يوسف الشاروني : قصصي غير مسبوقة ولا تتكرر في تاريخ الأدب المصري

الحائز جائزة الدولة التقديرية في الآداب هذا العام بمصر: الغرائبية والكابوسية في كتاباتي نابعتان من مفردات الحياة اليومية

TT

لم يكن حصول الأديب المصري يوسف الشاروني على جائزة الدولة التقديرية في الآداب هذا العام مفاجأة للوسط الثقافي المصري، ليس لان هذه الجائزة جاءته متأخرة عدة سنوات، بل لانه وقبل أي شيء أحد أهم كتاب القصة القصيرة في جيل ما بعد يوسف ادريس.

ونشر الشاروني لحد الآن 8 مجموعات قصصية كان آخرها «الضحك حتى البكاء» التي صدرت عن هيئة الكتاب المصرية عام 1997، وله ديوان شعر بعنوان «المساء الأخير» 1963، وأكثر من 26 دراسة نقدية عن الأدب الروائي والقصصي في مصر والعالم العربي، كما ترجمت قصصه الى العديد من اللغات العالمية منها الفرنسية والالمانية والاسبانية والروسية والصينية.

هنا حوار معه عن تجربته القصصية، والاتجاه التجريبي في القصة الذي اشتهر به:

* عندي شعور بالأزمات التي تواجه المجتمع، أستطيع أن أتوقعها، وأكتب عنها في قصصي، ومن ذلك قصة «الزحام» والتي تنبأت فيها بثورة يوليو وتحكي عن ساع يعمل في مكتب حكومي وهو فقير الى الدرجة التي جعلته يرتق حذاءه أكثر من مرة حتى ان آخر مرة ذهب فيها الى الاسكافي أخبره أن حذاءه يجب أن يستبدل بآخر، بعدها يعود الى منزله وعندما يستقر في البيت يشعر بأن حدثاً كبيراً سوف يحدث، حدثاً خطيراً وعظيماً سوف يغير حياته.

نفس الشيء حدث مع نكسة 67 ففي قصة «نظرية الجلدة الفاسدة» حاولت ان أشير الى الاهمال الذي ينخر في المجتمع، وعدم قيام الموظفين بواجبهم، وحصولهم على مكافآت لأعمال لم يقدموها، وقد جعلت بطل القصة يقول في النهاية انه لكي تطلق أي دولة في العالم قمراً صناعياً لا بد ان لا يضيع جردل أو مقشة من مخزن إهمالا أو سرقة، لان المسؤول في المخزن ربما كان أخاً أو أباً أو قريباً لرائد فضاء قد يأتي في المستقبل وما قصدته هو ان أشير الى ضرورة أن تنتظم المجتمع حالة من الاتساق والوعي والنظام تشمل كل قطاعاته دون تفريق بينها في الأهمية.

أما قبل 73 ونصر اكتوبر فقد تنبأت قصة «الأم والوحش» بقدرتنا على تحقيق الانتصار على العدو الاسرائيلي، وفيها تصارع الأم الوحش وتتفوق عليه وتقتله في النهاية دفاعاً عن ابنها.

* هل لهذه البصيرة علاقة بالكابوسية التي تتجلى في قصصك وتشكل أحد ملامح الكتابة البارزة لديك؟

ـ لقد بدأت الكتابة بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل تطورات حضارية هامة أبرزها الزحام الذي ضرب العالم نتيجة زيادة عدد السكان، وتقدم الطب ونقص الوفيات، وقد أدى هذا الى تفشي «اخلاقيات الزحام» في المجتمعات، وهي بالتأكيد تختلف عن اخلاقيات المجتمعات التي يوجد بها عدد قليل من السكان. ثم يأتي تطور مهم آخر هو سرعة المواصلات والتطور التكنولوجي المذهل في مجال الاتصالات والذي أصبح ممكناً من خلاله تلقى أخباراً متضاربة في اللحظة الواحدة، وكان لا بد في هذه الحالة أن أعبر عن هذا التزامن العاطفي والوجداني، وهذا الاختلاط في الحالات الوجدانية بأسلوب يختلف عن أساليب محمود تيمور ومحمود البدوي ويوسف جوهر وغيرهم، وقد تأثرت كتابتي أيضاً بالحركات السريالية التي ظهرت في فرنسا اثناء الحرب العالمية الأولى وانتشرت في مصر إبان الحرب الثانية، وكان شعارها تقديم أعمال شكلية ورسوم تهتم بتحطيم الحدود وقواعد المنظور، وقد شرحت هذا بالتفصيل في كتاب اهتم بهذا الموضوع عنوانه «التجريد واللامعقول في أدبنا المصري المعاصر»، وقد نشرت فصولا منه في مجلة «المجلة» عام 1964 و1965. هناك شيء آخر اعتقد انه يقف خلف هذه الكتابة الكابوسية والمأساوية وهو احتلال فلسطين أو نكبة فلسطين وهزيمة الجيوش العربية في الأرض المحتلة واعلان دولة إسرائيل، وقد ظللت لفترة طويلة أعتقد ان ما حدث في فلسطين يمكن أن يتكرر، كما جعلني هذا أدرك أن ما بيننا وبين الغرب ليس أزمة اجتماعية فقط لكنه أزمة حضارية.

ومع ذلك اعتقد أنني لم أكتب فقط القصة الكابوسية لكنني قدمت أيضاً قصصاً كونية مثل قصة «نشرة أخبار» التي تدور في إحدى حارات القاهرة حيث ينهار أحد المنازل أثناء احتفال إحدى الأسر بزفاف ابنتها في الوقت الذي تقام فيه مراسم عزاء في الطابق الأسفل من نفس المنزل، وعند ذلك يسقط الفرحون على الحزانى بينما يترامى من مقهى مجاور صوت المذيع في الراديو يعلن نبأ وصول الانسان الى القمر، من هنا اعتقد ان كل هذا يعتبر خلفية لأسلوبي الذي لا أدعي انني اخترته، لكنه هو الذي اختارني.

* ما الذي دفعك الى الإتكاء على المألوف في الكتابة القصصية رغم جنوح الكثيرين ممن سبقوك لكتابة الاحداث العجيبة لجذب انتباه المشاهد؟

ـ اعتقد ان الغرائبية هنا وكما أراها في كتاباتي أنا هي اتكائي على الأحداث العادية المألوفة عندما يتجه غيري الى كتابة غير المألوف، وأنا أجد في هذه الاحداث المألوفة مواقف مشحونة بالرمز تجعل للقصة مستويين أحدهما يجذب القارىء العادي والآخر يمتع الناقد والمبدع المتخصصين العارفين بعوالم الإبداع وخفاياها.

* اتهمك بعض النقاد بأن بعض القصص لديك تستوحي عوالم وشخوص قصص أخرى لأدباء سابقين؟

ـ المبدع يستوحي أكثر من مصدر مثل خبر يقرأه في صحيفة أو تجربة مر بها هو أو أحد معارفه، أما أنا فقد كنت أجلس مع السيدات الثرثارات لاستوحي منهن موضوعات قصص، وربما استفيد في كتابة القصة من طريقتهن في الحكي وأسلوبهن، وقد تستفيد القصة عندي من أعمال أدبية سابقة، حدث ذلك عندما استخدمت شخصيتي «عباس الحلو» و«زيطة» في كتابة قصتين سميت الأولى «مصرع عباس الحلو» والثانية زيطة صانع العاهات، وقد أخذت هاتين الشخصيتين من رواية نجيب محفوظ وأضفت لهما أبعاداً جديدة ضمن السياق القصصي المختلف عن سياق الرواية عند محفوظ.

وأنا في هذا لم أفعل شيئاً جديداً على الواقع الأدبي، فما قمت به يعتبر شيئاً مألوفاً ومعروفاً منذ القديم حيث استوحى أكثر من أديب شخصيات سبق صياغتها في أعمال أدبية من قبل مثل كليوباترا وأوديب، وقد انتشر هذا التكنيك فيما عرف منذ عقود قليلة بـ«التناص».

والأمر لم يتوقف عندي في قضية التناص هذه عند حدود محفوظ، لكني قدمت تناصاً مع جون بنيان عندما كتبت قصة «سياحة البطل» التي استوحيت فيها تكنيك الرحلة في قصة «سياحة المؤمن» التي كتبها في سجنه في القرن السابع عشر وتحكي عن ما يتعرض له المؤمن من تغيرات ومعوقات في سبيل وصوله الى المدينة السماوية، وقد استوحيت هذه القصة وصورت من خلال عالمها الرحلة التي يقوم بها الانسان العادي من أجل الوصول الى الحب والعمل والسكن. وقد تطور التناص عندي الى حد التناص مع ذاتي وهو ما قدمته في آخر قصة لي بعنوان «الضحك حتى البكاء» التي يحكي فيها البطل تاريخه المستمد من قصتي أنا الكاتب والأديب.

* هناك أيضاً من اتهموا قصصك بأنها تخلو من الحدث وان المحرك الأساسي لخط سيرها يكون من خلال وصف نتائجه مما يوقف الحركة الزمنية داخلها؟

ـ هذا رأي النقاد، ولكن الاحساس الذي أعطاه لي المناخ الأدبي انها قصص غير مسبوقة، ولا تتكرر أيضاً في تاريخ الأدب المصري، وأنا عندي مقياس بسيط للقصة الجيدة هو أن تكون قادرة على جذب القارىء لمتابعتها، حتى لو كانت قصة بوليسية، بعد ذلك يأتي دور الحكم عليها، وأنا أكتب قصة تحليلية . فهل التحليل فيها يعوق عملية التشويق، هل يخرجها من الطابع القصصي،؟اعتقد ان التحليل عندي ميزة تضيف للقصة ولا تنقض منها، ولواني لا أدافع عن قصصي، وأتركها تدافع عن نفسها.

* لكن ما الذي دعاك إذن الى الاعتماد على تكنيك التناص في كتاباتك؟

ـ في التناص تكون عملية الامتاع ان تقرأ نصاً جديداً وتكون عينك في ذلك على نص مشابه سابق، وفي هذه الحالة يتابع القارىء وهو يقرأ نصه الجديد ما احتفظ به من القديم وما أضاف له. في قصصي يمكنك وأنت تقرأها أن ترى رؤية جديدة مختلفة وهذا ما يظهر في قصة «مصرع عباس الحلو» و«زيطة صانع العاهات»، وهذان الشخصيتان عندما جلبتهما من «زقاق المدق» اصبح كل منهما بمفرده محوراً لقضية من القضايا نتجت من اختلاف زاوية الرؤية عندي عنها في رواية محفوظ، وقد خرجت مثلا من قصة «مصرع عباس الحلو» بأن العالم كله مسؤول عن مصرعه بما فيهم أقرب الناس إليه، وفي «زيطة صانع العاهات» طالبت باقامة تمثال له على رأس زقاق المدق لانه يصنع التشوه ليتكسب الفقراء عيشهم، بينما العالم غير السوي يقيم تماثيل لجنرالات صنعوا التشوه على نطاق واسع ليزحموا العالم بالمعاقين.

* لجأت في بعض قصصك الي تصوير كيانات قبيحة ماذا وراء ذلك؟

ـ خلفية هذا الموضوع من الكتابة هو أن أكون من ناحية شاهداً على العصر، وتكون القصة نوعاً من الاحتجاج على وضعنا الحضاري المتخلف الذي يفرز مثل هذا اللون من الكيانات ويبرر انتاجه، وهذا الاحتجاج ظهر واضحاً في قصة «ضيق الخلق والمثانة» والتي حاولت فيها القول ان حرية التبول تقارب حرية التعبير وأن إزالة دورات المياه العمومية لن يزيد المدن العربية جمالا بل على العكس سيؤدي الى انتشار القبح في كل مكان. وفي قصصي من ذلك أمثلة كثيرة كتبتها احتجاجاً على أوضاع معينة أتمنى أن تتغير، كما أقوم حالياً بكتابة قصص بنفس الطريقة الاحتجاجية على الواقع والوضع العربي الراهن، واعتبر نفسي بهذه القصص شاهداً على العصر.

=