فيل وفيلة

خالد القشطيني

TT

تنشر دار الحكمة بلندن مجموعة جديدة من القصص الفكاهية لخالد القشطيني بعنوان «ما يقال وما يقول».

وننشر هنا قصة «فيل وفيلة» من المجموعة.

«يا ابو نائل يا حبيبي وصديق العمر أختك زوجتي مريضة في لندن وما عندنا غيرك يرعاها و.. و..».

سطر من رسالة، ورسالة من رسالات طالما تسلمتها من الأهل والأصحاب طوال هذه السنوات غير الضائعة في لندن. كلهم أصحاب واخوان وأهل تجمعهم بي، طبعاً وبالتأكيد، أواصر الحاجة، حاجتهم هم. صديق العمر إياه لم تتجاوز معرفتي به غير يومين قضيناهما في ندوة فكرية في تونس في الماضي غير المنسي مع الأسف.

كانت أختي هذه على درجة من السمنة، حيث بعثوها على نفقة الدولة لتخفض وزنها في لندن بعد أن أكلت وزوجها كل ما في الدولة من خيرات. لو كانت اختي حقاً وحقيقة، لدسست السم في طعامها وأنقذتها من حياتها، لكنها لحسن الحظ كانت أختي مجازاً وادعاء. أخذتها إلى الطبيب، طبيبي الدكتور كوردن، فأشار إلى ضرورة فحص قلبها أولا في مستشفى لندن كلنك. رتب لها الموعد وجلست ابحث معها كيفية الالتقاء في ذلك المستشفى لاصطحابها إلى البروفسور المختص. قلت لها سأنتظرك عند باب المستشفى، ما عليك غير أن تأخذي الباص رقم 74 من الموقف المجاور لفندقك في حي كنسكتن. قولي للجابي كلمة واحدة «زو»، وهو يعرف أين تريدين ان تنزلي فيأخذ الأجرة ويعطيك التذكرة وينادي عليك عندما تصلين الى الموقف المطلوب، ستجدين بناية المستشفى أمامك وأنا أمامها.

المقصود بالزو طبعاً، هو حديقة الحيوانات الشهيرة في لندن، التي شاءت الاقدار ان تكون على مقربة من هذا المستشفى. فعلت السيدة الفاضلة كل ذلك وأثارت فضول كل ركاب الباص بصياحها طوال السفرة: زو.. زو.. زو.. فهم الجميع منها انها تريد حديقة الحيوانات. نزل احدهم معها وعبرها الشارع ووضعها أمام الممر المؤدي إلى الزو. وأشار بيده باتجاهها وقال لها زو. هزت رأسها بالإيجاب والشكر «زو! زو!». ومشت بالمائة والعشرين كيلوغرام من جسمها، لم تجدني طبعاً أمام الباب فشتمتني ورددت مع نفسها: «عرب يعيشون خمسين سنة في أوروبا ويبقون عرب، لا مواعيد عندهم ولا احترام للوقت ولا يصيرون أوادم»، لكنها وجدت بائع التذاكر أمامها، أخذ منها خمسة باوندات وأعطاها التذكرة وفتح لها الباب.

«الله يزيد الرخص! خمسة باوندات أجرة أكبر اختصاصي في القلب، وأولاد الكلب في بلادنا، أكبر حمير في الدنيا، ويأخذون أربعين ديناراً على دقيقتين فحص! الله يقطعهم، يروحون فدوة لقندرة الإنكليز».

قالت ودخلت فواجهت فيلا هائلا يجره أحد مستخدمي الزو، تمعنت في عضلاته الضخمة وطيات الشحم واللحم المتدلية من أطرافه وبطنه واوداجه، ثم نظرت إلى نفسها وتأملت في ما عليها من الطيات والانتفاخات والتكدسات المترهلة. اكتسحتها موجة من الكآبة، «الحق علي، اخلي نفسي حالها وحال هذا الفيل، يأخذوني يخسسوني وياه».

قالت وهي تجرجر بنفسها وكتلتها وراء الفيل اعتقادا منها بأنهم يأخذونه إلى نفس العيادة. نظر الفيل ايضا نحوها فتقطبت عيناه، وانكمش وجهه. خطرت له فكرة، إذا كانت هذه ايضا من فصيلتي، فلماذا لا يجرونها بالحبل مثلي؟! ادار وجهه حانقاً، ما من عدالة ترتجى من بني البشر. واصل سيره وراء سيده وواصلت المرأة سيرها وراء الفيل.

بيد أن أختي الفاضلة كانت عندئذ قد وصلت الى اقفاص القردة والدببة والغوريلا والحمار الوحشي في ضجيجهم وصراخهم وعراكهم. تسمرت في مكانها، احمر وازرق وجهها غضباً.

«الكفرة الانكليز المستعمرين! للآن يعتبرونا وحوش! يعاملونا مثل الحيوانات، يدزوني لمستشفى بيطري حتى يداووني ويا الشوادي والحمير!».

ولكنها كتبة الله، وما العمل؟ تعددت الأبواب والمداخل والمخارج أمامها فتحيرت أي طريق تسلك، نظرت في وجه أحد مستخدمي حديقة الحيوانات والعرق يتصبب من جبينها والاعياء باد على محياها. وهتفت به بكلمة واحدة من الكلمات القليلة التي عرفتها من اللغة الانكليزية: «بليس، بليس..»، وأشارت إلى قلبها. كانت تسأله عن البروفسور المختص بأمراض القلب وموعدها معه. هذا ما كانت تقصده من اشارتها، اما ما فهمه هو منها فإنها كانت تقول له بأنها تعاني من نوبة قلبية وتحتاج إلى عناية سريعة. هرع إلى أقرب عربة لنقل القردة. دفعها في القفص وراح يجري بها إلى جناح اسعافات الطوارئ، المجاور لأقفاص الأسود والحيوانات المفترسة.

كانت هناك ممرضة في العيادة تتغازل مع الطبيب البيطار المتيم في حبها والمسؤول عن صحة الحيوانات ذوات الحوافر في الزو. اراد ان يستعرض امام حبيبته مهارته الطبية حتى في معالجة البشر من فصيلة عديمي الحوافر، فبادر مع المستخدم الكريم إلى حمل السيدة الفاضلة وفرشها على سرير المعاينة. التقط السماعة وراح ينصت لدقات قلبها ويجس نبضها ويضغط على بطنها، حتى تأكد من سلامة كل شيء، لكنه لاحظ بدون شك هذا الافراط في الوزن. فتناول الدفتر وكتب لها وصفة طبية بسيطة لدواء يقطع الشهية ويخفض الوزن. وعلى ورقة اخرى كتب لها ارشادات في ما ينبغي ان تقتصر عليه من الأطعمة أو تتحاشاه منها، ثم ربت على كتفها الضخم، مبتسماً مداعباً، وتمنى لها كل الخير، ودعها وعاد لمغازلة حبيبة قلبه، فخوراً بما فعله.

خرجت من عيادة الطوارئ مروراً بنفس القردة والغوريلا والدببة والحمار الوحشي وما زالت على ضجيجها وعويلها في اقفاصها الحديدية.

«يعني لازم اعترف لهم. الانكليز ناس اوادم، الحق يقال، يعني قدموني على كل هالحيوانات وفحصوني بالأول».

ظلت السيدة الفاضلة حانقة علي، كلما التقت بأحد من أبناء جلدتها كلمته عني. هذا اللي يسمونه خالد القشطيني حيوان من الدرجة الأولى، ولا يفرق عن الحمير والشوادي، خمسين سنة في لندن وما تعلم اصول من الانكليز. لم تتصل بي والحمد لله، لكنها واظبت على وصفة الطبيب البيطار وفقدت فعلا ما لا يقل عن ثلاثين كيلوغراما في اسابيع قليلة. عادت إلى زوجها وذويها فرحة بإنجازها. وراحت توزع الوصفة البيطرية على كل النساء من شاكلتها. ظلت لسنوات تبادر بحماس، وكلما التقت بمريض يحتاج إلى معالجة في الخارج، مرض سرطان يا ساتر أو قلب او جلطة او شلل تقول لهم:

«اخذوا نصيحتي، لا تروحون لأي مكان ولا تضيعون فلوسكم، احسن مكان الكم روحوا لمستشفى الزو، خمسة باوندات وترجعون مثل الوردة».