقدر عليه غيره، فلقد استطاع تحويل المحلي إلى عالمي. ليس سهلا أنه تمكن من أن يجعل هذه القرية السودانية النائية التي كتب عنها، مكانا يجسّد حالة عالمية وإنسانية فياضة». ما يعجب جبور دويهي في الطيب صالح أيضا إحساسه معه بأنه «رجل أصيل وبلا عقد. أصيل في أسلوبه وسرده، ولا يتعامل بموقف مسبق مع الرواية الغربية. فروايته تتمتع بحرية تشبه تلك التي يتمتع بها هو نفسه في تعاطيه مع ذاته، وكل هذا ينمّ عن ثقة كبيرة في النفس. صحيح أنه مقل، لكن كل ما قرأته له كان يمتعني، فهو أديب يمد يده إلى قارئه».

ولعل أفضل من تكلم عن الطيب صالح هو الطيب صالح نفسه، في مقابلة قديمة مع الزميلة هدى الحسيني تعود إلى السبعينات، يقول فيها شارحا ما يعتلج في نفسه في أثناء الكتابة: «مشكلاتي النفسية مرتبطة بعملية الكتابة فقط، لأنني أغرق في ينبوع داخلي عميق، وهذا الينبوع هو منطقة الفوضى. الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا. وكلما أوغل الكاتب داخل نفسه بحثا عن الضوء، ازدادت الفوضى. ثم تأتي فكرة تستقر خلالها عملية الخلق فيتضح الطريق، وقد يكون خطأ أو صحيحا، المهم في تلك اللحظة هو: الضوء».